القرآن والحياة

فإنهم ارتبطوا بتلك القدرة والعلم اللتين هما فوق مستوى العادة، رفعهم عن اُفق الطبيعة ومستواها، لتظهر على أيديهم أمثال هذه الأعمال المعجزة والمدهشة. واذا وفّق البشر يوماً لذلك، فإنه لا يقوم بما قام به الأنبياء، فإن الأنبياء إنما قاموا بذلك بإذن اللّه، فإنهم يمنحون الحياة أو يقبضونها بإذنه، وأما الإنسان العادي فلو توصل لذلك يوماً ; فإن أقصى ما يمكنه القيام به هو توفير شروط الحياة، كما في جانب الإماتة أيضاً، فهو قادر على هدم شروط الحياة، ولكنه لا يمكنه قبض الحياة، فإن إفاضة الحياة وقبضها بيد اللّه فحسب، كما يمكن للبشر من خلال الكشف عن قوانين إفاضة الحياة وقبضها، أن يوفّر عوامل قابلية المادة للحياة أو إزالة هذه العوامل وإبادتها.

ذكرنا أن الحياة ليست فعل البشر، وإنما هي فوق حدود الفعل البشري، وأن الإحياء والإماتة بيد اللّه فحسب، وذكرنا بأن توفير شروط الحياة من فعل البشر.

ولكن يجب أن لا يفهم من حديثنا هذا، تقسيم العمل وتوزيعه بأن بعض الأعمال من عمل البشر، وليست من عمل اللّه، وبعضها من عمل اللّه وليست من البشر، بل نستهدف من ذلك، تحديد فعل البشر وتقييده فحسب، لا تحديد فعل اللّه وتقييده فما هو عند اللّه، وما يصدر منه، مطلق وليست له حدود، وإنما التقييد والتحديد في جانب المخلوق وما يصدر منه، وهذا الموضوع، يحتاج دراسة موسعة ولأجل التوسع فيه يراجع الجزء الخامس من كتاب (اُصول الفلسفة).

وتوصل إلى جميع العوامل والأجزاء المادية الدخيلة في تركيب الموجود الحي، وضع شيئاً يتوافق تماماً مع المادة الحية الطبيعية في تركيبها، فهل يكتسب ذلك الموجود الصناعي الحياة أم لا؟

الجواب: أنه يكتسب الحياة بالتأكيد، لأنه يشمل أن تتحقق جميع شروط الإفاضة، ولا تتحقق الإفاضة، إلاّ أن نعتـقد أن الذات الأحدية، صمد وكامل ومطلق وفياض على الاطلاق، ألسنا نعتـقد أن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات والحيثيات؟

وهنا لا بما يبرز هذا التساؤل والشبهة في الأذهان، إذن، فكيف يتفق هذا الرأي مع القول بأن الحياة بيد اللّه فحسب، ولا شأن لغيره في عملية الأحياء والاماتة؟وقد ذكرنا سابقاً أن القرآن الكريم نفسه اعترف بهذه الحقيقة.

والجواب عن هذا التساؤل، يتضح بما ذكرناه سابقاً، فلو وُفق البشر يوماً لذلك، فأقصى ما يمكن للإنسان صنعه وعمله، هو توفير شروط الحياة وعواملها، لا خلق الحياة، فالبشر لا ينفخ الحياة، بل أنه يوفّر قابلية المادة لإفاضة الحياة الكاملة، وكما يصطلح عليه، إن الإنسان فاعل الحركة، وليس مفيض الوجود.

فلو وفق البشر يوماً لذلك، فهو قد توصل لإنجاز علمي هامّ، في مجال الاكتشافات العلمية، وأما في مجال تكوين الحياة، فإن مقدار تدخله ودوره، بمقدار دور الوالدين في ايجاد حياة الولد عن طريق التناسل، أو بمقدار تدخل المزارع في ايجاد الحياة لبذور الحنطة.

