منطق فهم القرآن الكريم
ربما يكون موضوع (منطق فهم القرآن) غير معروف للبعض بصورة كافية، على الرغم من أن هذا التعبير يشبه إلى حد ما التعبير الذي نستعمله في مباحث الأمور العقلية. إنّ الانتفاع من العلوم العقلية والقضايا البرهانية يرتبط بمنطق خاص، أي أنه يرتبط بالأصول والقواعد التي يبنى الاستدلال على أساسها.
في كلّ العلوم هناك قواعد أيضاً من اللازم أن يكون الاستنباط على أساسها، وعلى هذا فإنّ هناك من يرى أن أصول الفقه بالنسبة إلى علم الفقه تشمل حالة (منطق الفقه) إذا أمكن اعتبار أصول الفقه هي منطق الفقه، فربّما أن تسمية أصول وقواعد خاصة تحت عنوان منطق فهم القرآن سوف لن يكون مستغرباً; إلى هذا الحد لا سيّما أن هناك حاجة إلى أصول وقواعد خاصة من أجل فهم القرآن الكريم وتفسير آياته، إذاً وبعد القبول بضرورة وجود منطق فهم القرآن فإنّه يمكن تفريعه إلى فرعين أساسين: الأوّل هو الفرضيات الموجودة سابقاً والأصول الموضوعة لكلّ قائم على تفسير فهم القرآن.
أما الفرع الثاني فهي القواعد الخاصة التي يمكن على أساسها التعامل مع الآيات والانتفاع منها.
من البديهي أنّ كلّ فرع من فروع العلوم المختلفة بحاجة إلى أسلوب وطريقة خاصة لكي نتمكن وطبقاً لهذا الأسلوب أن نتابع الأهداف التي هي غاية ذلك العلم، وعلى هذا فمن الطبيعي تماماً أن القرآن يحتاج إلى أسلوب خاص أيضاً، ومع الأسف فلم يُنجز عمل جدّي في هذا المجال. وعلى أية حال فقد كانت هناك حاجة إلى ذلك، وما زالت لأن مَن يريد تفسير القرآن عليه أن يعرف أيّةِ أصول وقواعد يمكنه القيام بذلك على أساسها، وكيف يمكن أن يستخدم القواعد الموجودة، والأمر الجدير بالاهتمام هو أن هذه الحاجة موجودة دائماً غير أنه وبسبب القضايا والشبهات الجديدة مثل بحث تعدد القراءات ومباحث التأويل والتفسير فإنّ الحاجة إلى طرح مثل هذه البحوث أصبح أكثر إلحاحاً، اذاً فالسبب في طرح هذا الموضوع أصبح واضحاً; وهو أنه علاوة إلى الحاجة الدائمة إليه، فإن الاختلاط بالثقافة الغربية والشبهات التي وصلت إلى مجتمعاتنا ومحافلنا العلمية أدّت إلى أن تكون هذه الحاجة اكثر احساساً.
إنّ الدراسة التي نطرحها يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو تلك الأصول والمبادىء والفرضيات المسبقة التي نعتقد بها في تفسير القرآن.
القسم الثاني: يتكون من القواعد الخاصة التي يجب أن نضعها نصب أعيننا في تفسير القرآن.
القسم الثالث: هو الشبهات الموجودة في هذا المجال ووجوب الردّ عليها.
الأصل الأول: الذي نضعه نصب أعيننا على أساس أنّه فرضيات مسبقة
للتفسير هو أن القرآن كلام الله الحكيم وبلاشك فإننا نأخذ ذلك على أساس أنه أصل موضوعي وليس على أساس كونه أصلا بديهياً متفقاً عليه; ذلك لأنه قد يكون هناك من يشك في وجود الله أصلا، وحتى لو سلّم بوجوده جلّ وعلا فقد يكون لديه شك بأن يكون هذا الكلام منسوباً إلى الله أو قولا ثابتاً منه سبحانه. وخلاصة الأمر أنه ليس واثقاً أن القرآن هو كلام الله. إنّ هذه القضية مطروحة بصورة جدية بين مختلف المفكرين، وليست قضية جديدة وقد طرحت وربّما قبل عشرين سنة بكلام الله، بل هو كلام الرسول(صلى الله عليه وآله) وأرادوا أن يستفيدوا حتى من القرآن نفسه لإثبات هذه القضية.
إنّنا في هذه الدراسة نعتبر أن قضية كون القرآن هو كلام الله على أساس أنها أصل موضوعي، وإذا كان هناك بحث في هذا الموضوع فهو خارج إطار هذه الدراسة.
الأصل الثاني: الذي نأخذه في هذه الدراسة هو أن الله جلّ جلاله لديه هدف من نزول القرآن; وعليه يجب فهم الآيات لتحقيق هذا الهدف، أما كون هذا الموضوع يرتبط بالكلام أو بالفلسفة أكثر فإنّه مرتبط بالكلام أكثر. والجدير بالاهتمام أنّ شكل الدليل يختلف في هذه الموارد; ولذا فإني استند إلى كلمة الحكمة أكثر: فإنّ مقتضى الحكمة الإلهية هو إكمال نقص معرفة الإنسان في مجال معرفة طريقة حياته وذلك بارسال الأنبياء وإنزال الكتب وإذا لم يفعل ذلك سبحانه، أي أنه لم يرسل رسولا وينزل كتاباً سماوياً، فإن هذا مناقض للهدف الإلهي ومعارض للحكمة.
