القصص

سورة القصص

مكية آياتها ثمان وثمانون (بسم الله الرحمن الرحيم طسم تلك آيات الكتاب المبين) ثم خاطب الله نبيه صلى الله عليه وآله فقال: (نتلوا عليك - يا محمد - من نبأ موسى وفرعون - إلى قوله - انه كان من المفسدين) فأخبر الله نبيه بما لقي موسى وأصحابه من فرعون من القتل والظلم ليكون تعزية له فيما يصيبه في أهل بيته من أمته ثم بشره بعد تعزيته انه يتفضل عليهم بعد ذلك ويجعلهم خلفاء في الأرض وأئمة على أمته ويردهم إلى الدنيا مع أعدائهم حتى ينتصفوا منهم فقال: (ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما) وهم الذين غصبوا آل محمد حقهم وقوله (منهم) اي من آل محمد (ما كانوا يحذرون) اي من القتل والعذاب ولو كانت هذه الآية نزلت في موسى وفرعون لقال ونري فرعون وهامان وجنودهما منه ما كانوا يحذرون اي من موسى ولم يقل منهم فلما تقدم قوله " ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " علمنا أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وما وعد الله به رسوله فإنما يكون بعده والأئمة يكونون من ولده وإنما ضرب الله هذا المثل لهم في موسى وبني إسرائيل وفي أعدائهم بفرعون وهامان وجنودهما فقال: إن فرعون قتل بني إسرائيل وظلم من ظلمهم فأظفر الله موسى بفرعون وأصحابه حتى أهلكهم الله وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله أصابهم من أعدائهم القتل والغصب ثم يردهم الله ويرد أعداءهم إلى الدنيا حتى يقتلوهم.

وقد ضرب أمير المؤمنين عليه السلام مثلا مثل ما ضربه الله لهم في أعدائهم بفرعون وهامان فقال: " يا أيها الناس أول من بغى على الله عز وجل على وجه الأرض عناق بنت آدم عليه السلام خلق الله لها عشرين إصبعا لكل إصبع منها ظفران طويلان كالمخلبين العظيمين وكان مجلسها في الأرض موضع جريب، فلما بغت بعث الله لها أسدا كالفيل وذئبا كالبعير ونسرا كالحمار وكان ذلك في الخلق الأول، فسلطهم الله عليها فقتلوها، ألا وقد قتل الله فرعون وهامان وخسف الله بقارون " وإنما هذا مثل لأعدائه الذين غصبوا حقه فأهلكهم الله، ثم قال علي عليه السلام على أثر هذا المثل الذي ضربه: " وقد كان لي حق حازه دوني من لم يكن له ولم أكن أشركه فيه ولا توبة له إلا بكتاب منزل وبرسول مرسل وانى له بالرسالة بعد رسول الله (النبي محمد خ ل× صلى الله عليه وآله ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله " (1) وكذلك مثل القائم عليه السلام في غيبته وهربه واستناره مثل موسى عليه السلام خائف مستتر إلى أن يأذن الله في خروجه وطلب حقه وقتل أعدائه في قوله: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق " وقد ضرب الحسين بن علي عليهما السلام مثلا في بني إسرائيل بذلتهم من أعدائهم، حدثني أبي عن النضر ابن سويد عن عاصم بن حميد عن أبي عبد الله عليه السلام قال لقى المنهال بن عمرو علي بن الحسين ابن علي عليهم السلام فقال له كيف أصبحت يا بن رسول الله؟

قال: ويحك اما آن لك ان تعلم كيف أصبحت؟

أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا وأصبح خير البرية بعد محمد يلعن على المنابر، وأصبح عدونا يعطى المال والشرف، وأصبح من يحبنا محقورا منقوصا حقه، وكذلك لم يزل المؤمنون وأصبحت العجم تعرف للعرب حقها بأن محمدا كان منها وأصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمدا كان منها، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقها بأن محمدا كان منها وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمدا كان منها وأصبحنا أهل البيت لا يعرف لنا حق فهكذا أصبحنا يا منهال.