ففي جميع هذه الحالات لم يكن الإنسان هو الخالق للحياة، بل أن مهمته توفير شروط الحياة في مادة ما، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة خير تعبير في سورة الواقعة: ﴿أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون﴾.

وأما موضوع معجزة الأنبياء، فإن البشر بعلمه وقدرته العادية عاجز عن القيام بمثل هذا العمل المعجز، وكذلك الأنبياء، لم يتوصلوا بالطرق العادية المألوفة لذلك العلم والقدرة الخارقة، وهذه الطريقة من التفكير هي طريق يهودية ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾، هذه الطريقة من التفكير حول علاقة الحياة بالإرادة الإلهية، حيث تفزع دائماً لبداية الحياة، وليدة هذا التفكير اليهودي، وقد شاع هذا التفكير اليهودي بالتدريج، وتسرب لكل مكان، ومما يؤسف له، فإن بعض المتكلمين المسلمين تأثروا بهذا التفكير اليهودي أيضاً.

ولكن قد أشرنا سابقاً، أن المنهج القرآني لا يتعرض (للآن) أبداً.

ذكرنا سابقاً، في بداية الدراسة، أنه قد طرحت في عصرنا، مسألة (إمكان) أن يصنع البشر كائناً حياً، فهل يمكنه أن يصنع نطفة إنسان صناعية، بحيث تتحول إلى إنسان كامل فيما لو وضعت في الرحم، أو في محيط ملائم آخر؟، وذكرنا بأن تلك الفئة من الإلهيين الذين يعتمدون في مجال إثبات الحياة بالإرادة الإلهية على الحالات الاستثنائية، وبداية ظهور الحياة، قد أنكروا بشدة هذه المسألة، ولكن على ضوء المنهج التعليمي والتربوي للقرآن الكريم، لابد من القول بأنه لا مانع من ذلك، وهذه المسألة تحتاج إلى توضيح أكثر، ونحن ندرسها من خلال جانبين:

الجانب الأول: هل يمكن لنا أن نحدّد تعقيدات بناء الكائن الحي، هل يمكن للبشر التوصل يوماً ما لجميع الأسرار التي اُستخدمت في التركيب المادي لأجزاء خلية حيّة واحدة، واكتشاف القانون الطبيعي لوجود الخلية الحية الواحدة؟، أو أن البشر عاجز عن ذلك، ولا يمكنه أبداً التوصل لسر هذا القانون؟ولكن من هذا الجانب لا يمكننا أن نطرح رأياً في هذه المسألة لخروجه عن تخصصنا. وكلما يمكننا قوله هو ما ذكره المتخصصون في هذا المجال (أن الشيء الذي هو أسمى وأكثر أهمية من خلقة الأرض والسيارات والمنظومات الشمسية، ومن جميع الكائنات، هو مادة البروتوبلازم).

والجانب الثاني: لو وفق البشر يوماً في الكشف عن قانون خلق الكائنات الحية، كما اكتشف الكثير من قوانين الموجودات الاُخرى، الخلقة.

والاختلاف في الدرجة الوجودية بين المادة والحياة، من المسائل العلمية التي قام البرهان عليها، ونحن إذ أردنا الوصول إلى منبع الحياة الكائن في ما وراء الطبيعة، من خلال اختلاف المستوى الوجودي بين المادة والحياة ; فإننا نكون قد اعتمدنا على الجانب الايجابي لمعلوماتنا، لا الجانب السلبي، حيث نبحث عن اللّه بين معلوماتنا لا مجهولاتنا، فلا نحتاج في الحالة التي عجزنا عن اكتشاف علتها الطبيعية، أن نفسرها بما وراء الطبيعة، وأن ما وراء الطبيعة يهبط، ويتنزل من درجته ليقوم مقام الطبيعة، بل لابد أن نحدس بوجود علة طبيعية في هذه الحالة، ولكن علمنا لم يصل إليها.

