مناهج بحث القصة

المنهج التقليدي التجزيئي

المنهج الاول: هو المنهج الذي سار عليه المفسرون منذ بداية عصر التفسير وذلك من خلال تناول الآيات القرآنية بحسب تسلسل دورها في القرآن الكريم آية بعد اخرى.

والتوجه العام في هذا المنهج هو تفسير المفردات والاحداث في القصة كما وردت في ذلك الموضع والمقطع من اجل فهمها في حدود موردها.

والاسلوب العام المتبع في هذا المنهج هو تفسير المفاهيم اللغوية، والبحث في الاحتمالات التاريخية والعقائدية حول المفردات. والتوسع احياناً في مناقشة الآراء المختلفة حولها. ومحاولة التركيب بين الوقائع في حدود المضمون العام للمقطع استناداً إلى المأثور عن النبي واهل البيت (عليهم السلام) احياناً او الصحابة والتابعين واهل الكتاب في الغالب.

ويمكن ان نجد نموذجاً لهذا المنهج في تفسير مجمع البيان للطبرسي والتفسير الكبير للفخر الرازي وتفسير الميزان للعلامة الطباطبائي مع وجود الفرق بينهم في التوسع والتحليل والاستطراد.

وقد اضاف العلامة الطباطبائي لهذا المنهج تقديم خلاصة كاملة عامة عن قصة كلنبي من الانبياء اختار لها موضعاً مناسباً من موارد القصة، حاول فيها ان يقتصر على ما ذكره القرآن الكريم فيها من مفاهيم، مع تقسيم القصة إلى عدة اقسام يذكر فيهاصفات النبي التي ذكرها القرآن الكريم بطريقة استعراضية والوضع العام لقومهوالاحداث التي رافقت حياته.

وبهذا الاسلوب يكون العلامة الطباطبائي قد قدم لنا منهجاً اخر متطوراً في عرض القصة القرآنية سوف نشير اليه، ولا سيما انه يضيف إلى هذا العرض بعض الابحاث التاريخية العامة او المستفادة من الكتب الدينية السابقة ويتناولها بالبحث والتمحيص.

وقد اعتمد العلامة الطباطبائي في هذا التطوير على منهجه التفسيري العام الذي يحاول فيه الاعتماد على القرآن الكريم وحده ويميز فيه بين ما هو قرآني وغير قرآنى، كما يحاول ان يجمع فيه بين التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.

وقد يبدو للمتابع ان العلامة الطباطبائي قد تأثر في هذا المنهج بالمنهج الذي اتبعه عبد الوهاب النجار في كتابه قصص القرآن، ولكن مع احداث تطوير في العرض كما اشرنا ولا سيما وان العلامة الطباطبائي يتناول الابحاث والاثارات التي ذكرت في هذا الكتاب ويأخذ منه احياناً بعض الموضوعات باشارة او بدون اشارة.

ومن البديهي فان ذلك لا يقلل من اهمية الانجاز الذي حققه العلامة الطباطبائي في كتابه الميزان.

وبذلك يكون قد جمع العلامة الطباطبائي بين منهج البحث التجزيئي في القصة حيث يستفيض في تحليله ومتابعة ومناقشة الاراء في الموارد المختلفة حسب ورود القصة من ناحية وبين منهج عرض القصة بصورة عامة كموضوع قرآني. ومقارنتها احياناً بالابحاث الاخرى ذات العلاقة بها سواء الدينية منها كما وردت في النصوص والروايات وكتب العهدين او التاريخية الانسانية.

المنهج الحديثي

المنهج الثاني: الذي يتناول قصص الانبياء كموضوع مستقل من خلال النصوص الدينية التي وردت عن النبي واهل بيته والصحابة والتابعين، ويمكن ان نذكر نموذجاً لذلك في اعمال وكتابات كل من ابن كثير الدمشقي في كتابه (قصص الانبياء) والمجلسي في كتابه (البحار) قسم قصص الانبياء، حيث يتم ذكر الآيات القرآنية ذات العلاقة بالمقطع او الجانب الخاص للقصة ثم ذكر الروايات المتعددة التي وردت حولها.

ويمتاز ابن كثير في بحثه هذا بعدة امتيازات تجعله النموذج الامثل في العرض والاسلوب لهذا المنهج، مع قطع النظر عن مدى وثاقة النصوص او النتائج التي ينتهي اليها في البحث.