واما قوله: (وأوحينا إلى أم موسى ان ارضعيه فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) فإنه حدثني أبي عن الحسين (الحسن ط×بن محبوب عن العلا بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن موسى لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعه وكان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساءا من القبط يحفظهن، وذلك أنه كان لما بلغه عن بني إسرائيل انهم يقولون إنه يولد فينا رجل يقال له موسى بن عمران يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، وفرق بين الرجال والنساء وحبس الرجال في المحابس، فلما وضعت أم موسى بموسى عليه السلام نظرت إليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت يذبح الساعة، فعطف الله بقلب الموكلة بها عليه فقالت لام موسى: ما لك قد اصفر لونك؟

فقالت: أخاف ان يذبح ولدي فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه، وهو قول الله: " وألقيت عليك محبة مني " فأحبته القبطية الموكلة به وأنزل الله على موسى التابوت ونوديت أمه " ضعيه في التابوت فاقذفيه في اليم " وهو البحر (ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) فوضعته في التابوت وأطبقت عليه وألقته في النيل.

وكان لفرعون قصر على شط النيل منتزها، فنظر من قصره ومعه آسية امرأته فنظر إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج والرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون، فأمر فرعون بأخذه فأخذ التابوت ورفع إليه فلما فتحه وجد فيه صبيا، فقال: هذا إسرائيلي وألقى الله في قلب فرعون لموسى محبة شديدة، وكذلك في قلب آسية وأراد فرعون ان يقتله فقالت آسية لا تقتله (عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون) انه موسى، ولم يكن لفرعون ولد فقال إئتوا ظئرا تربيه فجاؤوا بعدة نساء قد قتل أولادهن فلم يشرب لبن أحد من النساء وهو قول الله (وحرمنا عليه المراضع من قبل) وبلغ أمه ان فرعون قد اخذه فحزنت وبكت كما قال الله (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) يعني كادت ان تخبر بخبره أو تموت ثم ضبطت نفسها فكان كما قال الله عز وجل (لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته) اي لأخت موسى (قصيه) اي اتبعيه فجاءت أخته إليه (فبصرت به عن جنب) اي عن بعد (وهم لا يشعرون) فلما لم يقبل موسى ثدي أحد من النساء اغتم فرعون غما شديدا فقالت أخته (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) فقال: نعم فجاءت بأمه فلما اخذته في حجرها وألقمته ثديها التقمه وشرب ففرح فرعون وأهله أكرموا أمه، فقالوا لها ربيه لنا فانا نفعل بك ما نفعل وذلك قول الله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم ان وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) وكان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل كلما يلدون ويربي موسى ويكرمه ولا يعلم أن هلاكه على يده، فلما درج موسى كان يوما عند فرعون فعطس موسى فقال الحمد لله رب العالمين، فأنكر فرعون عليه وتطمه وقال ما هذا الذي تقول؟

فوثب موسى على لحيته وكان طويل اللحية فهلبها اي قلعها فألمه ألما شديدا بلطمته إياه فهم فرعون بقتله فقالت امرأته هذا غلام حدث لا يدري ما يقول، فقال فرعون بل يدري، فقالت امرأته ضع بين يديه تمرا وجمرا فان ميز بينهما فهو الذي تقول فوضع بين يديه تمر وجمر وقال له كل فمد يده إلى التمر فجاء جبرئيل فصرفها إلى الجمر فأخذ الجمر في فيه فاحترق لسانه وصاح وبكى فقالت آسية لفرعون ألم أقل لك انه لا يعقل فعفا عنه.

فقلت لأبي جعفر عليه السلام: فكم مكث موسى غائبا عن أمه حتى رده الله عليها؟

قال: ثلاثة أيام فقلت كان هارون أخا موسى لأبيه وأمه؟

قال: نعم اما تسمع الله تعالى يقول: (يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) فقلت فأيهما كان أكبر سنا؟

قال: هارون قلت: فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟

قال: الوحي ينزل على موسى وموسى يوحيه إلى هارون فقلت له: أخبرني عن الاحكام والقضاء والأمر والنهي أكان ذلك اليهما، قال كان موسى الذي يناجي ربه ويكتب (هارون ط×العلم ويقضي بين بني إسرائيل، وهارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة، قلت: فأيهما مات قبل صاحبه؟

قال هارون قبل موسى عليه السلام وماتا جميعا في التيه، قلت فكان لموسى ولد، قال لا كان الولد لهارون والذرية له.

قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال وكان ينكر عليه ما يتكلم به موسى من التوحيد حتى هم به، فخرج موسى من عنده ودخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى والآخر يقول بقول فرعون (فاستغاثه الذي من شيعته) فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضي عليه وتوارى في المدينة فلما كان من الغد جاء آخر فتشبث بذلك الرجل الذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلما نظر صاحبه إلى موسى قال له: (أتريد ان تقتلني كما قلت نفسا بالأمس) فخلى عن صاحبه وهرب وكان خازن فرعون مؤمنا بموسى قد كتم إيمانه ستمائة سنة وهو الذي قال الله: " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا ان يقول ربي الله " وبلغ فرعون خبر قتل موسى الرجل فطلبه ليقتله فبعث المؤمن إلى موسى (ان الملا يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج اني لك من الناصحين فخرج منها) كما حكى الله (خائفا يترقب) قال يلتفت عن يمنة ويسرة ويقول (رب نجني من القوم الظالمين) ومر نحو مدين وكان بينه وبين مدين مسيره ثلاثة أيام فلما بلغ باب مدين رأى بئرا يستقي الناس منها لأغنامهم ودوابهم فقعد ناحية ولم يكن اكل منذ ثلاث أيام شيئا، فنظر إلى جاريتين في ناحية ومعهما غنيمات لا تدنوان من البئر، فقال لهما مالكما لا تستقيان قالتا كما حكى الله (لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) فرحمهما موسى ودنا من البئر فقال لمن على البئر استقي لي دلوا ولكم دلوا وكان الدلو يمده عشرة رجال، فاستقى وحده دلوا لمن على البئر ودلوا لبنتي شعيب وسقى أغنامهما (ثم تولى إلى الظل فقال رب اني لما أنزلت إلي من خير فقير) وكان شديد الجوع.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن موسى كليم الله حيث سقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب اني لما أنزلت إلي من خير فقير والله ما سأل الله إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض ولقد رأوا خضرة البقل في صفاق بطنه (2) من هزاله فلما رجعتا ابنتا شعيب إلى شعيب قال لهما أسرعتما الرجوع فأخبرتاه بقصة موسى عليه السلام ولم تعرفاه فقال شعيب لواحدة منهن اذهبي إليه فادعيه لنجزيه اجر ما سقى لنا فجاءت إليه كما حكى الله تعالى (تمشي على استحياء) فقالت (ان أبي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا) فقام موسى معها ومشيت أمامه فسفقتها الرياح فبان عجزها (3) فقال لها موسى تأخري ودليني على الطريق بحصاة تلقيها أمامي أتبعها فأنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء فلما دخل على شعيب قص عليه قصته فقال له شعيب (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) قالت إحدى بنات شعيب (يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوي الأمين) فقال لها شعيب اما قوته فقد عرفتيه انه يستقي الدلو وحده فبم عرفت أمانته؟

فقالت إنه لما قال لي تأخري عني ودليني على الطريق فأنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت انه ليس من القوم الذين ينظرون اعجاز النساء فهذه أمانته، فقال له شعيب (اني أريد ان أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فان أتممت عشرا فمن عندك وما أريد ان أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين) فقال له موسى (ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي) اي لا سبيل علي إن عملت عشر سنين أو ثمان سنين فقال موسى (والله على ما نقول وكيل) قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: اي الأجلين قضى؟

قال أتمها عشر حجج قلت له فدخل بها قبل ان يقضي الأجل أو بعده؟

قال: قبل قلت فالرجل يتزوج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين أيجوز ذلك؟

قال إن موسى علم أنه يتم له شرطه فكيف لهذا ان يعلم أنه يبقى حتى يفي؟

قلت له جعلت فداك أيتهما زوجه شعيب من بناته؟

قال: التي ذهبت إليه فدعته وقالت لأبيها يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوي الأمين فلما قضى موسى الأجل قال لشعيب لابد لي ان ارجع إلى وطني وأمي وأهل بيتي فمالي عندك؟

