موانع الفساد

التدافع بين الأمم

﴿فهزموهم فإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾(1).

﴿أُذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربّنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبِيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوي عزيز﴾(2). جاءت هذه الآية بعد آية الجهاد التي أذن فيها للمسلمين بقتال الكافرين، فهي في معرض تفسير وإيجاد إطار وخلفية لهذا الإذن، وبيان ملاكات الحكم بالجهاد والقتال.

فهي إذن متعلقة بالجهاد والصراع والقتال بين أهل الأرض، وبعبارة أدق بين أهل الايمان والكفر، ولولا هذا الإذن بالجهاد ورد أهل الكفر، لكانت نتيجته أن هدّمت مواطن العبادة والحق والخير في الأرض، فهو إذنٌ عام لكل أهل الله ومسيرة الايمان أن يواجهوا بقتال وسلاح أهل الكفر، الذين تعدوا الحقوق وطردوا المؤمنين وهجّروا أهل الخير وأخرجوهم من بلادهم.

إن الله تعالى أذن للجماعة المؤمنة أن ترد الظلم والاعتداء. هذا الإذن ملاكه أنه من أجل حفظ التوحيد والحق والعدالة في الأرض. إنه منع للفساد في الأرض. إنه لصالح الانسان ولخيره، ولولا هذا الإذن بالتدافع لفسدت الأرض وحل الظلم والخراب فيها.

الدفع هنا معناه اللغوي واضح، وهو دفع أهل الايمان لأهل الباطل وإبعادهم عن ايذاء المؤمنين، ودفعهم عن منعهم لأن يمارسوا حقّهم في العبادة، وحقّهم في التوجه لأهدافهم ومراميهم ومقاصدهم ودفعهم عن تهديد وجود الأمة وبيضتها ومصالحها.

الدفع هو الابعاد (دفع الله) يشير فيه إلى السنّة والفطرة والقانون الالهي الجاري بين الناس والأمم. (بعضهم ببعض) أي التدافع الموجود بين البشر عموماً (ما يسمى صراع الارادات، وصراع المصالح، وصراع الحق والباطل). لولا هذا الصراع، أو لولا هذا الإذن بالصراع الجهادي المسلح - لأن الصراع الفكري كان موجوداً وجارياً فعلاً في مكة منذ أول بزوغ الدعوة - لعم الفساد في الأرض، ولم ترتفع راية الحق، ولساد الظلم على الجميع.

والقرآن يفسر بعضه بعضاً. الآية الأولى تقول: ﴿لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض﴾، والآية الثانية تقول: ﴿لولا دفع الله بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا﴾، وبالجمع بين الآيتين نصل إلى أن الفساد في الأرض يساوي انهدام مراكز ذكر الله، ويساوي انحلال مواقع الداعية لإقامة الخير، ويعادل غياب المؤسسات الداعية إلى الحق والصلاح، ويماثل غياب الصوت الداعي إلى الإصلاح والصلاح في الأرض.

فلابد إذن، عند الاقتضاء من الكفاح المسلح والقتال والجهاد، وما يستلزمه ذلك من تضحية ودماء وآلام ومعاناة وتشريد وهجرة; لإبقاء الأرض صالحة، ولمنع فسادها وخرابها. وهذه هي سنّة الله في الأرض، وحكمته التي أجراها فيها وفي عباده وبين الناس.

﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله﴾.

ولعل في جواب الله على تساؤلات الملائكة ب- ﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾، إشارة إلى هذه الحكمة والسنّة، ولعلّ الملائكة الذين استغربوا ذلك الجعل بقولهم: ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾، غاب عنهم أن قسماً من الدماء التي تجري في الأرض من مستلزمات بقاء الأرض والحياة والخير، وأنه لولا هذه الدماء لفسدت الأرض، ولعمّ فيها الخراب والظلم والظلام.

والله أعلم. ﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾.

اليهود: نموذج الأمة الفاسدة والمفسدة في الأرض ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا... وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين﴾(3).

﴿وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُنّ علواً كبيراً﴾.

الأمة اليهودية من الأمم الباقية إلى يوم القيامة، كما أشار القرآن الكريم، ويلحظ في هذه الأمة أنها أمة متمزقة مشحونة بالعداوات والبغضاء، وما يستتبع ذلك من أحقاد وتآمر فيما بينهم. هذا هو الذي يقرره القرآن بحق هذه الأمة، فإذا وجدنا حالة من التماسك والانسجام فيها، فإنها تمثل حالة طارئة سرعان ما سوف ترجع إلى حالة العداوة والبغضاء.

هذه الأمة التي تعيش حالة العداوة فيما بينها، تعيش مع الآخرين حالة العدوان والحرب وتجاوز الحقوق والحدود، فهم يسعون للاعتداء ويؤججون نار الحرب، ويقرعون طبولها، لكنهم غير قادرين على الاستمرار لنهايتها، وينكصون في نصف الطريق، وقد تكون هذه العداوة والبغضاء سبباً لانطفاء نار تأجيجهم للحروب.