وعلى أساس هذا الموضوع الذي هو أمر ثابت في علم الإلهيات والكلام (أي برهان النبوة الأصلي) فيتخذ الأصل الثاني شكله; وهو أن الله جلّ وعلا يريد هدايتنا بواسطة الكلام، وأن الأمور التي لا نتمكن أساساً من فهمها بواسطة العقل من جهة ونحتاج إليها من جهة ثانية، فإن هذه الحاجة الأصلية لتشخيص طريق السعادة يجب أن نفهمها عن طريق الوحي والقرآن، ولا شك أنّ هذا فهم من الله لأنه جلّ وعلا وحتى في الأشياء التي نفمهما بواسطة العقل قد تفضّل بها علينا، وأكّد عليها عن طريق الوحي فقد جاء في القرآن مثلا (إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان) إنّ هذه الآية وحتى لو لم تكن موجودة في القرآن فإننا نفهم أيضاً أن العدل والإحسان أمران جيدان، أي أنه على الرغم من أنّ لهذا العمل (العدل والإحسان) دليلا عقلياً فإن القرآن قد أكّد عليه أيضاً، وعلى كل حال فإن أصل حاجتنا الأولية والضرورية للقرآن والوحي السماوي تنبع من أننا لا نستطيع تشخيص سير سعادتنا وشقائنا بصورة قاطعة، ولذا فإنّ الوحي يساعد العقل ويكمل نقصه.
الأصل الثالث: هو أنّ الله الحكيم المُنزِلِ لهذا الكتاب لهدايتنا قد تحدّث بلسان العقلاء، وتكلّم طبقاً لأصول الحوار العقلي، ولقد أصبحت هذه القضية قضية مهمة، لأنه على مدى أكثر من 1400 سنة من تاريخ الإسلام فإنه لم يطرح بين المفسرين وأصحاب الرأي وعلماء الدين فيما إذا كان كلام الدين هو كلام الواقع أم كلام الرمز والأسطورة، إنّ هذه المسائلة لم تطرح عندنا في أي وقت من الأوقات، ولكنها طرحت في أوربا خصوصاً بعد عصر التنوير حول الكتاب المقدّس (التوراة والإنجيل) وفيما إذا كان ما في هذا الكتب هو حال بيان الحقيقة والواقع أم لا؟ وعلى أيّة حال فقد طرحت هذه القضية التي تقول: إن كلمات التفاهم مختلفة، وإن هناك قسماً من الكلمات تقصد الواقع فقط، وتريد طرح واقع نفس الشيء في ذهن المخاطب والمستمع، إلاّ أنه توجد كلمات أخرى ليست في مجال عرض الواقع مثل لغة القصة والشعر والأسطورة او على الأخصّ ما ورد في الأشعار العرفانية التي لها لسانها الخاص، وفيها حديث عن الخمر والطرب... الخ وعلى الأقل فإن هناك قسماً من هذه الأشعار تصرخ بأنّ مقصدها من الخمر ليس الخمر المعروف بل هو رمز استعمل لبيان موضوع آخر. وهكذا فإنّه بصورة عامة توجد أساليب مختلفة في مجال التفاهم.
إن من أراد إنقاذ المسيحية واليهودية من هجوم المفكرين الذين اعترضوا بأن المواضيع الموجودة في التوراة والإنجيل تعارض كلا من العقل والعلم، وأنّه لا اهمية للكتاب المقدس ولا يمكن قبوله ككتاب سماوي، ففي مجال الرد على هذا الاعتراض أسسوا النظرية التي تقول: إن كلام الكتاب المقدس ليس الكلام الذي يستعمله العقلاء لكشف الحقيقة في محاوراتهم وإن كلام الكتاب المقدس يماثل القصص التي يكون مغزاها هو محط الاهتمام، فمثلاً عندما نقرأ كتاب كليلة ودمنة فلن يتبادر إلى ذهننا أن هذا هو حديث الأسد والثعلب حقيقة، وعلى هذا الأساس وضعت هذه النظرية للردّ على الشبهات التي طرحت حول الكتاب المقدس، وهي شبهات يبدو بطلانها واضحاً، مثل نسبة شرب الخمر للأنبياء، وادّعاء الصراع بين الله جلّ وعلا وبين يعقوب(عليه السلام)وسقوطه سبحانه على الأرض على يد يعقوب، وقالوا: إن هذه الكلمات لا تبيّن الواقع، بل هي كلمات رمزية بحاجة إلى تفسير خاص لفهمها، فماذا نقول نحن حول القرآن؟ هل نقول إن آياته نوع من الأساطير وإن كلماتها رمزية أو إنّها كلمات واقعية، استخدمت كما يستخدمها العقلاء في توضيح أهدافهم؟.