وعلى ضوء هذه الفكرة. نرى صدر المتألهين في سفر (النفس) من أسفاره يتهجم تهجماً عنيفاً على الفخر الرازي، حيث يعجب من الفخر الرازي وأمثاله، فحين يريدون إثبات أصل التوحيد أو غيره من اُصول الدين، فإنهم يبحثون عن الأشياء المجهولة العلة لإثباتها، والتي بزعمهم قد اختل واضطرب نظام العالم وحساباته وموازينه فيها(1).

فمن خلال الآيات التي ذكرناها، نتعرف على رأي القرآن الكريم في هذا المجال، وأن الخلق ليس عملية آنية دفعية، بل أن الحيوان أو الإنسان في مراحله التكاملية التي يطويها، هو في حالة خلق، بل أن العالم كله في حالة خلق مستمر، وفي حالة حدوث.

وفي مقابل هذه الفكرة، فكرة اُخرى تحصر الخلقة با (الآن)، فحين يريدون البحث حول خلق العالم، يفزعون (للآن) الأول، الذي خلق فيه العالم، وخرج فيه من ظلمة العدم، وكان الأمر، أنهم لو لم يفترضوا هذا الافتراض، فلا يكون العالم حادثاً، ومخلوقاً، وكذلك حين يريدون البحث عن مخلوقية الحياة، يفزعون (للآن) الأول، الذي بدأت فيه الحياة.

إليها: ازدادت أدلة توحيدهم. وكلما ازدادت معلوماتهم ; نقص من أدلة توحيدهم وإيمانهم. فهذه الفئة من أتباع التوحيد وأنصاره، يعتبرون ما وراء الطبيعة مستودعاً للمجهولات، فكل شيء جهلوه، ولم يكتشفوا علته الطبيعة، ربطوه بما وراء الطبيعة. ويعتقدون دائماً بأن ما وراء الطبيعة يؤثر قي تلك المجالات والاُمور التي تعرّضت للاستثناء والخروج عن النظام المتعارف، وبما أنهم لا يصلون في حالة ما لعلتها الطبيعية، لذلك يفزعون إلى علة من وراء الطبيعة تقوم مقامها، غافلين عن أن ما وراء الطبيعة له نظامه وقوانينه المعينة، والمختصة به أولاً، وثانياً، لو قامت علة مقام العلة المادية والطبيعية لزم أن تكون بدورها طبيعية ومادية، وبمستوى الطبيعة والمادة، ولا تكون بنفسها من وراء الطبيعة، فإن مستوى الطبيعة في طول ما وراء الطبيعة لا في عرضها ومستواها، فلا يمكن للعلة الطبيعية أن تقوم مقام علة من وراء الطبيعة، ولا العلة من وراء الطبيعة تقوم مقام العلة الطبيعية المادية.

فالقرآن الكريم لم يستدل أبداً على إثبات التوحيد بالحالات والأشياء التي يحتمل فيها الخروج عن النظام فيها، بل إنما يستدل بالأشياء والحالات التي يعرف الجميع عللها الطبيعية، ويجعل هذا النظام دليلاً على التوحيد.

وفي مجال الحياة خاصة فإن منطق القرآن الكريم ومنهجه قائم على هذا الأساس، بأن الحياة بصورة مطلقة وعامة، هي فيض أسمى وأعلى من اُفق الجسم المحسوس، وهذا الفيض ينبع ممّا هو فوق الجسم المحسوس، بأية طريقة وقانون يصل فيها هذا الفيض. ولذلك فإن تطورات الحياة، هي تطورات الايجاد والتكوين والخلق والتكميل.

وعلى ضوء هذا المنطق، فلا يختلف الأمر بين وجود الحياة على الأرض بصورة دفعية آنية، أو بصورة تدريجية وتكاملية على طريقة الخلق بعد الخلق.