هذه الأمة بهذه المواصفات أمة متمزقة تسود العداوة والبغضاء ما بين أبنائها. أمة نزاعة للحرب والاعتداء على الآخرين. هذه الأمة لا يمكن أن تكون إلاّ أمة فاسدة ومفسدة في الأرض. أمة تثير الحروب وتمزق الروابط وتعتدي على الحقوق ولا تلتزم بالمواثيق. أمة متآمرة حاقدة. هذه الأمة المفسدة ستتمكن من القدرة، وسينال فسادها وإيذائها الآخرين. ستعلو وستحول الأرض إلى صراعات وحروب وتآمر.

وشاء الله أن تكون هذه الأمة المفسدة المملؤة عداوة وبغضاء، والساعية إلى التدمير والاعتداء، هي التي تواجه الأمة الناجية والصالحة، وتناصبها العداء، وتحوك ضدها المؤامرات، وتسعى لنقض عهودها معها. هذه الأمة هي التي ستقف لصد نور الحق والعدل والصلاح على الأرض ما دام وجودها قائماً. أمة اليهود أمة فاسدة ومفسدة في الأرض، والله لا يحب المفسدين، فلا يكتب لها النجاح في فسادها، ولا توفق في تحقيق أهدافها، ولن تفلح

في الوصول إلى مراميها; لأنها ليست مع الفطرة ولا مع السنة الإلهية، ولأنها عقبة في طريق التكامل، فلابد أن يتم تجاوزها فالله لا يحب المفسدين.

والنتيجة التي نخلص إليها بهذا الصدد هي أن الفساد في الأرض المنسوب إلى اليهود، الذي تشير إليه هاتان الآيتان، ينسجم في معناه مع الاتجاه العام الذي يتضمنه معنى الفساد في الأرض، من مجمل آيات الكتاب الكريم. إنه نقض العهود والمواثيق، والاعتداء على حقوق الآخرين ومصالحهم.

إنه إضعاف لروابط الناس بعضهم ببعض، وتخريب للأواصر التي تحفظ وحدة المجتمع وتماسكه. إنه إشاعة لكل الآفات والسبل التي تزرع في المجتمع العداوة والبغضاء والحقد والمشاحنات. إنه تأجيج للحروب والاعتداء والقتل بغير الحق . إنه تخريب للانسان من داخله، وتخريب لمجتمع الانسان ككل.

وفي مقابل ذلك نجد أن القرآن الكريم يفرض على المجتمع المسلم والدولة الالتزام بالعهود التي تبرمها مع الآخرين، وحتى في الأحكام الفردية تؤكد الشريعة على الالتزام بهذه العقود، حتى مع الافراد المخالفين بالعقيدة، وحتى مع الدولة المخالفة; لأن الالتزام بالعهود يضمن استمرار المجتمع، ويحفظ الحقوق ويعطي للحياة البشرية استقراراً ونمواً وتكاملاً.

ولذا كان نقض المواثيق والعهود يحتاج إلى موقف واضح وبين لتحمل نتائجه وآثاره، ولبيان الموقف الجديد، ولعلّ خصوصية سورة براءة التي فصمت عقداً بين المسلمين والمشركين، بعد أن تجاوزها المشركون ونكصوا عن التزاماتها، مما يكشف عن أهمية وخطر نقض العهود بين الأمم.

الفساد الكبير هو نقض المعاهدات والمواثيق الدولية

﴿وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما يعملون بصير * والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير﴾.

يثبت القرآن الكريم قانون وتشريع النصرة في الدين، ومن أجل الدين وبسبب الدين، هذا التشريع الذي يفرض على الجماعة المؤمنة المتمكنة، وبالتحقيق الدولة الاسلامية، نصرة من ينتمي إلى الدين في أي مكان كان، وفي أي تجمع كان يعيش، وبذلك يسن القرآن أنه في عالم الاسلام يكون للفرد المسلم الذي يعيش خارج دولة الاسلام نوع ارتباط وانتماء، وحق على الدولة في نصرته والدفاع عنه، عندما يتعلق الأمر بمعتقد المسلم وممارسته الدينية، أي عندما يُضيّق عليه بسبب انتمائه الاسلامي، أو يُحارب ويمنع من حقوقه بسبب انتمائه الديني. هنا تكون الدولة الاسلامية ملزمة بالنصرة والدفاع، إن طُلب منها النصر والمساعدة في الدفاع، عن المسلمين الذين يعيشون خارج رقعة الدولة الاسلامية.

ويستثني القرآن وجوب تلبية طلب النصرة مع الدول والأقوام والأمم، التي بينها وبين الدولة الاسلامية تعاهد وميثاق بالصلح ومعاهدة سلام.

وغير مجهولة قصة ذاك المسلم الذي طلب النصرة للخلاص من تعذيب قريش، بعد معاهدة وصلح الحديبية، ووقوف الرسول مكتوف اليد عن نصرته بسبب هذه المعاهدة والميثاق.

