الاستدلال في القرآن

مزيج أسلوبين: الخطابة والبرهان وإمتاع العقل والنفس معاً

إمتاز القرآن في استدلالاته بالجمع بين اسلوبين متنافيين في شرائطهما إسلوب الخطابة واسلوب البرهان: ذاك إقناع للعامة بما يتسالمون به من مقبولات مظنونات وهذا إفهام للخاصة بما يتصادقون عليه من اوليات يقينيات.

ومن الممتـنع عادة أن يقوم المتكلم بإجابة ملتمس كلا الفريقين ليجمع بين الظن واليقين في خطاب واحد.. الأمر الذي حققه القرآن فعلاً بعجيب بيانه وغريب اسلوبه.

والبرهان: ما تركب من مقدمات يقينية سواء أكانت ضرورية (بديهية أو فطرية) أم كانت نظرية (منتهية إلى الضروريات) والقضايا الضرورية ستة أنواع:

1- الأوليات. وهي قضايا قياساتها معها. يكفي في الجزم بالحكم مجرد تصور الطرفين , كقولنا (الكل أعظم من الجزء) أو مع تصور الواسطة وحضورها في الذهن, كقولنا (الأربعة زوج) لأنه ينقسم إلى متساويين.

2- مشاهدات: هي قضايا محسوسة بالحواس الظاهرة كإضاءة الشمس.

3- وجدانيات: منشؤها الحس الباطني كالإحساس بالخوف والغضب.

4- متواترات: أخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب والاختلاق.

5- مجريات: يحصل الجزم بالنتيجة على أثر تكرر المحسوس.

6- حدسيات. هي سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب ويقابلها الفكر, الذي هو حركة الذهن نحو المبادئ ثم رجوعه إلى المطالب , فلا بد من حركتين على خلاف الحدس إذ لا حركة فيه لأن الحركة تدريجية والانتقال آني.

أما الخطابة فهي ما تركب من مقدمات كانت مقبولة معتقداً بها لأمر سماوي أو لمزيد عقل ودين.

ونظيرها الجدل: المركب من قضايا مشهورات تقبلتها العامة وخضعت لها أعرافهم ونسجت عليها طبايعهم, فألفوها وأذعنوا بها إذعاناً.

أو قضايا مسلمات تسلم بها المخاطبون كأصول مفروضة مسلم بها.

والقرآن الكريم قد استفاد في دلائله من كل هذه الأساليب وفي الأكثر جمع بينها في خطاب مع العامة يشترك معهم الخواص.

هذا غاية في القدرة على الإستدلال وإقامة البرهان.

ولنضرب لذلك أمثلة:

1- قال تعالى- بصدد نفي آلهة غير الله ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ الأنبياء /22.

هذه الآية بهذا النمط من الإستدلال في ظاهرها البدائي إحتجاج على أساس الخطابة والإقناع قياساً على العرف المعهود , أن التعدد في مراكز القرار سوف يؤدي إلى فساد الإدارة.. نظيرها آية أخرى ﴿ما أتخذ الله من ولد وما كان معه من إله, إذن لذهب كل إله بما خلق , ولعلا بعضهم فوق بعض , سبحان الله عما يصفون﴾ سورة المؤمنون /91.

يقول العلاّمة الطباطبائي: وتقرير الحجة في الآية, أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد, لكانوا مختلفين ذاتاً, متباينين حقيقة , وتباين حقايقهم يقضي بتباين تدبيرهم, فتتفاسد التدابير وتفسد السماء والأرض.(1)

وهذا النمط من الإستدلال طريقة عقلانية يتسلمها العرف العام قياساً على ماألفوه في أعرافهم.

ولكن إلى جانب هذا فهو إستدلال برهاني دقيق قوامه الضرورة واليقين وليس مجرد قياس إقناعي صرف.

