من الفساد في الأرض

التهديد لتماسك المجتمع

إن هناك حاجات رئيسية وحقوقاً أساسية يضمنها هذا الاجتماع، ولولاها لا يمكن لهذا التجمع أن يستمر نحو أهدافه، وهي حاجات طبيعية تفرضها حالة الانسان الطبيعية، من غذاء، وسكن، وأمن، بغض النظر عن هويته الفكرية والسياسية، وتصاغ الأنظمة والقوانين والأعراف والمواثيق والعهود لتحفظ أمن المجتمع وسلامته داخلياً وخارجياً من جيرانه، وكذلك لتأمين وضع اقتصادي يضمن سبل المعيشة المناسبة وتطورها، لأفراد المجتمع مأوىً أو سكناً مناسباً، ويؤمن لهم ولأولادهم حياة كريمة محترمة. جميع هذه القضايا وما يشابهها تدخل في ضمن الأمور الحسبية، التي تعد من بركات المجتمع الانساني وعوامل وجود المجتمعات، ولها الأثر في حفظ استمرار المجتمع، ولذا فهذه الحاجات والضمانات (الأمنية والاقتصادية والاجتماعية) تعد حقوقاً أساسية في كل مجتمع، وأي تهديد لهذه الحاجات أو خلل في تلبيتها أو كفايتها، وذلك من خلال إضعاف عوامل وجوده، وشلّ روابطه التي تحفظ استمراره واستقراره، وإحداث خلل بالمواثيق والاتفاقات والعهود بين أفراده، يعدّ تعدّياً على تلك الحقوق.

القرآن الكريم يسمي التهديد لهذه الحاجات الأساسية، والإخلال بهذه المواثيق والروابط التي تحفظ تماسك المجتمع، والتي تشكل البنية التحتية لأي مجتمع مدني، بالافساد في الأرض، وهي عملية مستهجنة ويقدّر عموم أفراد المجتمع خطرها وآثارها المدمرة، ولذا اعتبر الحفاظ على هذه الوحدة الاجتماعية المستندة لهذا العامل أمراً مطلوباً من الجميع; لأنها تمس حياتهم جميعاً. ويتعرّض القرآن بشكل مفصّل تحت عنوان الإفساد في الأرض إلى ضمانات الأمن الاجتماعي، وخصوصاً الداخلي منه، وكذلك يتعرض إلى الحاجات الاقتصادية وسلامتها، كما يتعرض إلى المواثيق والعهود والروابط التي تحفظ المجتمع، وإلى خطر تجاوز العهود وانحلال الروابط.

وهناك جانب آخر من حفظ المجتمع واستمراره وتكامله يرتبط بنوع المثل الأعلى لذلك المجتمع، والروح الثقافية التي تبلور شخصية ووجود هذا الكيان الاجتماعي، واثر ذلك على استمرار المجتمع وتكامله، والخلل في نوعية المثل الأعلى الذي يشكل هوية كل مجتمع والتي تنعكس آثاره على تماسكه، فنوع المنهج والنظام السياسي السائد، ومدى ارتباطه بالله وسيادته ومولويته على كل جوانب الحياة، وتفاعل المجتمع معها بالطاعة والقرب والحركة التكاملية باتجاه الله وصفاته، ينعكس ذلك على آثار هذا القرب من الحق على سعادة هذا المجتمع ورقيه وتماسكه(1): ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾.

الفساد والكفر

إن عملية الهداية والإرشاد التي يقوم بها الأنبياء والأولياء والصالحون، والتي تستهدف نقل المجتمع من حالة إلى حالة أرقى وأكثر كمالاً، قد تؤدي في آثارها إلى تغيرات في الروابط الاجتماعية والمواقع والأدوار، مما تنعكس آثارها على الاتفاقات والأعراف والقيم السائدة والتي كان مما سبق يمكن أن نقول: إن موضوع الفساد غير موضوع الكفر، فالكفر مجاله الظلم والخطأ في المعتقد، والجحود بالله وكفران نعمته، أمّا الفساد فموضوعه عمل الانسان وفعله ونتاجه وعلاقاته وروابطه.