وعلى هذا فإنّ الأصل الثالث في هذا البحث هو أن كلام القرآن هو عين الواقع، وليس معنى الواقعية عدم وجود الكناية والاستعارة والمجاز. أولا تحوي المحاورات العقلية مثل هذه الموارد؟ إنّ المحاورات العقلية ومن أجل إفهام الحقائق وبيان الواقع نستفيد من الصناعات الأدبية، ولذا فإنّه يمكن استعمال الإمكان البلاغي في هذه الحوارات; ذلك لأن البلاغة هي توضيح الكلام باستعمال الصناعة الأدبية بجعل الكلام أوضح، وتمكّن المتكلم من تبيين أهدافه بصورة أوضح، ولكن هذا لا يعني أنّ هذه اللغة هي لغة أسطورية; ذلك لأنه في الحالة التي نريد بها توضيح الحقائق فإننا نفعل ذلك بواسطة التعبيرات المجازية، ولكن بسبب وجود القرينة فإن المتلقّي يدرك أن هذا التعبير هو تعبير مجازي، وإنّنا لا ننكر وجود المجازات والاستعارات والكنايات في القرآن الكريم غير أن هذا لا يعني أن أسلوب القرآن ليس واقعياً، وأن كل آياته وكلماته هي رمز وإشارة.
الأصل الرابع: وهو متفرع من الأصل السابق فهو: أن الله جلّ وعلا ومن أجل افهام الأهداف التي تحويها هذه الآيات الكريمة فقد استعمل نفس أسلوب العقلاء المستخدم في التفاهم، أي نفس الصناعات التي يستعملونها وبعبارة أخرى لم يستخدم أسلوباً خاصاً مخالفاً لأسلوب العقلاء، طبعاً هناك حالات خاصة وأساليب لطيفة جداً استخدمها القرآن، ولا يستطيع عموم الناس إدراكها، ولكن هذا لا يعني أن أسلوب بيان القرآن هو إظهار الحقائق دون سابقة، بحيث إنّنا نحتاج من أجل فهمها أن نسأل من شخص آخر، ما هو أسلوب فهم القرآن؟ وما هي أصوله وقواعده؟ بل على العكس فإننا نستخدم نفس ذلك الأسلوب العقلي، ولكن كما أن إدراك المواضيع بين العقلاء له درجات فإنه كلّما اطلع المفسر على حقائق القرآن أكثر وتوغل في فهم كلماته وأصبح مستوى فهمه أعمق فإنه من الممكن أن يتوصل إلى نتائج مستخدماً موارد دقيقة ولطيفة من القرآن الكريم، ولكن هذا لا يعني أن لغة القرآن هي غير لغة العقلاء التي يستعملونها في معانيهم وحواراتهم.
الأصل الخامس: وهو ما يبرز من كلّ الأصول السابقة، وهو أن المتكلم الذي هو الله جلّ وعلا أراد للناس ان يستفيدوا من هذا الكلام بنفس هذه الطريقة التي يستعملها الناس لبيان أهدافهم، أو على الأقل نستطيع فهم قسم من أهداف القرآن التي يستطيع كلّ من يستعمل الأسلوب العقلي، ويراعي أصول الحوار أن يتوصل إليها.
إنّ هذا الأصل الخامس يرد على آراء بعض الفرق الشافعية والتي لها خلفية أيضاً عند الشيعة.
إنّ بعض منحرفي الذوق يتصورون أن فهم القرآن وتفسيره خاص للمعصومين(عليهم السلام) وليس لأحد الحقّ في الاستفادة من تفسير غير المعصومين للقرآن أو على الأقل عدم حجية تفسير وفهم هذا المفسّر للقرآن الكريم، واستندوا إلى روايات معروفة منقولة عن ائمة أهل البيت لإثبات دعواهم مثل: ﴿إنّما يعرف القرآن من خوطب به﴾(1) وهذه الآراء غير صحيحة، فعموم المفسرين وعلماؤنا الكبار ومنذ فترة الأئمة الأطهار وحتى الآن كالشيخ الطوسي والطبرسي والعلاّمة الطباطبائي وبقية المفسرين الكبار لا يعتبرون أمر تفسير القرآن والتفاعل معه مجازاً فحسب بل يعتبرونه عبادة أيضاً بل وحتى يعتبروه واجباً في بعض الأحيان. وعلى أيّة حال ففي مقابل من يرى أنه لا حقّ لدينا وحدنا في تفسير القرآن وإذا أردنا نسبة شيء إلى الله يجب أن يكون على أساس رواية المعصوم بصورة حتمية، نقول: إنه يوجد أصل ممكن القول على أساسه أن كلّ من يراعي أصول المحاورة الدقيقة يمكنه إلى حدّ ما فهم القرآن حتى وإن كان هذا يعني أنه لا يستطيع إدراك وفهم كل حقائقه، طبعاً إن هذا الموضوع هو مبحث خاص ويستدعي الدراسة وذكر الأدلة، غير أننا تطرقنا للموضوع على أساس أنه أصل البحث دون الخوض في بحث الأدلة عليه ولكنّنا نشير إلى واحد من أفضل الأدلة عليه ألا وهو: أنه في مجال كيفية تشخيص الروايات الصحيحة (الواردة عن المعصومين) فأننا نعرضها على القرآن، أي أنها إذا كانت مطابقة للقرآن فهي صحيحة والعكس صحيح.