ذلك أن الآية دلت العقول على أن تعدد الآلهة المستجمعة لصفات الألوهية الكاملة يستدعي إما عدم وجود شيء على الإطلاق , وذلك هو فساد الأشياء حال الإيجاد.. أو أنها إذا وجدت وجدت متفاوتة الطابع متنافرة الجنسيات الأمر الذي يقضي بفسادها إثر وجودها وعدم إمكان البقاء.

وذلك لأنه لو توجهت إرادتان مستقلتان من إلهين مستقلين في الخلق والتكوين إلى شيء واحد يريدان خلقه وتكوينه.. فهذا مما يجعله ممتنع الوجود لإمتناع صدور الواحد إلا من الواحد, إذ الأثر الواحد لا يصدر إلا مما كان واحداً ولا تتوارد العلتان على معلول واحد أبداً.

وفرض وجوده عن إرادة أحدهما مع أستوائهما في القدرة والإرادة فرض ممتنع لانه ترجيح من غير مرجح بل ترجح من غير مرجح وهو مستحيل.

ولو توجهت إرادة أحدهما إلى إحداث شيء وأراد الآخر عدم إحداثه فلو تحققت الإرادتان كان جمعاً بين النقيضين أو غلبت إحداهما الأخرى فهذا ينافي الكمال المطلق المفروض في الإلهين وإلا فهو ترجيح من غير مرجح.

ولو توجهت إرادة أحدهما إلى إحداث نظام ومخلوق والآخر إلى نظام ومخلوق غيره.. إذن لذهب كل إله بما خلق, ولكان هناك نظامان وعالمان مختلفان في الخلق والنظام , وهذا الأختلاف في البنية والنظام يستدعي عدم التآلف والوئام والإنسجام وسوف يؤدي ذلك إلى تصادم وان يطغى أحدهما على الآخر ولعلا بعضهم فوق بعض الامر الذي يقضي بالتماحق والتـفاسد جميعاً.

وكل أولئك باطل بالمشاهدة إذ نرى العالم قد وجد غير فاسد وبقي غير فاسد ونراه بجميع أجزائه وعلى اختلاف عناصره , وتفاوت اوضاعه , من علو وسفل وخير وشر يؤدي وظيفة جسم واحد تتعاون أعضاؤه مع بعضها البعض , وكل عضو يؤدي وظيفته بانتظام , يؤدي إلى غرض واحد وهدف واحد وهذه الوحدة المتماسكة غير المتنافرة في نظام الأفعال دليل على الفاعل الواحد المنظم لها بتدبيره الحكيم وهو الله رب العالمين.

وهذا هو البرهان القائم على قضايا يقينية في بديهية العقل.

وقال تعالى بصدد نفي المثل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ سورة الشورى/11.

وجاءت الدعوى مشفوعة ببرهان الإمتناع على طريقة الرمز إلى كبرى القياس.

ذلك أن (المثل) المضاف إليه تعالى رمز إلى الكمال المطلق, أي الذي بلغ النهاية في الكمال في جميع أوصافه ونعوته الذي هو مقتضى الاولوهية والربوبية المطلقة , لأنك إذا حققت معنى الألوهية فقد حققت معنى التقدم على كل شيء والمسيطر على كل شيء ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (2). ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (3).

إذن فلو ذهبت تفترض الاثنينية في هذا المجال وفرضت اثنين يشتركان في هذه الصفات التي هي غايات لجميع الأوصاف والنعوت فقد نقضت وتناقضت في أفتراضك.

ذلك أنك فرضت من كل منهما تقدماً وتأخراً في نفس الوقت, وإن كلاً منهما مُنشِئاً ومنُشَئاً ومستعلى ومستعلى عليه.. إذ النقطة النهائية من الكمال لا تحتمل اثنين لأن النقطة الواحدة لا تنحل إلى نقطتين وإلا فقد أحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد في الطرفين.. إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقاً ولا مستعليا ً.. فانّى يكون كل منهما إلهاً..وللإله المثل الأعلى..؟

ويرجع تقرير الإستدلال إلى البيان التالي:

إن الإله هو ما استجمع في صفات الكمال وبلغ النهاية في الكمال..