إن مما لا شك فيه أن المعتقد سواء كان الإيمان أو الكفر يلقي ظلاله على السلوك والعمل، ومجمل حياة الانسان وارتباطاته المختلفة، سواء مع الطبيعة أو مع الانسان، إلاّ أن ظاهرة الفساد كما تشير اكثر الآيات القرآنية تتعلق بسلوك الانسان وتجاوزاته كظاهرة اجتماعية.

الفساد والظلم

يستعمل القرآن الكريم مصطلح (الظلم) في موارد كثيرة واستعمالات متعددة، فمصطلح (الظلم) يشمل في القرآن الكريم ظلم الانسان نفسه بالكفر والجحود والمعصية، وظلمه أخاه بتعديه على حقوقه، وظلم الحاكم للمجتمع بقهره واستعباده، وظلم مجتمع لمجتمع بالعدوان عليه، وظلم مجتمع أو قوم لنبي بتكذيبه ومحاربة دعوته. ويبدو أن الفساد قد يشترك مع بعض أشكال الظلم الذي يكون موضوعه المجتمع، فيزعزع استقراره وتماسكه وانسجامه ككل. وسوف نتناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل عند بحث مصطلح الظلم في القرآن الكريم.

الفساد والإصلاح

لعلّ ما يقابل مصطلح (الفساد) في القرآن الكريم هو مصطلح (الإصلاح) ، وقد اقترن كثير من الآيات التي تذكر الفساد في الأرض بموضوع الاصلاح، حيث ذُكر في اكثر من مورد (بعد إصلاحها)، أو ﴿ينهون عن الفساد في الأرض﴾، أو ﴿يفسدون في الأرض ولا يصلحون﴾، وما شابه من الموارد.

والسؤال الذي يطرح هنا هو إلى أي صلاح تشير هذه الآية: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾؟ حيث يفهم أن هناك حالة صلاح، وما يعني من استقرار وسلام وتوازن وعدالة واتساق في الموازين، وأن هناك عملية افساد وخراب لهذا الصلاح والاتساق والتوازن.

قد يكون الإصلاح الذي تشير إليه الآية الكريمة هو الصلاح الطبيعي والفطري والتكويني الذي خلق الله عليه الممكنات: ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه﴾، و ﴿الذي خلق فهدى﴾، أي الإشارة إلى واقع الصلاح الذي يعم نظام الخلق والكون.

والاحتمال الآخر الذي يمكن ذكره في واقع الاصلاح هنا، هو الاشارة إلى دور الأنبياء في حفظ الاعتدال والاستقامة في المجتمعات الانسانية، فقد كانوا(عليهم السلام) سبباً في حفظ الوجود الانساني وكيانه الاجتماعي واستمرار النظام الكوني.

ويمكن أن تكون الاشارة إلى الأمرين معاً، الصلاح الفطري والتكويني، والإصلاح الإرشادي التبليغي بفعل الرسل والانبياء والأولياء والمصلحين، الذين لولاهم لساخت الأرض بمن فيها.

فيمكن القول: إن يصف حالة معينة عامة، وينقل تارة عن لسان المتشرعة، وتارة عن عامة الناس، وتارة عن المناوئين للرسالة. وقد يكون لكل مدرسة واتجاه فلسفي أو سياسي تحديد خاص لمضمون هذا المصطلح، وتفسير لهذه الظواهر وتقييم خاص لها، وفهم لطريقة علاجها والتعامل معها، وقد يلاحظ الموضوع بزوايا مختلفة حسب توجه الناظر وتقييمه وفق فهمه ومصلحته.