وهذا المنطق يعتمد في أساسه على أن المادة المحسوسة فاقدة للحياة في ذاتها، والحياة فيض ونور، لابد أن تفاض من منبع أسمى وأرفع، إذن فقوانين الحياة، بأية صورة كانت هي قانون ففي بعض الآيات التي تدور حول حكاية آدم الأول، يخاطب الملائكة، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (سورة الحجر وسورة ص)، وفي آيات اُخرى يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ (سورة الأعراف).

فمن الواضح أن هذه الآية تدل على شمولية حالة الخلق ونفخ الروح وخضوع الملائكة للآدميين جميعاً، وفي سورة السجدة يقول: ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون﴾.

وكما قال المفسرون، ويدل عليه سياق قبل وبعد، فإن ضمير (سواه) يرجع إلى (النسل) لا إلى (الإنسان).

ويلزم علينا هنا أن نبحث عن سبب هذا الأمر، ولماذا اعتمد الإلهيون على ظهور الحياة لاثبات ارتباط الحياة بإلارادة الإلهية، ولماذا لا يستدل القرآن الكريم بظهور الحياة على هذا الارتباط، بل أنه يربط الحياة وتطوراتها بصورة عامة بالإرادة الإلهية بصورة مباشرة، دون أن يفرق بين بداية الحياة واستمرارها.

وفي الواقع، ان هذا الاختلاف بين منطق القرآن ومنهجهُ عن سائر المناهج، ناشيء من اختلاف أكثر عمقاً وتجذراً، فإنه من المتعارف لهذه الفئة من الإلهيين محاولة التوصل إلى اللّه تعالى من الجانب السلبي لمعلوماتها لا من الجانب الايجابي، ونعني بذلك، أنهم حينما يواجهون حالة غامضة مجهولة، يعجزون عن تفسيرها، لذلك يفزعون إلى القدرة الإلهية لتفسيرها، فهم دائماً يبحثون عن اللّه تعالى بين مجهولاتهم، إنهم دائماً يبحثون عن الأشياء التي يجهلون أسبابها الطبيعية، فحين يواجهون شيئاً معيّناً، يجهلون علته الطبيعية، سرعان ما قالوا: (هذا الشيء وجد بالإرادة الإلهية)، وعلى ضوء ذلك، كلما ازدادت مجهولاتهم في معرفة العلل الطبيعية والتوصل والآيات كثيرة تتضمن هذا المعنى، وإن هذا النظام الجاري والمشهود هو نظام الخلقة، فتفرع البذرة في عمق الأرض، واخضرار الأشجار في الربيع، كلها ذكرت في القرآن الكريم كشواهد على الخلق الجديد، والايجاد الإلهي المستمر والدائب، ولا نجد في أي موضع من القرآن الكريم، أن يحصر الخلق وإرادة اللّه في ايجاد الإنسان الأول أو الحيوان الأول على سطح البسيطة، وأن ذلك الفرد أو الخلية الاُولى، هو المخلوق للّه، ووليد الارادة الإلهية.

وقد تعرض القرآن الكريم لخلق آدم الأول، ولكن لا لأجل إثبات التوحيد، وأنه آدم بما أنه خلق أولاً فهو دليل على حدوث الخلق، وظهور إرادة اللّه، وكما يصطلح عليه، بأن يد القدرة الإلهية خرجت من كمها، فإنها لم تكن أبداً في الكم ولا تعود إليه.