الميزة الاولى: هي تقطيع القصة إلى عدة فصول تتناسب مع تسلسلها التاريخي وايراد الآيات والروايات ذات العلاقة بالفصل المذكور، واما المجلسي فهو يفصلها بطريقة اخرى لايلاحظ فيها التسلسل التاريخي؟

فمثلا نجد العلامة المجلسي في البحار يذكر العناوين التالية - فقط - في قصة ابراهيم عليه السلام:

1 - علل تسمية ابراهيم وسنه وفضائله ومكارم اخلاقه وسننه ونقش خاتمه.

2 - قصص ولادته إلى كسر الاصنام وما جرى بينه وبين نمرود (فرعون زمانه) وبيان حال ابيه.

3 - إراءته ملكوت السماوات والارض وسؤاله إحياء الموتى والكلمات التي سأل ربه وما أوحي اليه وصدر عنه من الحكم.

4 - جمل احواله ووفاته.

5 - احوال اولاده وازواجه صلوات الله عليهم وبناء البيت.

6 - قصة الذبح وتعيين الذبيح.

واما ابن كثير، فقد ذكر في كتابه (قصص الانبياء) العناوين التالية في قصة ابراهيم عليه السلام

1 - قصة ابراهيم الخليل.

2 - ذكر مناظرة الخليل مع من أراد أن ينازع الخليل.

3 - ذكر هجرة الخليل إلى بلاد الشام ودخول الديار المصرية واستقراره بالارض المقدسة.

4 - ذكر مولد اسماعيل من هاجر.

5 - ذكر مهاجرة ابراهيم بابنه اسماعيل وامه هاجر إلى جبال فاران وهي ارض مكة وبنائه البيت العتيق.

6 - قصة الذبح

7 - ذكر مولد اسحاق.

8 - ذكر بنائه البيت العتيق.

9 - ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله ابراهيم.

10 - ذكر قصره في الجنة.

11 - ذكر صفة ابراهيم عليه السلام.

12 - ذكر وفاة ابراهيم الخليل وما قيل في عمره.

13 - ذكر اولاد ابراهيم الخليل.

وبملاحظة هذه العناوين يمكن ان نلاحظ احد الميزات بين هذين الاسلوبين في هذا النهج، حيث انهما يسيران في بقية الانبياء على هذا الاسلوب.

الميزة الثانية: ان ابن كثير يتناول النصوص المختلفة بالبحث والتحليل من حيث المضمون والسند ولا سيما عندما تكون مختلفة ويطبق عليها الضوابط العلمية التي يؤمن بها على طريقة مذهب اهل الحديث.

واما العلامة المجلسي فهو لا يهتم بهذا الجانب كثيراً الا بالقدر الذي يصحح فيه الجانب المذهبي والعقائدي عندما يبدو التنافي بين النص وبين هذا الجانب المذهبي، ولذا لا يأتي البحث مستكملا لجميع الجوانب.

الميزة الثالثة: ان ابن كثير يحاول ان يبرز ظاهرة النفوذ والتسلل لثقافة اهل الكتاب (الاسرائيليات) في التراث المأثور حول هذه القصص، وان كان يقف عاجزاً احياناً امام بعض الروايات التي رويت بطريق معتبر - على مذهبه في الحديث - فيتحير في امرها او يسلِّم بها على مضض.

واما المجلسي فيكتفي - كما اشرنا - بمناقشة ما يكون ظاهرها خلاف المتبنيات العقائدية المذهبية.

ولعل هذا الفرق انما كان بسبب ان التراث الذي يعتمد عليه العلامة المجلسي وهو الروايات عن طريق اهل البيت عليهم السلام لم يتأثر بالاسرائيليات الاّ بصورة محدودة، وان احد الضمانات المهمة في هذا المجال هو المبادىء العقائدية المذهبية المسلِّمة لدى اتباع اهل البيت التي توضح الموقف من هذه الاسرائيليات، ولذا يتناولها بالبحث والتحليل عندما يواجه مثل ذلك.

ولكن يبقى الاهتمام بمراقبة عملية التسلل لثقافة اهل الكتاب في نفسها عملية مهمة تحتاج إلى متابعة خاصة وهي ميزة لصالح منهج ابن كثير مقارناً بمنهج المجلسي (1).