الفساد في الأرض

هناك شبه تلازم في القرآن الكريم بين مصطلح (الفساد) وبين كلمة (الأرض)، وإذا قمنا بعملية إحصائية بسيطة، فسوف نجد أن الكتاب الحكيم استخدم كلمة (الفساد) وتصريفاتها بحدود خمسين مرة، وفي جميع هذه الاستخدامات كان يرد اسم الأرض أو اشارة اليها، ما عدا إحدى عشرة مرة لم يرد فيها ذكر الأرض; لأن الاستعمال كان في معرض وصف عمل المفسدين وعاقبته: ﴿فانظر كيف كان عاقبة المفسدين﴾، أو في معرض الدعاء: ﴿قال ربي انصرني على القوم المفسدين﴾، أو في معرض بيان إحاطة العلم الالهي: ﴿وربك أعلم بالمفسدين﴾، وتكرر هذا المقطع اكثر من مرة، فيكون الاستعمال الاكثر تكراراً. وفي مختلف صور استعمال كلمة الفساد جاءت مقترنة بكلمة الأرض، وهو الغالب في الاستخدام القرآني، وجاءت مرة مقترنة بذكر البر والبحر، ومرة أضيفت السموات إلى الأرض. وبذلك يمكن القول: إن الاستعمال الغالب الذي به يمكن أن يشكل مصطلحاً قرآنياً ذا معنىً خاص ومضمون محدود، يمكن استكشافه من دراسة عموم الآيات وسياقها، التي ورد فيها ذكر الفساد مقترناً بكلمة الأرض، كما نلاحظ هذه المجموعة من الآيات: ﴿ولا تبغ الفساد في الأرض﴾. ﴿مفسدون في الأرض﴾. ﴿ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾. ﴿أو أن يظهر في الأرض الفساد﴾. ﴿لتفسدن في الأرض مرتين﴾. ﴿ولا تفسدوا في الأرض﴾. ﴿ما جئنا لنفسد في الأرض﴾. ﴿ويسعون في الأرض فسادا﴾. ﴿كالمفسدين في الأرض﴾. ﴿فساداً في الأرض﴾. ﴿لفسدت الأرض﴾.

نخلص من هذا الاستعراض أن ذكر الأرض إشارة إلى عموم وسعة ما يشمله موضوع الفساد، فظاهرة الفساد التي يشير إليها القرآن الكريم ليست ظاهرة فردية أو شخصية، أو محدودة بمجتمع ضيق أو حالة معينة خاصة، بل هي ظاهرة تعم المجتمع الانساني بغالبيته، فالمواضيع التي يطلق عليها القرآن الكريم مصطلح الفساد، تشمل الظواهر الانسانية العامة والواسعة التي يصح اطلاق (الفساد في الأرض) عليها.

وقد نجد أن القرآن الكريم ينتقد أو يحذّر من بعض الظواهر ويطلق عليها لفظ الفساد، وهي لا تتصف بتلك السعة والشمولية، لكن عمق خطرها وأثرها السيء يؤدي إلى فساد المجتمع كله، أو الحضارة السائدة، بحيث يمكن أن تدخل تحت عنوان الفساد في الأرض.

المعنى اللغوي للفساد

لعلَّ من المفيد تناول المعنى اللغوي للفساد من خلال معاجم اللغة، لنقارن بينه وبين استعمال القرآن لهذا المصطلح.

قال ابن منظور: (الفساد نقيض الصلاح... وتفاسد القوم: تدابروا وقطعوا الأرحام... واستفسد السلطان قائده إذا أساء إليه حتى استعصى عليه، والمفسدة خلاف المصلحة، والاستفساد خلاف الاستصلاح)(2).

وعن الراغب: (الفساد خروج الشيء عن الاعتدال، قليلاً كان الخروج عنه أو كثيراً)(3)، ويضاده الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستفادة.

وإذا حللنا ما أورده علماء اللغة يمكن أن نخلص إلى أن الأشياء لها وظائف تؤديها، ومهامّ تقوم بها، وأدوار متوقعة منها، وهذا هو صلاحها، فعند وجود خلل أو نقص في أداء الشيء لهذه الوظيفة أو المهمة أو الدور، يمكن أن نقول عنه إنه فسد، وهذا الخلل ناتج من خروج الشيء نفسه عن وضعه المتعارف عليه، فهو خلل أو خروج عن الاعتدال والاستقامة من داخله، أي إن لكل شيء مهمته المناسبة له، ففساد الآلة بخرابها، والجسم بمرضه وضعفه، والثمرة بفقدان طعمها، والدولة بنكوصها عن أداء مهماتها، وذلك بعدم انسجام أعضاء مجتمعها، وتنافر مجاميعه، وفقدان الأمن والوحدة الاجتماعية اللذين يحفظان تماسكه.