وهنا ملاحظة عجيبة، تستفاد من القرآن الكريم، فإنه قد اشير في حكاية آدم إلى الكثير من التعاليم الأخلاقية والتربوية أمثال قابلية البشر للوصول لمقام الخلافة الإلهية، وقابلية الإنسان الكبيرة للعلم، وخضوع الملائكة لمقام العلم واستعداد البشر للتفوق على الملائكة، ومضار الطمع والكبر وتأثير المعصية في سقوط الإنسان من أرفع الدرجات، وتأثير التوبة في خلاص الإنسان، وإعادته لمقام القرب من الحق، وتحذير البشر من الوساوس الشيطانية المضلة، وأمثالها، ولكن لم يلاحظ أية ظاهرة خاصة واستثنائية في خلق آدم وعلاقتها بالتوحيد ومعرفة الخالق، وبما أن الهدف من استعراض حكاية آدم والتأكيد على بعض التعاليم الأخلاقية والتربوية، لا الاستشهاد ببداية الحياة على التوحيد، لذلك اكتفى القرآن الكريم بذكر آدم الأول فحسب، ولم نجد أي ذكر لسائر أنواع الحيوانات، وأن بداية حياتها على الأرض بأي نحو كان.

وقد ذكرنا، أن الإلهيين حين يتعرضون للحي الأول، يذهبون لتفسيره بالنفخة الإلهية، ولكن القرآن الكريم، كما يفسر حياة آدم بالنفخة الإلهية، كذلك يفسر حياة سائر الناس، الذين يوجدون بعد ذلك بالنفخة الإلهية أيضاً.

فإنه تعالى لا يجري هذه المعجزة إلاّ على أيدي أنبيائه وأوليائه فحسب.

لذلك فإن هذه الفئة الإلهية تتخذ من عجز البشر اليوم دليلاً على رأيهم، فإننا نلاحظ أن البشر يصنعون حنطة لا تختلف في تركيباتها الكيمياوية عن الحنطة الطبيعية، ولكنها مع ذلك، فاقدة للحياة، حيث يدل ذلك على أن الحياة متعلقة بإرادة اللّه تعالى، فلابد من إذنه.

قلنا، إن القرآن الكريم يصرّح بهذه الحقيقة، أن الحياة بيد اللّه، وينفي دور غيره تعالى في ايجاد الحياة، ولم نجد في أي موضع من القرآن الكريم، أن يستدل على هذه الحقيقة ببداية حياة الإنسان، أو بداية الحياة لسائر الموجودات الحية، بل على العكس من ذلك، فإنه يعتمد على هذا النظام الموجود والمشهود، كشاهد على ذلك، وأن نظام الحياة هذا هو نظام الخلق والتكوين والايجاد والتطور والتكميل، يصرّح القرآن الكريم، أن الحياة بيد اللّه، وخالق الحياة هو تعالى، ولكن حين يتحدث عن خالقية اللّه للحياة، فلا يعتمد على اليوم الأول لظهور الحياة، ولا يرى فرقاً بين اليوم الأول والأيام اللاحقة، بل يؤكد أن هذه التطورات المنظّمة للحياة، هي تطورات الخلقة، فمثلاً في سورة المؤمنين يقول تعالى: ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك اللّه أحسن الخالقين﴾.

فهذه الآية الشريفة تستعرض التغييرات والتطورات التي يتعرض لها الجنين، عبر نظام معين، وتذكر بأنها أيضاً، تطورات الخلقة المستمرة، وفي سورة نوح يقول تعالى: ﴿ما لكم لا ترجون للّه وقار وقد خلقكم اطوارا﴾، وفي سورة الزمر: ﴿ونجعلكم في بطون امهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث﴾ وفي سورة البقرة: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.

وفي سورة الحج: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾.

أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادي دون قصد ابداعي، لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن اللّه قد منح الإنسان قبساً من نوره)(2).

هذا النموذج من طريقة التفكير والاستدلال التي تـنهجه هذه الفئة، حول علاقة الحياة بإرادة اللّه، وليس من الضروري نقل سائر أحاديثهم، فإنها تتفق من قريب أو بعيد مع هذا الاستدلال، وليس بينها خلاف جذري.