ومثل هذا الوصف (مجمع الكمال) لا يقبل تعدداً لا خارجاً ولا وهماً.

إذن فلا تعدد في الاله وليس له فردان متماثلان.وهذا من أروع الإستدلال على نفي المثيل, وكلمة (المثل) هذه تكون إشارة إلى ما حواه المثيل من صفات وسمات خاصة تجعله أهلاً لهذا النعت (إيجاباً أو سلباً) في القضية المحكوم بها.

مثلاً لو قيل خطاباً لشخصية بارزة (أنت لا تبخل) كان ذلك دعوى بلا برهان, أما لو قيل له (مثلك لا يبخل) فقد قرنت الدعوى بحجتها.. إذ تلك خصائصه ومميزاته هي التي لا تدعه أن يبخل , فكأنك قلت (إنك لا تبخل , لأنك حامل في طيك صفات ونعوتاً تمنعك من البخل).

وهكذا جاءت الآية الكريمة:

إن من كان على اوصاف الألوهية الكاملة فإن هذا الكمال والإستجماع لصفات الكمال هو الذي يجعل وجود المثيل له ممتنعاً.. (بالبيان المتقدم).

وعليه ليست الكاف زائدة كما زعم البعض لأن المثل على مفروض البيان إشارة إلى تلك الصفات والسمات التي تحملها الذات المقدسة..ولم يكن المراد من المثل التشبيه فهو بمنزلة (هو) محضاً.

فكان المعنى ليس يُشبه مثله تعالى شيء أي ليس يشبهه في كمال أوصافه ونعوته شيء.

قال الأستاذ درّاز: الآية لا ترمي نفي الشبيه له تعالى فحسب إذ كان يكفي لذلك ان يقول (ليس كالله شيء) أو (ليس مثله شيء) بل ترمي وراء ذلك دعم النفي بما يصلح دليلاً على الدعوى والإنعات إلى وجه حجة هذا الكلام وطريق برهانه العقلي , ألا ترى أنك إذا اردت أن تنفي نقيصة عن إنسان فقلت (فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) كان كلامك هذا مجرد دعوى لا دليل عليها , أما إذا زدت كلمة المثل وقلت (مثل فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) فكأنك دعمت كلامك بحجة وبرهان , إذ مَن كان على صفاته وشيمة الكريمة لا يكون كذلك , لأن وجود هذه الصفات والنعوت مما تمنع الإستفسال إلى رذائل الإخلاق وهذا منهج حكيم وضع عليه أسلوب كلامه تعالى , وأن مثله تعالى ذا الكبرياء والعظمة لا يمكن ان يكون له شبيه أو ان الوجود لا يتسع لأثنين من جنسه (4).

فقد جيئ بأحد لفظي التشبيه ركناً في الدعوى وبالآخر دعامة لها وبرهاناً عليها,وهذا من جميل الكلام وبديع البيان ومن الوجيز الوافي.

وقال تعالى بصدد بيان لا نهائية فيوضه عزت آلاؤه ﴿ولو أن ما في الأرض من شجرة إقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله﴾ سورة لقمان/27.

هذه مقارنة بين المحدود واللامحدود وأن المحدود مهما بلغ عدده وتضخم حجمه فإنه لا يُقاس بغير المحدود..إذ ذاك ينتهي وهذا لا ينتهي ولا مناسبة بين ما ينتهي إلى أمد مهما طال أو قصر وما يمتد إلى ما لا نهاية أبداً.

والكلمة في هذه الآية يُراد بها الوجود المفاض بأمره تعالى المتحقق بقوله (كن) قال تعالى ﴿إنما امره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ سورة يس / 82.

وكل موجود في عالم الخلق وهو ما سوى الله فهو كلمته تعالى كما أطلق على المسيح عليه السلام كلمة الله ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ سورة النساء / 171.(5)

والمعنى أنه لو الأشجار أقلاماً والأبحر مداداً ليكتب بها كلمات الله لنفدت الأقلام والمداد قبل ان تنفد كلمات الله لأنها غير متناهية وذلك لأن كلماته تعالى إفاضات, ولا ينتهي فيضه تعالى إلى أمد محدود أبداً.