القسم الثاني: وهو بعد - قبولنا بالأصول التي وضعناها سابقاً - حول القواعد التي نستخدمها لفهم القرآن أي ماذا يفعل الشخص؟ ونعرض ذلك على أساس أنه موجبه جزئية - الذى يرينا الرجوع إلى القرآن وتفسيره ثم يصل إلى نتيجة تكون حجّة بصورة اجمالية، ما هو الطريق الذي يسلكه هذا الشخص كي يستفيد من القرآن بصورة سليمة؟.
الآن وبما اتفقنا عليه سابقاً حول الحق بالرجوع إلى القرآن ويكون فهمنا حجة برعاية الضوابط العقلية، فما هي الأصول التي يجب مراعاتها (في هذا المجال)؟ أيّما كانت هذه الأصول فهي تعود إلى أصول المحاورة العقلية، أي أنه ليس لدينا هنا موضوع تعبّدي إلاّ بالحجة التي سوف نشير إليها (فيما بعد).
شروط فهم القرآن الكريم
الشرط الأوّل: بما أن القرآن هو: ﴿لسان عربي مبين﴾(2) فإن الأصول العقلية تستوجب على كل من يريد فهم النص القرآني بصورة صحيحة معرفة اللغة العربية وآدابها بصورة جيدة; وعلى هذا فعليه أن يعرف جيداً معاني الكلمات وقواعد الصرف والنحو والبيان والتشبيه والاستعارة والكناية وأقسامها وأنواعها، وإذا لم يكن يعرف كلّ هذا فهو لا يستطيع الوثوق بأن إدراكه للقرآن إدراك صحيح أم لا؟ لا سيّما أنّ بعض الكلمات تكون معانيها دقيقة جداً، وإذا لم يكن يعرف جذر الكلمة بصورة صحيحة فسيكون لديه لَبس في فهم معنى تلك الكلمة، إذاً فالشرط الأول لفهم القرآن فهماً صحيحاً هو المعرفة الجيدة بأدب اللغة العربية أي قواعد الصرف والنحو... الخ، وهذا الشرط شرط عقلي، فمن كانت لغته انجليزية ولم يكن لديه معرفة بأدب اللغة الفارسية ثم أراد تفسير نص فارسي واستخلاص معنى معين منه، دون رعاية أصول الأدب الفارسي فإن العقلاء لن يسمحوا له - بدون رعاية تلك الأصول - أن ينسب شيئاً إلى صاحب النص، وهذا الكلام صحيح أيضاً بالنسبة للقرآن.
الشرط الثاني: هو أنه في كلّ اللغات تقريباً قد استخدمت صناعات مختلفة في الكلام وتكون في بعض الحالات سبباً للتشابه. وتحوي عدة معاني لا نعرف أيّاً منها حقيقي وأيّاً منها مجازي; ولذا يجب الاستفادة من القرائن المتعلقة بنفس هذه الكلمات والرجوع إلى صدر وذيل تلك الآية والآية السابقة لها، والآية اللاحقة تلك المجموعة التي يمكن أن نسميها سياق الكلام، وبلاشك فإنّ السياق يتّخذ أحياناً معنى خاصاً مفاده: أن مجموع مقطع من النص يتكون من عدة أجزاء أصغر ويطلق عليه سياقاً أيضاً، ولكن إذا وسّعنا هذا المعنى وأخذنا صدر وذيل الآية فإننا نستطيع فهم كلام المتكلم (جلّ وعلا)، ولكننا لو أخذنا جملة قصيرة من احدى الآيات ولم ندقق في صدرها وذيلها وما قبلها وما بعدها فإننا لن نستطيع أن نتأكد أننا فهمنا الآية بصورة صحيحة، وقد وصل الينا كثير من هذه المغالطات; وذلك عندما يؤخذ قسم من الآية ويستند عليه دون العناية بصدرها وذيلها أدى ذلك إلى انحراف في الأذهان.