ونحن نعلم، أن الإنسان مهما بذل من جهود ; لم يمكنه أن يصنع مادة الموجود الحي، بالوسائل والطرق العلمية، فلم يتمكن أن يصنع بالمواد الكيمياوية حبة حنطة، تمتلك خاصة الحياة، بحيث لو نثرها في التربة، ستخضر وتثمر، وكذلك لم يمكنه أن يصنع نطفة حيوان أو إنسان، يمكنها أن تتحول إلى حيوان أو إنسان، ولا زال العلماء يبذلون أقصى جهودهم في هذا المجال، ويقومون بمختلف التجارب، ولكنهم، حتى اليوم، لم يتضح لهم أنهم قادرون في المستقبل على إنجاز مثل هذا العمل، أم أنه لا يخضع للقدرة العلمية والصناعية للبشر، لأنه خارج عن حدودها وميدانها.

وكذلك مسألة بداية الحياة، التي تثير اليوم ضجة كبيرة، فإن الإلهيين يعتقدون بأن الحياة بيد اللّه، وقد ذكرنا اُسلوب تفكيرهم وطريقة استدلالهم، ثم يطرحون رأيهم في موضوع قدرة البشر، على خلق الحياة، وبأن من العبث بذل الجهود في هذا المجال، فإن الحياة بيد اللّه، وليس بمقدور الإنسان أن يخلق الحياة، بكل الوسائل العلمية والصناعية، وأما إحياء الموتى بواسطة بعض الأنبياء، فإنه كان بإذن اللّه، فإنه ممتنع ومستحيل بدون إذنه تعالى، ولا يمكن لغيرهم القيام بهذا العمل، وإذا حاول البعض استئذان اللّه في ذلك فلابد أن يكون بمستوى النبي ليقوم بهذه المعجزة، جاءت من بعض الكواكب في شكل جرثومة انسلت دون أن يصيبها تلف. وبعد أن بقيت زماناً غير محدود في الفضاء، استقرت على الأرض، ولكن كان من العسير على تلك الجرثومة أن تبقى حية في درجة حرارة الصفر المطلق في الفضاء، وإذا استطاعت البقاء رغم ذلك ; فإن الاشعاع الكثيف للموجة القصيرة كان يقتلها، فإن كانت قد بقيت حية رغم ذلك ; فلابد أنها وجدت لنفسها المكان الملائم، وربما كان المحيط، حيث أدى اتفاق مدهش في الظروف إلى توالدها، وبداية الحياة على الأرض، وفضلاً عن ذلك يعود بنا هذا الفرض خطوة اُخرى فيما نحن بصدده، لأننا يمكننا أن نسأل «وكيف بدأت الحياة على أي كوكب من الكواكب» إن المتفق عليه عموماً هو أنه لا البيئة ولا المادة مهما كانت موائمة للحياة، ولا أي اتفاق في الظروف الكيمياوية والطبيعة قد تخلقه المصادفة، يمكنها أن تأتي بالحياة إلى الوجود.

وبصرف النظر عن مسألة أصل الحياة التي هي بالطبع من الألغاز العلمية، قد افترض أن ذرة ضئيلة من الحياة بلغت من الضآلة أنها لا ترى أو تلمح بالميكروسكوب، قد أضافت إليها ذرات، وقلبت توازنها الوثيق فانقسمت، وكرّرت الأجزاء المنفصلة هذه الدورة، وبذا اتخذت أشكال الحياة، .. ولكن لم يزعم أحد أنها اتخذت الحياة نفسها(3).