إن الخروج على المواثيق والمعاهدات بين الدول والأمم، سوف يؤدي إلى اضطراب في الأرض، وغياب القواعد والثقة في التعامل الدولي، مما يمنع أي فرصة لبناء علاقة تحفظ قيام مواثيق الصلح والسلام.

القرآن يعتبر الخروج على المواثيق فتنة وفساداً كبيراً. وما نشاهده اليوم في غياب الالتزام الحقيقي للمواثيق والعهود، تحت ذريعة قيام النظام العالمي الجديد، بداية لفساد كبير في الأرض، نجد مفرداتها واضحة بالحروب وعدم الاستقرار والاعتداءات وتجاوز الحقوق.

إننا فعلاً في عصر نعيش فيه الفتنة والفساد الكبير.

هناك آيات كثيرة في كتاب الله المجيد تؤكد على الوفاء بالمواثيق والالتزام بالعهود، وكذلك تؤكد الاحاديث هذا السياق.

فقدان الأمن

إن الشعور بالحماية والأمن والشعور بالاطمئنان من الحاجات الاساسية في أي مجتمع، وفقدانها بأي صورة تحول المجتمع إلى مجموعة كيانات متشرنقة حول نفسها، تسعى لحماية نفسها والدفاع عن مصالحها.

إن شيوع ظاهرة الاعتداء والتجاوز والقتل تجعل المجتمع في رعب دائم، وخوف على الحاضر والمستقبل، مما يجعل الحياة بدون أمل، وغير قابلة للتطور.

نقض العهود والمواثيق والعقود

القرآن الكريم يعطي للعهود والعقود احكاماً خاصة، تكشف عن حرص القرآن الكريم على إنفاذ العقود، والايفاء بها والالتزام بمضمونها وتحمّل آثارها وتبعاتها.

العقود والعهود ظاهرة اجتماعية ملازمة للانسان، يحفظ بها الانسان وجوده، ويحتمي بها لتدبير معاشه وأمنه ووجوده، ولذا فالاسلام أعطاها موقعية خاصة.

العقود والعهود تارة تكون بين الأفراد لشؤون شخصية وفردية، وتارة تكون بين أمم ودول وتخص مصالحها وآثارها مجموع الأمة ككل وليس فرداً فرداً، وثالثة تكون بين الأمة كقانون وعرف وعقد اجتماعي يلزم الجميع به. ويسمي القرآن كذلك العلاقة بين الانسان والله، والرابطة التي تحكم التزام الفرد به سبحانه بالعهد والميثاق.

أما ما يتعلق بموضوع بحثنا وهو (الفساد في الأرض)، وارتباطه مع موضوع نقض العقود والعهود، سواء كانت فردية أو أممية أو اجتماعية، فيمكن القول إن القرآن قد قرن في مواضع كثيرة في الكتاب العزيز بين الفساد وبين نقض العهود، بغض النظر عن نوعية هذا الاقتران، هل هو من باب التلازم أو التضمن، وعلى أي شكل كان. المهم في الموضوع أن نجد في نقض العهود والعقود فساداً في الأرض.

ومعنى الفساد الذي أشرنا إليه في مضامينه هو حالة الخراب والتفكك وضعف الارتباط التي تسود المجتمع، والتجاوز على حقوق الآخرين، التي من مجموعها نجد فيها نقضاً لعهد وعقد، سواء كان هذا النقض مع الله أو مع الأمة أو بين الناس أو بين الافراد.

من هنا يمكن القول إن نقض العهود والعقود بأي شكل كان هو فساد في الأرض، وخراب لذلك المجتمع أو المؤسسة أو الدولة، ويمكن لنا أن نستشف مستقبل ومصير أي تجمع من خلال هذه الظاهرة المريضة (عدم الايفاء بالعقود) لنحكم على نهايته ومآله.

إن القرآن الكريم يعطي لليهود صفة نقض العهد، وصفة الإفساد، وفي ذلك اشارة إلى سجية اليهود كأمة في تعاملها مع باقي الأمم ونقضهم للمواثيق، وما يستلزم ذلك من اعتداء وتعدي وحروب، فيكونون بذلك اهل لصفة الفساد والإفساد في الأرض.

القرآن الكريم أشار إلى حقيقة اجتماعية وسياسية مهمة، ولفت الأذهان والانظار إلى أثر الأنظمة السياسية الظالمة في تخريب وحدة المجتمعات وسقوطها، وضعف روابطها وتمزيقها. القرآن الكريم يقول صراحة إن سبب فساد المجتمعات بالمعنى الذي اشرنا إليه، هو الأنظمة السياسية المستبدة وطغيان الحكام: ﴿الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد). ﴿إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض﴾.﴿وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل﴾.

ويجعل الخلاص من الحكام الفاسقين طريقاً إلى سعادة المجتمع واستقراره، وإن الحكام الظلمة هم سبب خراب العباد والبلاد.


1- البقرة: 251.

2- الحج: 39 - 40.

3- المائدة: 64.