ولكن لابد ان نشير هنا ايضاً إلى ان اكثر المؤلفين على طبق هذا المنهج قد اخذوا قسطاً كبيراً من رواياتهم من ثقافة اهل الكتاب، لانهم كانوا يمثلون مصدراً مهماً من مصادر هذه الروايات، ولعل اكثر الروايات التي رويت عن الصحابة والتابعين تستند إلى اهل الكتاب مضافاً إلى حدوث التزوير والوضع من الرواة المتأخرين، وبهذا السبب الثاني يفسّر ما نلاحظه في بعض ما روي عن اهل البيت عليهم السلام مما يمكن نسبته إلى الاسرائيليات، وكأن هذا المنهج ينطلق من مبدأ فهم ان اكثر النصوص غير القرآنية كانت من موروثات اهل الكتاب انفسهم.

المنهج الحسي التجريبي

المنهج الثالث: هو المنهج الذي يحاول ان يقترب من احداث قصص الانبياء والظواهر الغيبية او غير العادية فيها من الواقع الحسي التجريبي والنتائج التي توصلت اليها البشرية في معرفتها بالسنن الاجتماعية والاسرار العلمية او اكتشاف بعض الظواهر الشاذة في القوانين والانظمة الكونية، والتوجه العام فيه هو تقريب هذه الصور والظواهر من الادراك الحسي البشري الذي سيطر على العقل الانساني من خلال المدرسة الوضعية وتجارب العلوم الانسانية، فهو محاولة لمعالجة الوضع النفسي والروحي الذي شهدته المجتمعات الانسانية ولا سيما الاسلامية منها بعد النهضة الصناعية والغزو الاستعماري والاتجاه إلى العلمنة والتجارب والاستكشافات العلمية.

وقد كان من خصائص هذا المنهج هو محاولة الاقتصار على خصوص ما ورد في القرآن الكريم مع تفسيره وتأويله بما ينسجم مع هذا التقريب والرجوع إلى غير القرآن الكريم بمقدار ما يساهم في توضيح وتأييد هذا المضمون والتوجه ورد ما عدا ذلك في النصوص الاخرى.

ويمكن ان نجد نماذج من الباحثين يمثلون هذا التوجه والنهج في الشيخ محمد عبده في بعص ابحاث تفسير المنار وعبد الوهاب النجّار في كتابه قصص الانبياء. ولعل محاولة الشيخ محمد عبده في انكاره لواقعية بعض القصص القرآنية وتفسيرها على انها تمثيل للواقع ينطلق من الثقافة العامة تفادياً لبعض الاثارات حول هذه القصص. وكذلك الضجة التي اثارها كتاب النجار عند صدوره الامر الذي انتهى إلى محاكمته من قبل الازهر وتشكيل لجنة للتحقيق في كتابه تنطلق من هذا الاتجاه في تفسير القصة.

ويمكن ان نجد معالم لهذا الاتجاه في بعض مواقفهم تجاه بعض الظواهر الغريبة ومحاولة تفسيرها تفسيراً علمياً او تجريبياً.

ويعتبر هذا المنهج في الطرف الآخر من المنهج السابق (المنهج الحديثي) حيث يجمد ذلك المنهج على النصوص ويأخذ بها على أي حال. واما هذا المنهج فهو يحاول ان يستخدم العقل والرأي في تفسير النص القرآني ما يلائم الفهم البشري التجريبي والحسي للاشياء.

ويمكن ان نلاحظ على هذا المنهج:

اولا: ان من الاهداف والاغراض المهمة للقصة القرآنية - كما ذكرناه في كتابنا القصص القرآني - هو تربية الانسان على الايمان بالغيب، ولذلك يمثل هذا الاتجاه في التفسير اتجاهاً مغايراً للاهداف الرئيسية في القصة القرآنية بل للقرآن كلّه.

ثانياً: إنّ دراستنا وتحليلنا لتطور الرسالة الالهية انتهى بنا إلى أنّ الرسالات الالهية السابقة كانت متدرجة في مخاطبة العقل الانساني في قضايا الغيب والحس بحيث يمكن ان نلاحظ انه كلّما تطوّر الانسان في مجتمعه وادراكاته كلّما اتجهت الرسالات الالهية إلى مخاطبة العقل الانساني بصورة اكثر تركيزاً حتى كانت الرسالة الاسلامية الخاتمة التي اهتمت بصورة اساسية بمخاطبة العقل الانساني إلى جانب تربيته على الايمان بالغيب. وهذا التحليل يعني أنّ الرسالات السابقة كانت تخاطب الجانب الغيبي في الانسان الذي له تأثير مباشر في قضية الايمان بالغيب يتناسب مع المستوى العقلي للانسان في مراحله السابقة. ومن ثم فانّ هذه الظاهرة الغيبية هي واقع لا محيص عنه في قصص الانبياء السابقين.