إن موريسن يستهدف من حديثه هذا، أن يثبت تدخل الخالق في ولادة الحياة الاُولى ووجودها، لأنه لا يتلاءم تفسيرها مع العلل والأسباب المادية والطبيعية، وأما حول ظهور الإنسان، والتغيير والتحول الهائل الذي أدى لظهور هذا الموجود العاقل المفكر، حيث يملك تلك القوة الخارقة للعادة (الفكر)، هذه القوة التي يمكنها أن تبدع وتنتج (العلوم)، يقول (أما ظهور الإنسان العاقل والمفكر، فهو أكثر غموضاً، من أن نتصور أنه وليد تحولات المادة، دون أن تتدخل اليد الإلهية. إن ارتقاء الإنسان الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده، هو خطوة الفرد المعين نفسه، ومن أي طريق ووسيلة؟فإن الطبيعة تأبى أن يوجد كائن حي بدون انفصال بيضة أو بذرة مادة، من كائن حي سابق. ومن هنا فنحن نضطر إلى القول بالحالة الاستثنائية بالنسبة لذلك الفرد الأول، وكما يصطلح عليه، إنه حدثت المعجزة فيه، وأن يد القدرة الإلهية خرجت من كمها، وامتدت من الغيب، وخلقت ذلك الفرد.

أو أن هذه الأنواع جميعاً، لها أصل وجذر واحد، وهناك قرابة بين الجميع، وعلى هذا الافتراض، فإن السؤال السابق سوف يطرح نفسه أيضاً، وأنه على تقدير انتهاء هذه الأنواع جميعاً، إلى أصل واحد، أو عدة اُصول وجذور، هو المبدأ لتكون هذه الموجودات والكائنات الحية المتنوعة جميعاً، وأنه حيوان، أو خلية حية، فيأتي السؤال نفسه، وإن ذلك الكائن الأول كيف وجد؟لأنه قد ثبت بالعلم اليقيني الجازم، أن الموجود الحي، لا يمكن أن يوجد، الآن خلال موجود حي آخر، إذن فلابد من القول بالاستثناء والإعجاز، حيث تدخلت الإرادة الإلهية، وأوجدت تلك الخلية الحية(4).

ومن هنا نرى أن الماديين حين يواجهون هذه المشكلة، يقترحون فرضيات التي لا يمكنهم هم أنفسهم تقبلها، وأما الإلهيون فعلى العكس، فهم يتخذون هذا التساؤل دليلاً على وجود الخالق، ويقولون: لابد من تدخل قدرة اُخرى من وراء الطبيعة، في ايجاد الكائن الحي الأول، وإن الارادة الإلهية، فأوجدته، ومن هنا نرى (دارون) ويعتبر من الإلهيين، بعد أن يعالج تطور الأنواع بطريقته، يصل في النهاية إلى موجود حي واحد أو أكثر، وجد على الأرض لأول مرة، دون أن يشتق من موجود حي آخر، سابق عليه، ويقول: (بأن وجوده لا يمكن تفسيره إلاّ بالنفحة الإلهية للحياة).

يقول كريس موريسن في كتابه (العلم يدعو للإيمان): (... وقد افترض البعض أن الحياة قد آل عمران: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم اني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه وابرئ الأكمه والأبرص واُحيي الموتى بإذن اللّه).

وبصورة عامة، فإن هذه المسألة، من المسائل التي يختلف حولها الإلهيون والماديون، فإن الإلهيين يعتقدون بأن خالق الحياة ومنشأها، خارج عن نطاق المادة وحدودها، بينما يعتقد الماديون، بأن المادة هي الخالق للحياة، مع وجود فرق ضئيل بين المنطق القرآني مع منطق الإلهيين حول هذه المسألة، ولكن هذا الفرق، عظيم، ومدهش، ومن مؤشرات إعجاز القرآن الكريم. ولو تعرف الإلهيون على هذا المنطق القرآني في هذا المجال ; لتمكنوا من إنقاذ أنفسهم وإلى الأبد من مخالب الماديين، ولتمكنوا من إنقاذ الماديين أيضاً من أغلال الخطأ والوهم الذي يعيشونه.