فقال شعيب: ما وضعت أغنامي في هذه السنة من غنم بلق فهو لك، فعمد موسى عندما أراد ان يرسل الفحل على الغنم إلى عصا فقشر منه بعضه وترك بعضه وغرزه في وسط مربض الغنم وألقى عليه كساء أبلق ثم ارسل الفحل على الغنم فلم تضع الغنم في تلك السنة إلا بلقا، فلما حال عليه الحول حمل موسى امرأته وزوده شعيب من عنده وساق غنمه فلما أراد الخروج قال لشعيب أبغي عصا تكون معي وكانت عصي الأنبياء عنده قد ورثها مجموعة في بيت، فقال له شعيب ادخل هذا البيت وخذ عصا من بين العصي فدخل فوثب إليه عصا نوح وإبراهيم عليهما السلام وصارت في كفه فأخرجها ونظر إليها شعيب فقال ردها وخذ غيرها فردها ليأخذ غيرها فوثبت إليه تلك بعينها فردها حتى فعل ذلك ثلاث مرات فلما رأى شعيب ذلك قال له اذهب فقد خصك الله بها، فساق غنمه فخرج يريد مصر فلما صار في مفازة ومعه أهله أصابهم برد شديد وريح وظلمة وجنهم الليل، فنظر موسى إلى نار قد ظهرت كما قال الله: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) فأقبل نحو النار يقتبس فإذا شجرة ونار تلتهب عليها، فلما ذهب نحو النار يقتبس منها أهوت إليه ففزع منها وعدا ورجعت النار إلى الشجرة، فالتفت إليها وقد رجعت إلى الشجرة فرجع الثانية ليقتبس فأهوت إليه فعدا وتركها ثم التفت إليها وقد رجعت إلى الشجرة فرجع إليها الثالثة فأهوت إليه فعدا (ولم يعقب) اي لم يرجع فناداه الله (ان يا موسى اني أنا الله رب العالمين) قال موسى فما الدليل على ذلك قال الله: ما في يمينك يا موسى قال هي عصاي قال ألقها يا موسى فألقاها فصارت حية تسعى ففزع منها موسى وعدا فناداه الله خذها و (لا تخف انك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) اي من غير علة وذلك أن موسى عليه السلام كان شديد السمرة فأخرج يده من جيبه فأضاءت له الدنيا فقال الله عز وجل (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه انهم كانوا قوما فاسقين) فقال موسى كما حكى الله عز وجل: (رب اني قتلت منهم نفسا فأخاف ان يقتلون).

واما قوله: (وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي اطلع إلى إله موسى واني لأظنه من الكاذبين) قال فبنى هامان له في الهواء صرحا حتى بلغ مكانا في الهواء لا يتمكن الانسان ان يقوم عليه من الرياح القائمة في الهواء فقال لفرعون: لا نقدر ان نزيد على هذا فبعث الله رياحا فرمت به، فاتخذ فرعون وهامان عند ذلك التابوت وعمدا إلى أربعة أنسر فأخذا أفراخها وربياها حتى إذا بلغت القوة وكبرت عمدا إلى جوانب التابوت الأربعة فغرسا في كل جانب من خشبة وجعلا على رأس كل خشبة لحما وجوعا الانسر وشدا أرجلها بأصل الخشبة فنظرت الانسر إلى اللحم فأهوت إليه بأجنحتها وارتفعت بهما في الهواء وأقبلت تطير يومها فقال فرعون لهامان انظر إلى السماء هل بلغناها فنظر هامان فقال أرى السماء كما كنت أراها من الأرض في البعد، فقال انظر إلى الأرض فقال لا أرى الأرض ولكن أرى البحار والماء قال فلم تزل النسر ترتفع حتى غابت الشمس وغابت عنهم البحار والماء، فقال فرعون يا هامان انظر إلى السماء فنظر فقال أراها كما كنت أراها من الأرض فلما جنهم الليل نظر هامان إلى السماء فقال فرعون هل بلغناها؟

فقال أرى الكواكب كما كنت أراها من الأرض ولست أرى من الأرض إلا الظلمة قال ثم حالت الرياح القائمة في الهواء بينهما فأقبلت التابوت بهما فلم يزل يهوي بهما حتى وقع على الأرض فكان فرعون أشد ما كان عتوا في ذلك الوقت ثم قال الله (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيمة لا ينصرون).