الشرط الثالث: وهذا الشرط يشبه الشرط الثاني، وهو كون القرائن اللفظية منفصلة عن الآية، فالنظر إلى أن قائل كلّ آيات القرآن حكيم لا يتطرق إليه اللهو والنسيان والغفلة... الخ فعليه يمكن وضع الكلمات المختلفة في آيات أخرى قرينة لفهم آية ما; أي أننا لو أردنا أن نعرف أننا حصلنا على فهم صحيح لآية ما، وأن هذا الفهم هو نفسه وليس غيره يجب أن نراجع الآيات المختلفة المشابهة للآية المطلوب تفسيرها أو الآيات التي يحتمل أن تكون مفسّرة (وموضحة) لهذه الآية بصورة من الصور، أي أن نأخذ في اعتبارنا كلّ القرآن من أجل تفسير آية واحدة، وطبعاً أن القول بوجوب مراجعة القرآن كلّه لفهم آية واحدة فيه مبالغة، ولكن على الأقل نأخذ نصب أعيننا الآيات المماثلة لتلك الآية والتي تستطيع مساعدتها في فهم تلك الآية المقصودة، وهو الأمر الذي ذكره أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) عندما قال: (إن القرآن يفسر بعضه بعضاً)(3) وعلى هذا الأساس فإن الاستناد على كلّ كلمات القائل من أجل فهم عبارة خاصة (من حديثه) هو منحى عقلي وليس تعبديّاً، ويكون الأمر على هذا الشكل في القرآن أيضاً، لأن قائله جلّ وعلا لا يغفل أبداً، أما المتحدثون الآخرون فقد ينسون ما قالوا أو يجدّدون نظرهم أو يحدث لهم اختلافاً في الرأي يبدّل نظرهم السابق، ولكن هذه الاحتمالات ليست موجودة في القرآن. (أما قضية الناسخ والمنسوخ فهي ترتبط بالحدود الزمنية لمعنى خاص) وعلى أية حال فإن الرجوع إلى سائر الآيات لفهم معنى آية ما استناداً إلى القرائن اللفظية المنفصلة هو أيضاً أحد الأصول التي يجب مراعاتها لأجل فهم القرآن.
الشرط الرابع: الاستفادة من القرائن التاريخية: يعتبر هذا الأمر مهماً; لأنّه جزء من الجوانب العقلية لا التعبدية، فإنّ كلّ متكلم عندما يتحدث مع مخاطبه فإن لديهما اتفاقاً مشتركاً بمعنى أنهما التزما بفرض أن اللفظ الفلاني يفيد المعنى الفلاني، ويدركان أيّ موضوع يعني هذا الحديث، وما هي الخصوصيات التي جاء بها المتكلم لتوضيح ذلك الموضوع.
إنّ الجملة التي تقال في جو خاص يفهم منها شيء قد لا يفهم من نفس هذه الجملة في جو آخر، ففي قصة سليمان عليه السلام وبلقيس مثلا وردت بعض الخصوصيات فيما يخص ملك بلقيس منها: «وأوتيت من كل شيء» فلو أننا اخذنا هذه الجملة فقط في إعتبارنا لا ستوعبت دائرة واسعة من الجوانب المادية وغير المادية أيضاً، وان كل ذلك يندرج ضمن كلمة كل شيء، ولكن هل كانت بلقيس فعلا تملك كل ذلك؟ كثيرة الاشياء التي لم ترها بلقيس ولم تسمع بها أبداً، ناهيك عن استخدامها لها، ولكن عندما نأخذ جو الحديث بنظر الاعتبار نفهم أن لديها امكانات الملك والحكم وأن جو الخطاب يؤشر على أن معنى ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْء﴾(4) ليس المعنى العام الذي يلقيه اللفظ في الذهن، ولكن كيف نعرف ذلك الآن في الوقت الذي ليس هناك جملة سابقة ولا جملة لاحقة تقدم لنا أي خصوصية في فهم المعنى؟ ولكن جو الحديث يفهمنا أنه عندما نقول عن ملك بأن ملكه لانقصان فيه; فأن ذلك يعني أن لا نقص لديه في كل ما يحتاجه من أجل أدائه سلطته وملكه وأنه لا يملك (بالطبع) كل امكانات هذه الدنيا.
إن الاهتمام بزمان نزول الآيات وخصوصياته يندرج ضمن هذا الاطار أيضاً، إن من يدقق في صدور النص والمفهوم الذي يستخلصه العقلاء من ذلك النص سوف يؤشر على دقة فهمه له طبعاً، ففي كل هذه المواضيع هناك مزالق، فمن الممكن ان يحمل أحد ما بصورة اعتباطية شيئاً إلى معنى النص لا وجود له في الواقع أو يغفل عن امور تكون مهمة لفهم كلام الخالق... الخ، وبلا ريب ففي كل قاعدة افراط وتفريط والتباسات أيضاً، ولقد جاء المنطق لكي لا نخطىء في الاستدلال العقلي، ولكن هل أن كل من يعرف المنطق تكون استدلالاته سليمة؟ والجواب هو النفي لأنه قد يغفل عن أمر ما وقد لا يستخدم القواعد بصورة صحيحة، غير أن هذا الكلام لا يعني عدم جدوى المنطق. وعلى هذا فإن احدى اتجاهات الفهم الأدق هي العناية بجو التخاطب او سبب النزول والظروف التاريخية التي صدر كلامه (عز وجلّ) فيها.
اذاً فكل موضوع يبدو واضحاً امام العقل، ولا يتردد العقلاء أدنى تردد حول معناه في الظروف العادية فإنه يمكن قبوله. وطبعاً فقد كانت هناك شكوك مطروحة حول كل بديهية من البديهيات على طول التاريخ; حتى وصل الأمر بهم إلى القول بعدم وجود بديهيات مطلقة وإن كل شيء نسبي.