ثالثاً: اننا وان كنا نفهم الاغراض الصالحة لبعض هؤلاء البحاثين في سلوك هذا المنهج وذلك لمعالجة الوضع النفسي والروحي القائم بما يخدم قضية الايمان وفهم الدين، ولكن الاغراق في هذا التوجه وتجاوز قضية الاغراض القرآنية في التربية على الغيب والتسليم له هو مما يؤاخذ على هذا المنهج كما اشرنا إلى ذلك في الملاحظة الاولى.

المنهج التغييري الاجتماعي

المنهج الرابع: هو المنهج الذي يعتمد بصورة اساسية على ماورد في القرآن الكريم من معلومات ووقائع حول الانبياء وكذلك على النصوص الصحيحة التي وردت في توضيح الصورة القرآنية او النصوص التي وردت تؤيد هذه الصورة.

ويتجه هذا المنهج إلى ترتيب المعلومات وتقسيمها حول محاور رئيسية هي:

1 - الاوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية والعقائدية والاخلاقية التي كان يتصف بها الزمن الذي بعث النبي فيه.

2 - شخصية النبي ومواصفاته الخاصة التي تحدث عنها القرآن الكريم سواء في البعد الذاتي ومواصفاته الشخصية له او علاقته بالله تعالى او علاقته بالناس او موقعه الرسالي ودوره في عملية التغيير الاجتماعي.

3 - مسيرة حياة النبي (ص) في الحياة الشخصية والحياة الرسالية والعملية وتطور عمل الرسالة واهدافه في المراحل المختلفة لهذه الحياة والنتائج الرسالية التغييرية التي حققها في هذه المراحل.

4 - النتائج العامة التي توصل اليها النبي في رسالته وعملية التغيير والمعوقات والمشاكل.

وبذلك نخرج بصورة كاملة مترابطة بين احداث القصة من ناحية والاهداف المنشودة من وراء الرسالة والانجازات التي حققتها الرسالة والمشاكل والمعوقات التي واجهتها.

وينظر هذا المنهج في تناوله للقصة - بصورة اساسية - إلى الهدف القرآني العام وهو التغيير الاجتماعي والعوامل المؤثرة او المعيقة في العملية التغييرية.

وقد حاولنا تطبيق هذا المنهج في دراستنا لقصص الانبياء أولي العزم (نوح وابراهيم وموسى وعيسى) كما ورد ذلك في كتابنا (القصص القرآني).

واذا اضفنا إلى ذلك ما فعلناه في دراستنا لقصة موسى عليه السلام بصورة خاصة، حيث احصينا ايضاً (الموضوعات) التي تناولتها القصة وعلاقة هذه (الموضوعات) بالقصة واهدافها، يصبح هذا المنهج من المناهج الجديدة والمتطورة في دراسة القصة القرآنية.

حيث يشتمل على عدة مزايا اساسية، هي:

أ - الاعتماد على ماورد في القرآن الكريم بصورة خاصة وتوضيحات ذلك في النصوص المعتمدة بعيداً عن ثقافة اهل الكتاب الخاصة.

ب - الاهتمام بالهدف الاساس للقرآن الكريم وللقصص وهو التغيير الاجتماعي وتوضيح صورته.

ج- - إعطاء تصور متكامل ومنسجم عن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شخصيته ومسيرة حياته والاوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية العامة.

د - الاهتمام بالموضوعات الفكرية والاجتماعية التي وردت الاشارة اليها في ثنايا القصة للخروج بتصورات كاملة عنها.

وفي حدود اطلاعي فان هذا المنهج لم يسبق عرضه بهذه الطريقة من قبل في بحث القصة القرآنية.

المنهج التحليلي

المنهج الخامس: هو منهج يتجه إلى دراسة وتحليل كل الموارد والمقاطع التي وردت فيها القصة في القرآن الكريم بصورة مستقلة، والهدف من التحليل ليس هو بحث مفردات القصة كما هو الاتجاه في المنهج الاول (التجزيئي) بل يكون الهدف من ذلك بيان عدة نقاط مهمة ترتبط بمجيء هذا المقطع او ذاك من القصة الواحدة، وهذه النقاط:

1 - بيان الهدف والغرض العام او الهدف الخاص الذي سيقت له القصة في ذلك الموضع الخاص منها.