ثم خاطب الله نبيه صلى الله عليه وآله فقال: (وما كنت بجانب الغربي - يا محمد - إذ قضينا إلى موسى الامر) اي أعلمناه (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) يعني موسى عليه السلام وقوله: (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر) اي طالت أعمارهم فعصوا وقوله: (وما كنت ثاويا في أهل مدين) اي باقيا وقوله: (ساحران تظاهرا) (4) قال موسى وهارون وقوله: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) اي كي يتذكروا، أخبرنا أحمد بن إدريس عن أحمد بن محمد عن معاوية بن حكيم عن أحمد بن محمد عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله " ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون " قال: إمام بعد إمام.

وقال علي بن إبراهيم في قوله: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) قال الأئمة عليهم السلام، وقال الصادق عليه السلام نحن صبرنا وشيعتنا أصبر منا وذلك إنا صبرنا على ما نعلم وهم صبروا على ما لا يعلمون وقوله: (ويدرؤن بالحسنة السيئة) اي يدفعون سيئة من أساء إليهم بحسناتهم (ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه) قال اللغو الكذب واللهو الغناء وهم الأئمة عليهم السلام يعرضون عن ذلك كله، واما قوله: (انك لا تهدي من أحببت) قال نزلت في أبي طالب عليه السلام فان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول يا عم قل لا إله إلا الله بالجهر نفعك بها يوم القيامة فيقول: يا بن أخي أنا أعلم بنفسي، (وأقول بنفسي ط×فلما مات شهد العباس بن عبد المطلب عند رسول الله صلى الله عليه وآله انه تكلم بها عند الموت بأعلى صوته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اما انا فلم اسمعها منه وأرجو ان تنفعه يوم القيامة، وقال صلى الله عليه وآله: لو قمت المقام المحمود لشفعت في أبي وأمي وعمي وأخ كان لي مواخيا في الجاهلية (5) وقوله: (وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) قال نزلت في قريش حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الاسلام والهجرة وقالوا " ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا " فقال الله عز وجل: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) وقوله: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) اي كفرت (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا) وقوله: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) يعني الذين قالوا هم شركاء الله (قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) يعني ما عبدوا وهي عبادة الطاعة (وقيل ادعوا شركاءكم) الذين كنتم تدعونهم شركاءا (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) وقوله: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) فان العامة رووا ان ذلك في القيامة واما الخاصة فإنه حدثني أبي عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن عبد الحميد الطائي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن العبد إذا دخل قبره جاءه منكر فزع منه يسأل عن النبي صلى الله عليه وآله فيقول له ماذا تقول في هذا الرجل الذي كان بين أظهركم؟

فإن كان مؤمنا قال: " أشهد انه رسول الله جاء بالحق " فيقال له ارقد رقدة لا حلم فيها ويتنحى عنه الشيطان ويفسخ له في قبره سبعة اذرع ورأي مكانه في الجنة، قال وإذا كان كافرا قال ما أدري، فيضرب ضربة يسمعها كل من خلق الله إلا الانسان ويسلط عليه الشيطان وله عينان من نحاس أو نار يلمعان كالبرق الخاطف فيقول له أنا أخوك ويسلط عليه الحيات والعقارب ويظلم عليه قبره ثم يضغطه ضغطة تختلف أضلاعه عليه ثم نال بأصابعه (6) فشرجها وقوله: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة قال يختار الله الامام وليس لهم ان يختاروا ثم قال (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) قال ما عزموا عليه من الاختيار وأخبر الله نبيه عليه السلام قبل ذلك وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: (ونزعنا من كل أمة شهيدا) يقول من كل فرقة من هذه الأمة إمامها (فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا ان الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون).

وقال علي بن إبراهيم في قوله (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) والعصبة ما بين العشرة إلى تسعة عشر قال كان يحمل مفاتح خزائنه العصبة أولوا القوة، فقال قارون كما حكى الله (إنما أوتيته على علم عندي) يعني ماله وكان يعمل الكيميا فقال الله: (أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون) اي لا يسأل من كان قبلهم عن ذنوب هؤلاء (فخرج على قومه في زينته) قال في الثياب المصبغات يجرها في الأرض (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون انه لذو حظ عظيم) فقال لهم الخلص من أصحاب موسى (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله) قال: هي لفظة سريانية (يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون).