طبعاً إن هذه الشكوك منحرفة ولا يعتقد - ابتداءاً - أي عاقل ابداً، أن هذه الامور تتولد على اثر الشبهات، أن أي عاقل ذي ذهنية خالية من أي شك خاص ولم يتلزم بموقف مسبق وغرض معين عندما يواجه أمراً فإنه يعتبره امراً قطعياً; فمثلا عندما اتحدث الآن واقول إن المصابيح مضاءة فإن أصلا لا يعتريه الشك بهذه الحقيقة (وهو يرى المصابيح مضاءة أمامه) ولكن السوفسطائيين يعتبرون أن كل ذلك قابل للشك، او كما يقول ديكارت في مذهب شكه المعروف: (كيف أعرف أني لا أرى حلماً؟ لعل كل الذي أراه هو حلم).
قد يكون كل هذا الواقع (مجرّد) حلم، إن مثل هذه الشكوك موجودة ولكن العقلاء لا يهتمون بهذه الشكوك المنحرفة، فلو أن احداً استخلص فهماً معيناً لنص ما يخالف ما يقبله الافراد سليمو الفطرة وما تقبله عقولهم في جو عقلي فإن فهمه هذا سيكون مرفوضاً لدى جمع هولاء العقلاء، إن معنى هذا هو أن القرائن العقلية يمكن ان تكون مؤثرة لفهم المعنى من الكلام، طبعاً هناك مكان لأن يتحمّل الكلام معنين مختلفين أحدهما موافق للعقل والآخر مخالف له وإن كان احدهما ظاهراً والآخر أظهر، أحدهما نصاً والثاني ظاهر النص، وعلى أية حال إذا صدر الكلام من عاقل حكيم كالخالق جل وعلا ثم استخلصنا منه نتيجة معارضة لبديهيات العقل فإن هذا الاستخلاص خاطئ، ولهذا فالشواهد العقلية مع الشواهد اللفظية والشواهد التاريخية وظروفها تكون مهمة لفهم بعض الآيات، وإذا استخلصت فهماً من احد النصوص وتصورنا أن هذا الفهم واضح ايضاً ولكنه نقيض البرهان العقلي فإن البرهان العقلي نفسه سيكون دليلا على خطأ هذا الفهم، فعلى سبيل المثال: الآيات التي تبدو حسب ظاهرها ليتصورها الإنسان أنّها تدل على جسم الخالق سبحانه مثل: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَا لْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾(5) ﴿الرَّحْمَـنِ عَلَى اَسْتَوَى﴾ في الوقت الذي وصف فيه الخالق نفسه بأنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾(6) وعندما يقال: ﴿جَآءَ رَبُّكَ﴾ فإن تصوراً بدنياً ليتبادر إلى الذهن; ولذا علينا أن نترك فهمنا الأول ونقول: إن لدينا شاهداً عقلياً يناقض هذا الفهم، وعلى هذا الشكل تساعدنا الشواهد اللفظية والتاريخية على الفهم.
إن الشواهد العقلية يمكنها مساعدتنا على الفهم الصحيح، ولكننا يجب ايضاً أن ندقق فيما تعنيه الشواهد العقلية.
إن الشواهد العقلية هي وبصورة عامة ما يقبلها كل العقلاء، فإذا قال أحد إني أفهم الأمر بهذه الصورة، وقال الآخر كلا إني أفهم الأمر بتلك الصورة فالواضح أن فهم كلّ منهما ليس صحيحاً، فإنّ ما فيه اختلاف لا يمكن للعقل ان يستند عليه، إن الفهم إذا كان عقلياً فإن كل عاقل يستطيع ادراكه إلا إذا لم يتصور القضية بصورة صحيحة.
وفي الموقع الذي توجد فيه قرينة عقلية نستطيع ان نفهم المعنى باستخدام الضوابط العقلية، تلك الضوابط التي يستخدمها العقلاء في تفاهمهم، ونقاشهم.
لقد بيّن القرآن الكريم أن مهمة الرسول (صلى الله عليه وآله) تندرج في عدة امور هي تلاوة القرآن، وتعليم الآيات، وأمر آخر هو التزكية ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ا لْكِتَابَ وَا لْحِكْمَةَ﴾(7) ومن هنا ندرك أن التعليم هو من واجبات الرسول (صلى الله عليه وآله) وأن هناك اموراً يجب ان يوضحها الرسول لنا ولا نستطيع ادراكها لو اكتفينا بفهمنا لها فقط، فالملاحظ هنا حاجتنا لمن يعلمنا: والآيات المجردة لا تكفي لوحدها فقط. ولو كانت مهمة الرسول (صلى الله عليه وآله) هي فقط تلاوة القرآن لحددت في ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾، فقط غير أنه توجد آية اكثر صراحة من هذه الآية وهي (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَانُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(8) أي أن ما انزله الله فقد أنزله جل وعلا إلى الناس ونحوهم، وبعبارة اخرى أن هذه الآيات - فهماً - يجب ان ينتهي اليهم أما: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَانُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ فهو يعني توضيح (وتفسير) ما أنزل للناس، وهذه الآية دليل قاطع على أن الرسول هو مفسر للقرآن الكريم، وتدل على أن القرآن بحاجة إلى من يفسره، ذلك التفسير الذي يجب أن يتكفل له الرسول(صلى الله عليه وآله). إذاً وبصورة عامة فإننا لا نستطيع أن نفهم كل آيات القرآن الكريم فهماً كاملا دون العودة إلى الرسول او على الاقل في بعض المواضيع التي يجب فيها وبصورة قطعية العودة إلى كلام الرسول (صلى الله عليه وآله)والاستعانة به.