المعروف عند العلماء حينما يبحثون عن العلاقة بين موضوع الحياة، ومسألة التوحيد وإرادة اللّه، فإنهم يلجأون عادة إلى البحث حول بداية ظهور الحياة في الأرض، وكيف وجدت الحياة الأولى؟فإن الشواهد العلمية المسلّمة تدل على وجود البداية لظهور الحياة في الأرض، فكل موجود حي من النباتات والحيوانات، ليس دائمي الوجود، أزلياً، وذلك لأن عمر الأرض نفسها محدود، بالإضافة إلى أن الأرض في عمرها المحدود هذا، الذي يمتد إلى عدة ملايين من السنوات، لم تكن قابلة لوجود الكائن الحي فيها، إذن فكيف وجد الكائن الحي لأول مرة؟

وما نشاهد دائماً أن يولد فرد من فرد آخر من نوعه: الحنطة من الحنطة، والشعير من الشعير، والفرس من الفرس، والبعير من البعير، والإنسان من الإنسان، حيث تأبى الطبيعة أن يوجد حيوان أو شجرة لوحدها، من تراب خالص، فلابد أن مبدأ الموجود الحي، موجود حي آخر، ينفصل عنه، كبيضة أو نطفة، ثم يأخذ بالنمو والتكامل في المكان المناسب.

ولكن ماهي بداية هذا العمل، وبأية وسيلة يتحقّق؟فهل ينتهي كل واحد من هذه الأنواع المتعددة الكثيرة من الأحياء إلى فرد معين، من ذلك النوع؟وإذا كان كذلك، فكيف وجود ذلك نحاول في هذه الدراسة التعرف على المنطق القرآني الخاص حول الحياة، وماهي الرؤية القرآنية واُسلوب القرآن في موضوع علاقة الحياة بما وراء الطبيعة وإرادة اللّه؟

لقد ورد ذكر الحياة كثيراً في القرآن الكريم، فقد ذكرت في آيات عديدة، أمثال هذه المفاهيم: أحياء الموجودات، ظهور الموجودات الحيّة، تطورات الحياة، النظام الحاكم في خلق الموجودات، آثار الحياة، وخواصها، أمثال الفهم والشعور والإدراك والسمع والبصر والهداية، والإلهام والغريزة وغيرها، حيث اعتبرها القرآن الكريم آيات وعلامات ومؤشرات على الحكمة والتقدير الإلهيين، وكل واحد من هذه المفاهيم في نفسه، موضوع مثير، ولكننا لسنا في مجال البحث عنها ودراستها.

من المسائل الحياتية التي تعرّض لها القرآن الكريم (إن الحياة بيد اللّه، وإن اللّه تعالى هو الذي منح الحياة، وانه يقبض الروح)، ويستهدف القرآن الكريم بهذا المنطق الخاص، أن يؤكد على أن الحياة ليست بمتناول غير اللّه، فلا يمكن لغيره أن يمنح الحياة أو يأخذها، ونحن نحاول البحث حول هذه الفكرة في هذه الدراسة.

ففي سورة البقرة، ينقل القرآن الكريم عن لسان إبراهيم (عليه السلام)، مخاطباً طاغية عصره (ربي الذي يحيي ويميت)، هو الذي يعطي الحياة ويأخذها، وفي سورة الملك، تصف الباري تعالى: (الذي خلق الموت والحياة)، وهناك آيات كثيرة تؤكد على هذه الحقيقة، وأن المحيي والمميت هو اللّه فحسب، حيث تـنسب إعطاء الروح وقبضها، بصورة مباشرة للّه، حيث تخرج غيره تعالى عن هذا المجال، ومنها تلك الآيات التي تحدثت عن إحياء بعض الأنبياء للموتى، حيث تؤكد على هذا الشرط، بأن العمل تم بإذن اللّه تعالى، مثال الآية (49) من سورة.


1- راجع الجزء الثاني من كتاب اُصول الفلسفة والمنهج الواقعي: 220.

2- نفس المصدر.

3- العلم يدعو للإيمان: 96.

4- يراجع كتاب تاريخ العلوم، بررسو: 701 فما بعدها.