وقال تعالى رداً على احتجاج اليهود ﴿وإذا قيل آمنوا بما انزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم﴾ سورة البقرة /91.

إمتنعت اليهود من اعتناق الإسلام بحجة أنهم على طريقة نبيهم موسى عليه السلام وعلى شريعته وذلك لا يمكنهم اتخاذ سيرة أخرى والإيمان بشريعة سواها.

هذا اعتذار زعمت اليهود وجاهته في منابذة الإسلام وقد فنّد القرآن هذا التذرع الكاسد والاحتجاج الفاسد.

إذ لا منافرة بين الشريعتين ولا منافاة بين الطريقين والكل يهدف مرمى واحداً ويرمي هدفاً واحداً.. وقد جاء الأنبياء جميعاً لينيروا الدرب إلى صراط الله المستقيم, صراطاً واحداً وهدفاً واحداً لا تنافر ولا تنافي ولا تعدد ولا اختلاف.

والدليل على ذلك أن هذا القرآن يصدق بأنبياء سالفين وبشرائعهم وكتبهم وما بلّغوا من رسالات الله.. ولو كان هناك تناف وتنافر لما صح هذا التصديق.

وقد جاء هذا التصديق بلفظة ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ في ثمانية مواضع من القرآن (البقرة/97 , وآل عمران/3 والمائدة/478 و الأنعام/92وفاطر/ 3ا ولأحقاف/30).

وبلفظة ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ﴾ في موضعين (البقرة/89 و 101)

وبلفظة ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ في أربعة مواضع (البقرة/41و91.وآل عمران/11والنساء/47).

ومن ثم قال ﴿إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم﴾.

﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾.

﴿وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد أهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد﴾ سورة آل عمران/20.

وفي الآية وما يتعقبها نكات وظرف دقيقة منها قوله ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ﴾ أو ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ في آية أخرى وهذا تنويه بان المتبقي من التوراة ليس كلها وإنما هو بعضها لكنه لم يقل ﴿لما بقى من التوراة عندكم﴾ وعبّر بما معكم.. لئلا يتنبه اليهود إلى ذريعة أخرى لعلهم يتذرعون بها..هو أن المنافرة إنما كانت بين القرآن وما ذهب من التوراة فيجادلون الإسلام بهذه الطريقة وهي طريقة أخذ ما تسالم الخصم دليلاً عليه.

ولم يقل ﴿مصدقاً بالتوراة عندكم﴾ لأنه حينذاك كان أعترافاً بأن الموجود هو تمامها لا بعضها.

فأتى بما لا يمكنهم المخاصمة جدلاً ولا كان أعترافاً بصدق ما عندهم أنه توراة كله وهذا من دقيق التعبير الذي خص به القرآن الكريم.

وأيضاً في التعقيب بقوله (فلمَ تقتلون أنبياء الله-91) نسبة القتل إليهم بالذات , لأنهم رضوا بفعل آبائهم ومشوا على طريقتهم ولو قال: فلم قتل آباؤكم... لكان فيه حديث أخذ الجار بذنب الجار,وكان أشبه بمحاجة الذئب عدا على جمل صغير بحجة أن أباه قد عكر الماء عليه في قناة كان يشرب منها..(6)

إقناع العقل وإمتاع النفس:

ميزة أخرى في احتجاجات القرآن هو حينما يحاول إخضاع العقل ببراهينه المتينة تراه لا يتغافل عن إمتاع النفس بلطائف كلامه الظريفة ورقائق بيانه العذبة السائغة جامعاً بين أناقة التعبير وفخامة المحتوى سهلاً سلسا ًيستلذه الذوق ويستطيبه الطبع عذباً فراتاً لذة للشاربين.