2 - بيان العلاقة والارتباط بين القصة في موضعها الخاص وسياقها القرآني في الآيات الكريمة التي سبقتها او لحقتها.

3 - بيان اسرار تكرار القصة في ذلك الموضع في موارد تكرار القصة كما هو الحال في اكثر القصص القرآنية ولا سيما الانبياء أولي العزم، ومع بيان تغاير الاسلوب في ذلك المقطع من ناحيتي العرض والمضمون.

4 - تحليل عام لمضمون المقطع الذي يتحدث عن القصة، ويمتاز هذا المنهج في انه يساير الهدف العام لنزول القرآن الكريم، وهو التغيير الاجتماعي الجذري كما حققنا في بحوث علوم القرآن حيث يشير إلى علاقة المقطع بذلك. كما انه في الوقت نفسه يشخص الارتباط الفني والمعنوي مع السياق القرآني والمفاهيم والافكار والقضايا التي يطرحها القرآن الكريم. فلا تأتي القصة منفصلة في عرضها عن جوها القرآني.

مضافاً إلى تفسيره للمقطع تفسيراً موضوعياً، ويفسر في الوقت نفسه تكرار القصة بتشخيص السبب في التكرار وفي اسلوب العرض او الاقتصار في المضمون على هذه الحصة من القصة.

وقد طبقنا هذا المنهج الجديد - الذي لا اعرف له سابقة في حدود إطلاعي - على تسعة عشر موضعاً وهي المواضع التي وردت فيها قصة موسى في القرآن، والتي هي اكثر القصص وروداً فيه.

واذكر هنا نموذجاً واحداً لطريقة دراسة احد هذه المواضع لتتضح معالم هذا المنهج، وهو ما ورد من الآية (103 - 171) من سورة الاعراف والتي تبدأ بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ وتختم بقوله تعالى ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

ونلاحظ في هذا الموضع من القصة عدة امور:

الاول: ان القصة جاءت في عرض قصصي مشترك مع قصة نوح، وهود، ولوط، وشعيب عليهم السلام، تكاد تتحدد فيه صيغة الدعوة والتكذيب والعقاب الذي ينزل بالمكذبين.

الثاني: ان هذا العرض القصصي العام يأتي في سياق بيان القرآن الكريم لحقيقة حشر المخلوقات وصورته، وانهم يحشرون أمماً بكاملها من الجن والانس، وعلى صعيد واحد يتلاعنون بينهم، او يتحابون: ﴿قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والانس في النار كلّما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت اخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذاباً ضِعْفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون﴾(الاعراف / 38).

﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات لانُكلف نفساً الاّ وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون* ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الانهار وقالوا الحمد لله الذي هَدانا لهذا وماكنّا لنهتدي لو لا ان هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أنْ تِلْكُم الجنةُ أورثتموها بما كنتم تعملون﴾ (الاعراف / 42 - 43).

ثم يعرض القرآن الكريم مشاهد متعددة من هذا الحشر، وبعض العلاقات التي تسود الناس فيه، وانه تصديق لدعوة الرسل وما بشروا وانذروا منه.

الثالث: ان القصة على ما جاء فيها من التفصيل واستعراض للحوادث فهى تبدأ في سرد الوقائع من حين بدء البعثة والدعوة، كما انها تذكر الوقائع في حدود المجابهة - التي كان يواجهها الرسول - الخارجية مع فرعون وملَئه، والداخلية مع بني اسرائيل وفي إطار بيان ما ينزل بالمكذبين والمنحرفين من عذاب وعقاب وأضرار.

الرابع: ان القصة تتناول في معرض حديثها عن الحوادث جوانب من المفاهيم الاسلامية العامة والسنن التاريخية، كتأكيد اهمية (الصبر)، و ﴿وراثة المتقين للارض﴾، وانّ الرحمة لا تنال الاّ الذين اتقوا وآتوا الزكاة وآمنوا بآيات الله واتبعوا الرسول الامي الذي يجدونه مكتوباً عندهم.