والفساد أمر مرفوض ومستهجن بالوجدان، وعند العقل العملي بشكل عام، فإن النفس لا تميل إليه ولا تسعى له، كما هو حال كثير من القضايا التي يُحسّنها العقل أو يقبّحها، بغض النظر عن مصاديقها، وكذلك الحال في الصلاح الذي هو أمر مرغوب ومقبول وتميل له النفس، ولذا نجد الانسان يرفض صفة الفساد في الأشياء، وينفر منها ويسعى إلى إصلاحها إن أمكنه.

الاستعمال القرآني للفساد

من خلال تناول القرآن الكريم لهذا المصطلح. إن القرآن الكريم لا يستعمل مصطلح الفساد بمعناه الشرعي الخاص فقط، فقد نقله تارة عن لسان العصاة والظالمين في وصفهم لحركة الأنبياء والصالحين، كما في وصف أتباع فرعون لدعوة موسى وحركته الاصلاحية بقولهم: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض)، أو وصف فرعون لدعوة موسى بقوله: (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)، أو قول بلقيس في وصف عمل الملوك: (إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة).

وتارة يستعملها معبراً عن رأي السماء والشريعة في وصف الطغاة أو الخارجين عن الشريعة، أو في التحذير من عمل يؤدي إلى الفساد، كقوله تعالى: ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً﴾(4)، وقوله: ﴿إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير﴾(5)، وقوله: ﴿وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها﴾.

مصطلح (الفساد) في القرآن الكريم لا يدل على ماهو متعارف عليه في أذهان عامة الناس، من أنّ كلمة الفساد تعني عدم الالتزام الشرعي، وبخاصة فيما يتعلق بموضوع الأحكام الشرعية، التي تتعلق بالسلوك الشخصي للانسان، كشرب الخمر والزنى وعدم أداء الفرائض وسوء الأخلاق وما شابه.

إن المعنى الذي يطرحه القرآن الكريم لهذا المصطلح، أوسع بكثير مما هو متعارف عليه في أذهان عموم الناس.

الإنسان وظاهرة الفساد

إن الانطباع الأول الذي تبادر عند الملائكة حينما خلق الله آدم، وأخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة، كان استفهاماً استغرابياً عن إنشاء هذا المخلوق الجديد، وذلك قولهم: ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾.

فهل كانت الأرض مكاناً يسوده الاطمئنان والسلام والهدوء، لا فساد فيها ولا خراب، ولا تجاوز ولا تعدٍّ. حتى كان هذا المخلوق المكرّم عند الله هو مبدأ الفساد وسفك الدماء؟حيث عرّفته الملائكة بهذين الأمرين المستهجنين، وكان من الرد الرباني على هذا الاستغراب الملائكي: ﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾، إشارة إلى سر في هذا المخلوق، وحكمة في وجوده على الأرض وطبيعته ومسيرته وتكامله فيها. ولعلّ في الجواب الالهي للملائكة اقراراً بهذا الجانب في الظاهرة الانسانية، وكأنّ الفساد وسفك الدماء ملازمان لطبيعة الانسان، بما تملكه من قدرة على الاختيار والارادة والتجاوز: ﴿إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً﴾.

وفي هذا المشهد القرآني الذي يقصّ علينا خلق الانسان، وموقف الملائكة فيه، يمكن أن نثبت عدة قضايا وأفكار وملاحظات نجدها منتشرة في ثنايا آيات الله، بشكل مباشر أو إشارات أو تأكيدات، وبهذا نجد القرآن يفسر بعضه بعضاً، ونجده نسيجاً واحداً يتحدث عن حقائق مترابطة ومتكاملة في منظومة خاصة.

بعد هذه المقدمة التي جعلناها مدخلاً لبحثنا، وخرجنا منها بحقيقة أن الفساد ظاهرة انسانية، تحكمها قوانين الانسان فرداً ومجتمعاً، وأن ما يقابل هذه الظاهرة هو الصلاح والإصلاح، وأن حركة التضاد الموجودة بين هاتين الظاهرتين هي من العوامل التي تحكم مسيرة الأمم على الأرض، ومن ثم تحكم مسيرة الانسان ونهاية الأرض: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون﴾.


1- راجع الشهيد الصدر في محاضراته القرآنية وفي آثار العبادة على المجتمع.

2- لسان العرب 3: 335.

3- معاني القرآن: 379.

4- القصص: 83.

5- الانفال: 73.