وكان سبب هلاك قارون انه لما اخرج موسى بني إسرائيل من مصر وأنزلهم البادية أنزل الله عليهم المن والسلوى وانفجر لهم من الحجر اثنتا عشرة عينا بطروا وقالوا لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض ومن بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال لهم موسى أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم فقالوا كما حكى الله ان فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، ثم قالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ففرض الله عليهم دخولها وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فكانوا يقومون من أول الليل ويأخذون في قراءة التوراة والدعاء والبكاء وكان قارون منهم وكان يقرأ التوراة ولم يكن فيهم أحسن صوتا منه وكان يسمى المنون لحسن قراءته وقد كان يعمل الكيميا، فلما طال الامر على بني إسرائيل في التيه والتوبة وكان قارون قد امتنع من الدخول معهم في التوبة وكان موسى يحبه فدخل عليه موسى، فقال يا قارون قومك في التوبة وأنت قاعد هاهنا ادخل معهم وإلا نزل بك العذاب، فاستهان به واستهزأ بقوله فخرج موسى من عنده مغتما فجلس في فناء قصره وعليه جبة شعر ونعلان من جلد حمار شراكهما من خيوط شعر بيده العصا، فامر قارون ان يصب عليه رمادا قد خلط بالماء، فصب عليه فغضب موسى غضبا شديدا وكان في كتفه شعرات كان إذا غضب خرجت من ثيابه وقطر منها الدم، فقال موسى يا رب إن لم تغضب لي فلست لك بنبي، فأوحى الله إليه قد أمرت السماوات والأرض إن تطيعك فمرها بما شئت وقد كان قارون قد أمر أن يغلق باب القصر، فاقبل موسى فأومأ إلى الأبواب فانفجرت ودخل عليه فلما نظر إليه قارون علم أنه قد أوتي، فقال: يا موسى أسألك بالرحم الذي بيني وبينك، فقال له موسى يا بن لاوي لا تزدني من كلامك!

يا ارض خذيه، فدخل القصر بما فيه في الأرض ودخل قارون في الأرض إلى ركبتيه، فبكى وحلفه بالرحم، فقال له موسى يا بن لاوي لا تزدني من كلامك، يا ارض خذيه وابتلعيه بقصره وخزائنه.

وهذا ما قال موسى لقارون يوم أهلكه الله فعيره الله بما قاله لقارون، فعلم موسى ان الله قد عيره بذلك فقال يا رب ان قارون دعاني بغيرك ولو دعاني بك لأجبته، فقال الله ما قلت يا بن لاوي لا تزدني من كلامك فقال موسى يا رب لو علمت أن ذلك لك رضى لأجبته، فقال الله يا موسى وعزتي وجلالي وجودي ومجدي وعلو مكاني لو أن قارون كما دعاك دعاني لأجبته ولكنه لما دعاك وكلته إليك، يا بن عمران لا تجزع من الموت فاني كتبت الموت على كل نفس وقد مهدت لك مهادا لو قد وردت عليه لقرت عيناك، فخرج موسى إلى جبل طور سينا مع وصيه فصعد موسى الجبل فنظر إلى رجل قد اقبل ومعه مكتل (7) ومسحاة، فقال له موسى ما تريد؟

قال إن رجلا من أولياء الله قد توفي فانا احفر له قبرا فقال له موسى أو لا أعينك عليه؟

قال: بلى قال فحفرا القبر فلما فرغا أراد الرجل ان ينزل إلى القبر فقال له موسى ما تريد؟

قال ادخل القبر فانظر كيف مضجعه فقال له موسى أنا أكفيك، فدخله موسى فاضطجع فيه فقبض ملك الموت روحه وانضم عليه الجبل واما قوله: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) فإنه حدثني أبي عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث قال قال أبو عبد الله عليه السلام: يا حفص ما منزلة الدنيا من نفسي إلا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها اكلت منها، يا حفص ان الله تبارك وتعالى علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صايرون فحلم عنهم عند اعمالهم السيئة لعلمه السابق فيهم فلا يغرنك حسن الطلب ممن لا يخاف الفوت ثم تلا قوله: " تلك الدار الآخرة ".

الآية، وجعل يبكي ويقول ذهبت والله الأماني عند هذه الآية ثم قال فاز والله الأبرار أتدري من هم؟

هم الذين لا يؤذون الذر كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا يا حفص!