وعلى اساس هذه الملاحظة يمكن ان نستنتج:

ان القصة جاءت منسجمة مع السياق العام للعرض القصصي، ومحققة لاغراضه على ما أشرنا اليه في حديثنا عن اغراض القصة، ومع ذلك فانها لا تغفل الفرصة المناسبة للتأكيد على المفاهيم الاسلامية العامة منسجمة مع الهدف القرآني العام في التربية.

كما انها تؤكد بصورة خاصة على نبوة محمدصلى الله عليه وآله وسلم وكأنها سيقت بتفاصيلها لتحقيق ربط هذه الدعوات والرسالات بهذه النهاية الخاتمة لها، وان هذه المفاهيم والسنن والاهداف التي عاشتها هذه الرسالات سوف تتحقق في نهاية المطاف في اتباع رسالة الاسلام ﴿والذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث ويضع عنهم اِصرَهُم والاغلال التي كانت عليهم..﴾(الاعراف/157).

على أنّ هناك شيئاً تجدر الاشارة اليه، وهو أنّ القرآن الكريم يهتم عادة بتفصيل قصص الرسل الذين هم من أولي العزم: كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى (ع) ذلك لاغراض متعددة يمكن ان يكون من جملتها:

أ - إنّ هؤلاء الانبياء يمثلون مراحل مختلفة لرسالة السماء، وانهم مع صلة القربى والوحدة في دعوتهم نجدهم يشكّلون مواضع فاصلة في تطوّر الدعوة الدينية النازلة من السماء.

ب - إنّ لبعض هؤلاء الانبياء أتباعاً وأمماً عاشت حتى نزول رسالة الاسلام مما يفرض الاهتمام بمعالجة اوضاعهم وعلاقتهم بدعوة الاسلام الجديدة.

ج- - إنّ أحداثاً مفصلة ومختلفة عاشها هؤلاء مع أُممهم وأقوامهم تمثل جوانب عديدة مما تعيشه كلّ دعوة عامة واسعة النطاق تستهدف تغييراً جذرياً لواقع ذلك المجتمع.

المنهج الأدبي او الفني في دراسة القصة

المنهج السادس: وهو المنهج الذي يتجه إلى ابراز الخصائص الفنية والتصويرية في القرآن الكريم، حيث اعتمد القرآن الكريم على هذا الاسلوب في التربية والتأثير النفسي والروحي وكانت القصة احد المصاديق لهذا الاسلوب الرائق الذي اتبعه القرآن الكريم وكان يمثل احد ابعاد الاعجاز فيه.

وهذا المنهج من المناهج المهمة في ابحاث القصة القرآنية خاصة وأبحاث القرآن عموماً، ولكنه من المناهج التي لا يستوعبها الاّ المختصون في آداب اللغة العربية، ويتفاعل معها أصحاب الذوق الادبي من الناطقين باللغة العربية.

ويمكن ان نقدّم نموذجاً لهذا المنهج من خلال قصة يوسف المثال الذي تناوله سيد قطب في كتابه (في ظلال القرآن).

ونكتفي بذكر المقدمة التصويرية التي ذكرها سيد قطب لهذا المثال، ونحيل الباقي على كتابه المذكور:

إنّ قصة يوسف - كما جاءت في هذه السورة - تمثل النموذج الكامل لمنهج الاسلام في الاداء الفني للقصة، بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الاداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضاً... ومع أنّ المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه، الاّ أنّ قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء.

ان القصة تعرض شخصية يوسف عليه السلام وهي- الشخصية الرئيسية في القصة - عرضاً كاملا في كل مجالات حياتها، بكل جوانب هذه الحياة، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات، وتعرض انواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة; وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها.. ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء، وابتلاءات الفتنة بالشهوة، والفتنة بالسلطان، وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات.. ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلّها نقياً خالصاً متجرداً في وقفته الاخيرة، متجهاً إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما اسلفنا في نهاية الفقرة السابقة.

والى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز. وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية، وفي اوضاع خاصة من الاضواء والظلال.. وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة، متمثلة في نماذج متنوعة: نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول.. ونموذج أخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة، ومواجهة آثار الجريمة، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة، متميزاً فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها.. ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الانثوية، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها ووضوح انطباعات البيئة.. ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية! والاضواء التي تلقيها على البيئة، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها، وفي إغرائهنّ كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهنّ جميعاً، وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة.. ونموذج (العزيز) وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه!.. ونموذج (الملك) في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيداً عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق.. وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر.. ومع استيفاء القصة لكل ملامح (الواقعية) السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة.. فانّها تمثل النموذج الكامل لمنهج الاسلام في الأداء الفني للقصة، ذلك الأداء الصادق، الرائع بصدقه العميق، وواقعيته السليمة.. المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة، وفي الوقت ذاته لا ينشئ مستنقعاً من الوحل يسميه (الواقعية) كالمستنقع الذي أنشأته (الواقعية) الغربية الجاهلية!

وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري; بما فيها لحظة الضعف الجنسي، ودون ان تزوّر - أي تزوير - في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف، دون ان تغفل اي لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف، فإنّها لم تسف قط لتنشئ ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة، ذلك الذي يسمّونه في جاهلية القرن العشرين (الواقعية) أو يسمّونه أخيراً (الطبيعية!)(2).

المنهج النظري

المنهج السابع: وهو المنهج الذي يحاول استنباط النظريات القرآنية من خلال تحليل مفردات القصص القرآني والجمع بينها لتكوين تصور نظري شامل حول الموضوعات المختلفة العقائدية او الاجتماعية او التاريخية.

ويمتاز هذا المنهج بأنه يساهم إلى حد كبير في استكشاف النظريات القرآنية الذي يعتبر في هذا العصر من اهم الاعمال الفكرية والثقافية التي تملأ الفراغ في أسلوب عرض الثقافة الاسلامية عرضاً نظرياً يواجه النظريات الفكرية الاخرى من ناحية، ويكشف في الوقت نفسه الوجه المشرق والمضمون القوي الواضح للثقافة الاسلامية، ويقرّبها من الفهم والتناول.

وقد طبقنا هذا المنهج على قصة آدم لاستكشاف نظرية خلافة الانسان في الارض وبداية تكوّن المجتمع الانساني. واتبعنا فيه أسلوباً مزدوجاً بين المنهج التقليدي في عرض المفردات والآراء وشرح المفاهيم ومناقشتها والمنهج الموضوعي الذي يحاول أن يقدّم مضمون النظرية كاملة.

وهذا المنهج قد مارسته في دراسة قصة آدم عند تدريس علوم القرآن في كلية اصول الدين في بغداد قبل حوالي ثلاثة وثلاثين عاماً واستفدنا فيه من مناهج وأساليب البحث العلمي لأستاذنا المجدد الشهيد الصدر(3).

المنهج التاريخي

المنهج الثامن: وهو المنهج الذي يتجه إلى عرض القصة كتاريخ يتناول تفاصيل حياة الانبياء وأقوامهم ويهتم بجمع اكبر قدر ممكن من الحوادث التاريخية من المصادر المختلفة، القرآن الكريم، الروايات عن النبي واهل بيته والصحابة والتابعين وأهل الكتاب والتوراة والانجيل وغيرها من المصادر، ويقارن بينها أحياناً لأغراض تاريخية او عقائدية.

ونجد لهذا المنهج نماذج كثيرة في بعض كتب قصص الانبياء أو أبحاث المبشرين حول القرآن وأبحاث علماء القرآن في مواجهة شبهات المبشرين ومنها أبحاث العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي في كتابيه الهدى إلى دين المصطفى والرحلة المدرسية وغيرها من الأبحاث.

وقد يخرج هذا المنهج عن اهداف القرآن الكريم وأهداف القصة فيه حيث تتحول القصة إلى رواية تاريخية للتسلية ولا سيما عندما لا يتقيد بالنص القرآني وضوابطه. طبعاً باستثناء الاحداث ذات الطابع العقائدي التي تحظى بأهمية خاصة لبعدها العقائدي المهم.

نعم من الممكن ان يتحول هذا المنهج إلى منهج نافع بصورة عامة عندما يعتمد على الاسس العلمية في بحث التاريخ، ولكن من المؤسف أنّ الملاحظة العامة حول كتابة التاريخ هو التسامح في تدوين الاحداث وضبطها، الامر الذي ادى إلى نتائج خطيرة في كتابة التاريخ.


1- لابد من الانتباه ان العلامة المجلسي لم يدوّن هذه القصص بطريقة البحث حول الموضوع القرآني (القصة في القرآن) وانما بطريقة جمع الروايات، ولذا اختلف منهج البحث بينهما من حيث الغرض من التأليف.

2- في ظلال القرآن: 4 / 1951 - 1952.

3- القصص القرآني: 115 - 139.