ان اكثر وأوضح الموارد في هذا المجال هو تفصيل المجملات، أي أن هناك في القرآن بعض المواضيع التي طرحت بصورة اجمالية كليّة، ولكن هذا البيان الإجمالي لا يرشد إلى الطريق ولا يبين الهدف والقصد النهائي بصورة جلية، ويجب الاستعانة بالتوضيح والتفصيل (لأجل فهمه). فهناك مثلا آيات كثيرة حول الصلاة، غير أن أي من هذه الآيات لا تتناول كيفية الصلاة وعدد ركعاتها، وهذا الأمر الذي اشار اليه الائمة الأطهار في الرواية التي فيها: إن احد اصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) قد سأله عن السبب في عدم وجود اسماء الائمة الإثني عشر في القرآن الكريم ولم يذكر في القرآن الكريم أن الإمام عليّاً عليه السلام هو الخليفة من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ فرد عليه الإمام الصادق عليه السلام بأن الله قد قال في كتابه: ﴿أَقِيمُواْ الصَّلاةَ﴾ فهل ذكر عدد ركعات صلاة الصبح؟ فقال السائل: كلا فقال: الإمام (عليه السلام) اذاً فمم عرف الناس كيف يقيمون صلاتهم، لقد عرفوا ذلك من الرسول(صلى الله عليه وآله) ثم سأل الإمام محدثه، لقد ذكر القرآن ﴿وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ فهل وضح عن أي شيء وما هو مقداره، وكيف يحسب مقداره؟ فقال: كلا، فقال الإمام(عليه السلام): فكيف عرف الناس بم تتعلق وما حد نصابها؟ ثم قال(عليه السلام): اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الأمر مثل أقيموا الصلاة، فإن على الناس واجباً أن يذهبوا إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) ويسألوه، ولقد ذهبوا وسألوه صلوات الله عليه، وبيّن لهم ان اولي الأمر هم الائمة الأطهار، وكان من جملة من سأل الرسول جابر بن عبد الله الأنصاري الذي سأل الرسول الكريم عن تفسير اولي الأمر ومن هم؟ ومن الذي تجب علينا طاعته؟ فعرفه الرسول بالائمة الإثني عشر(9).
إذاً فقد صار واضحاً ونفرض ذلك أيضاً بصورة الموجبة الجزئية أنه ولفهم بعض المواضيع من القرآن الكريم فإن الأمر يتوقف على الرجوع إلى اهل البيت (عليه السلام) لأجل فهمها. لا سيما في الموارد التي يوجد فيها اجمال وابهام فيلزم منه لبيان أوضح وجوب سؤال المعصوم، وهذا الباب هو تخصيص العام وتقييد المطلق.
ولكن هل طرح في اصولنا أن السنة الشريفة يمكن أن تكون مخصصة للامام أو مقيدة للمطلق في كتاب الله ام لا؟
لقد استخدمت أنا نفسي مثالا في بعض الحالات، وأتصور على الأقل أن من لديه انصاف سيعتبره توضيحاً مقنعاً، فقبل عدة سنوات التقيت بأحد ممثلي الفرق المنحرفة، وقال في خلال نقاشنا بأن علي ان استخدم القرآن فقط ولن يقبل بشيء لم يرد في القرآن قلت: أسألك سؤالا ثم افعل وما تريد وسألته هل إن لحم الكلب حلال أم حرام؟ فقال: إنه حرام، فقلت اعطني دليلا من القرآن فقال: إن هذا من الأمور الواضحة، وكل المسلمين يعرفون ذلك، وعجز عن اعطاء الجواب فقلت: هل تريد أن أثبت لك من القرآن الكريم ان لحم الكلب حلال؟ فقال: وبأي دليل؟ قلت: ان القرآن الكريم يقول: ﴿قُل لاَ أَجِدُ فِي مَاأُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ﴾(10) إن هذه الآية تشير إلى ان كل شيء حلال عدا هذه الموارد الأربعة: - ولذا فإن لحم الكلب حلال استناداً إلى هذه الآية! إن سرّ الموضوع هو أن القرآن قد بين ان توضيح المجملات يقع على عاتق الرسول الاكرم صلوات الله عليه، وأن حديثه حجة في هذا ويمكن لنا الاستدلال بحديثه.
إذاً فالقاعدة الأخرى التي يمكن استخدامها لفهم القرآن هي: أن حديث الرسول صلوات الله عليه - وبالنسبة للمسلمين الشيعة حديث الائمة الأطهار أيضاً. هو حجة في توضيح مجملات القرآن وتفسير كل ما يحتاج إلى تفسير، ولن نستطيع التأكد من صحة ما نسبناه إلى القرآن دون الرجوع إلى أحاديثهم.