انه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل ان يغفر للعالم ذنب واحد، من تعلم وعلم وعمل بما علم دعي في ملكوت السماوات عظيما، فقيل تعلم لله وعمل لله وعلم لله، قلت جعلت فداك فما حد الزهد في الدنيا؟

فقال قد حد الله في كتابه فقال عز وجل " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " ان اعلم الناس بالله أخوفهم لله وأخوفهم له اعلمهم به وأعلمهم به أزهدهم فيها، فقال له رجل يا بن رسول الله أوصني.

فقال اتق الله حيث كنت فإنك لا تستوحش وقال أبو عبد الله عليه السلام أيضا في قوله: " علوا في الأرض ولا فسادا " قال: العلو الشرف والفساد النساء واما قوله: (ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فإنه حدثني أبي عن حماد عن حريز عن أبي جعفر عليه السلام قال سئل عن جابر فقال رحم الله جابرا بلغ من فقهه انه كان يعرف تأويل هذه الآية " ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " يعني الرجعة قال وحدثني أبي عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن عبد الحميد الطائي عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين عليه السلام في قوله: " ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " قال يرجع إليكم نبيكم صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة عليهم السلام.

وقوله: (فلا تكونن - يا محمد - ظهيرا للكافرين) فقال والمخاطبة للنبي والمعنى للناس وقوله: (ولا تدع مع الله إلها آخر) المخاطبة للنبي والمعنى للناس وهو قول الصادق عليه السلام: إن الله بعث نبيه بإياك أعني واسمعي يا جارة وقوله: (كل شئ هالك إلا وجهه) فإنه حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " كل شئ هالك إلا وجهه " قال فيفنى كل شئ ويبقى الوجه؟

الله أعظم من أن يوصف، لا ولكن معناها كل شئ هالك إلا دينه (8) ونحن الوجه الذي يؤتى الله منه، لم نزل في عباده ما دام الله له فيهم روبة، فإذا لم يكن له فيهم روبة فرفعنا إليه ففعل بنا ما أحب، قلت جعلت فداك وما الروبة؟

قال: الحاجة.


1- صفاق ككتاب: جلد البطن. مجمع.

2- مؤخر الشئ أو الجسم ج ز.

3- سحران تظاهرا كذا في القرآن. ج. ز.

4- يقول الله مخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله: إن الهداية ليست حسب مشيتك بل انها تتعلق بمشيتي فلا تصر على إجراء كلمة التوحيد من لسان أبي طالب إذ هو مؤمن سرا وسيظهر الايمان جهرا فيما بعد ومما يدل على كونه مؤمنا كون رسول الله محزونا شديدا عام وفاته حتى سمى ذلك العام بعام الحزن وفي هذه الرواية أيضا ما يشعر بكونه كاتما لايمانه وهو قوله: " يا بن أخي! أنا أعلم بنفسي " يعني اعلم بنفسي من انني مؤمن. وفي ذيل الآية أيضا ما يؤيده وهو قوله تعالى " وهو اعلم بالمهتدين " وقد مضى الكلام في قوله صلى الله عليه وآله: لو قمت المقام المحمود لشفعت في أبي وأمي وعمي من أنه جواب تنزيلي فراجع ص 25. ج. ز.

5- وفي نسخة ك " قال " مكان " نال " وكذا في ط وفي الذي عندي ومناسبة له في الكلام كما ترى. ج. ز.

6- زنبيل من خوص. ج. ز.

7- وفى ط ولا معناها كل شئ هالك الا دينه ج. ز.

8- وهذا إنما يتم إذا كان مرجع الضميرين في " هم " و " غلبهم " فارس وأريد من المصدر في " غلبهم " معنى الفاعل اي كونهم غالبين ويقرأ " سيغلبون " مبنيا للمفعول بخلاف القراءة الموجودة مبنيا للفاعل ولازمه إرجاع الضميرين المذكورين إلى الروم والمراد من " غلبهم " كونهم مغلوبين فاستعمل المصدر في معنى المفعول واستعماله فيه وإن كان جائزا إلا أنه في معنى الفاعل اظهر كما في هذا الكتاب وعليه فيكون المعنى ان الروم وان غلبت عليها الفرس، لكنهم أي فارس من بعد كونهم غالبين هذا الأوان سيصيرون مغلوبين في زمان الخليفة عمر بن الخطاب. وقال الزمخشري في الكشاف. انه قرئ " سيغلبون " بالضم كما في هذا الكتاب. ج. ز.