القسم الثالث: هو أنّ الردود التي طرحت للردّ على الشبهات (في الموضوع الذي سنتطرق اليه) هي ردود مفصّلة، ولكني أتطرق هنا للرد على شبه عامة موجودة، وهي أنّنا قد شاهدنا على طول التاريخ أنّ هناك تبايناً كثيراً في وجهات نظر المفسرين يصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان، فيقول أحدهم: إن هذه الآية تعني هذا فيما ينفي الآخر ما جاء به الأول نفياً صريحاً، وإذا كان علينا العودة إلى القرآن ونطالع التفاسير فأي رأي نقبل من هذه الآراء المختلفة؟ وسأعرض جواباً شمولياً لهذا السؤال فأقول: إنّه ولكي نفهم مواضيع من القرآن فيجب علينا وبصورة قاطعة رعاية القواعد التي ذكرت في البحث، وأحياناً بعض القواعد الاخرى التي يجب اضافتها لأجل هذا الفهم، والدليل هو أنه عندما نوضحها لأي عاقل محايد ونبيّن له كيفية استخدامها فإنه سيصل إلى نفس تلك النتيجة، أي أن مثل ادراكنا هذا سيكون حجة وبصورة قطعية ومؤكدة.
أما في المواضيع ذات الشك والتي فيها اختلاف في وجهات النظر فإن الموضوع سيكون مثل مواضيع الشك الاخرى في بقية فروع العلوم، ففي كل فرع من فروع معرفة الإنسان هناك جانب يقيني وجانب ظني، والجانب اليقيني هو مورد القبول من الكل وممكن للجميع الركون اليه، اما القسم الظني فإن اصحاب الخبرة ومن لديه الصلاحية الكافية للاجتهاد في هذا العلم فإن لديهم الحق في بيان وجهات نظرهم.
وإذا رغب الآخرون فعل ذلك فعليهم أيضاً وطبقاً للأصول العقلية العودة إلى الأعلم في هذا العلم وأخذ، رأيه، وإذا كانوا بحاجة عملية لذلك فلا بد من القبول بقول احد الطرفين المتناقضين، ولكن إذا كان الأمر اعتقادياً وليس له ارتباط بالعمل فليس هناك الزام بأن يعتقد الإنسان أن أحد أطراف هذه القضية صحيح أو أن طرفها الآخر هو الصحيح وأن شخصاً آخر يمكن أيضاً أن يقول: إن ظني هو هكذا ولكن دون أن ينسب معنى اعتقادياً خاصاً للقرآن الكريم، ففي قضية الحياة البرزخية مثلا وطريقة السؤال والجواب في القبر وكيفية الاجابة... الخ وهي قضية طرحها كل المتكلمين فيجب النظر فيما إذا كان إلزاماً علينا وواجبا أن نختار نظرية خاصة أم لا؟ لأنه لا دخل لهذه القضية بالعمل فيكفي هنا الأخد بقول الإمام الصادق (عليه السلام) بأنّ كلما يقوله الائمة الأطهار في هذا الموضوع هو الصحيح، ومن الممكن ان يستند شخص ما في بحثه على ادلة عقلية أو لفظية، ويرجح رأياً على الآخر، فإن الاسلام يقول لابأس في ذلك ولا يلزم منه حتمية نسبته إلى القرآن الكريم، ويجب عليه القول إن ظني هو أن هذه الآية تعني هذا المفاد، وبما أنه لا يملكدليلاً قاطعاً فعليه القول (أيضاً) أن ما بيّنه الائمة الأطهار(عليهم السلام) هو الشيء الصحيح، إذاً ففي مثل هذه الموارد وعلى الرغم من وجود اختلاف في وجهات النظر فإننا نحترم كل هذه الآراء ولا نتّهم أحداً في غير الضروريات بالكفر والزندقة، لأن تلك الضروريات هي من القسم الأول، ولأنها قطعية، ويستطيع الكل الاستناد عليها، واُسلوب العقلاء هو أنهم يعتبرون أن هذه الضروريات حجة، اذاً فلا وجود للقراءات المختلفة، بللا وجود للاجتهادات المختلفة كذلك، إذ أن الجميع يفهمون الضروريات على صورة واحدة، وليس هناك أي احتمال إضافي فيها إلاّ إذا كان لأحد غرض ما.
أما الجوانب الظنية حيث توجد وجهات نظر متباينة فإن أصحاب الرأي - وهم الذين امتلكوا الصلاحية العلمية الكافية - فلهم الحق في طرح وجهة نظرهم مع نسبة احتمال وجود الخطأ، أي أنّه يمكنهم القول بأن تصورنا هو كذا، ولكننا لا ننسب ذلك بصورة قطعية إلى الله لاحتمال أن يكون هناك معنى آخر، وأن اعتقادنا القلبي على أية حال هو ما قاله الأئمة الأطهار(عليهم السلام) وهو سند معتبر عندنا.
1- بحارالأنوار 24: 238، عن الروضة من الكافي: 312، ذيل الحديث 485.
2- النحل: 103.
3- بحار الأنوار 75: 218 رواية 186 باب 1.
4- النمل: 23.
5- الفجر: 22.
6- الشورى: 11.
7- آل عمران: 164.
8- النحل: 44.
9- بحار الأنوار 36: 250 رواية 67 باب 41.
10- الأنعام: 145.