إن للنفس الإنسانية جهتين: جهة تفكير يكون مركزه العقل,وجهة إحساس يكون مركزه وجدان الضمير وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها,فأما إحداهما فإنها تنقب عن الحق لمعرفته أولاً , وللعمل به ثانياً وأما الأخرى فإنها تحاول تسجيل إحاسيسها بما في الأشياء من لذة وألم ومتعة وغذاء للنفس.

والبيان التام هو الذي يوفي لك للحاجتين جميعاً ويطير بنفسك بكلا الجناحين فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية إلى جنب إيفائها متعة الوجدان وإشباع غريزتها في عواطف الإحساس.

أما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءاً لعقلك ولا يهمهم جانب استهواء نفسك ونهم عاطفتك يقدّمون حقايق المعارف والعلوم,لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع.

وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك وتهييج عواطفك وأحاسيسك وإمتاع سمعك وضميرك فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غياً أو رشداً وأن يكون حقيقة أو تخيلاً فتراهم جادين وهم هازلون, يستبكون وإن كانوا لا يبكون ,ويطربون وإن كانوا لا يطربون ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وانهم يقولون ما لا يفعلون﴾(7).

ولا تتكافأ القوتان: قوة التفكير وقوة الوجدان.. وكذا سائر القوى النفسية على سواء..

ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فإنها لا تعمل في النفس دفعة وبنسبة واحدة..بل متناوبة في حال بعد حال ,وكلما تسلطت قوة اضمحلت أخرى وكاد ينمحي أثرها.. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه , والذي يسعى وراء لذائذه عند ذاك تضعف قوة تفكيره.. وهكذا لا تقصد النفس إلى هاتين الغايتين قصداً واحداً أبداً. ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾(8).

وكيف تطمح أن يهب لك إنسان مثلك هاتين الطلبتين على سواء وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء , وما كلام المتكلم إلا إنعكاس الحالة الغالبة عليه ﴿وكل إناء بالذي فيه ينضح﴾. ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾(9), وفاقد الشيء لا يستطيع أن يمنحك به.

هذا مقياس يمكنك أن تتبين فيه ما لكل لسان وما لكل قلم من قوة غالبة عليه,حينما ينطق وحينما يكتب فإذا رأيته يتجه إلى حقيقة فرغ له بعدما قضى وطره مما مضى عرفت بذلك أنه يضرب بوترين , ويتعاقب على نفسه الشعور والتفكير تعاقب الليل والنهار لا يجتمعان.

وأما أن اسلوباً واحداً يتجه اتجاهاً واحداً ويستهدف هدفاً واحداً ويرمي إلى غرض واحد ولكنه مع ذلك قد جمع لك بين الطريقتين قناع عقلك وإمتاع نفسك معاً وفي آن واحد وفي كلام واحد..كما يحمل العنصر الواحد من الشجرة الواحدة أوراقاً وأثمارا ً, أنواراً وأزهاراً أو كما يجري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر,فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر على الإطلاق ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾.

فمن أين لك بكلام واحد وبيان واحد وأسلوب واحد يفيض عليك من الحقيقة البرهانية والدلائل العقلانية بما يرضي أولئك الفلاسفة الحكماء والمتعمقين النبلاء ويرضخ بعقولهم الجبارة.

وإلى جانب ذلك وفي نفس الوقت يضفي عليه من المتعة الوجدانية والعذوبة والحلاوة

والطلاوة ما يسد نهم هؤلاء الشعراء المرحين وأصحاب الأذواق الرقيقة الفكهين.

وكل إنسان حينما يفكر فإنما هو فيلسوف وكل إنسان حينما يحس فإنما هو شاعر

ذلك هو الله رب العالمين الذي لا يشغله شأن عن شأن , القادر على أن يخاطب العقل والقلب معاً بلسان واحد وأن يمزج الحق والجمال جميعاً يلتقيان ولا يبغيان فيستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.. ويسقيك من هذا وذاك شراباً طهوراً عذباً فراتاً سائغاً لذة للشاربين.

هذا هو الذي تجده في كتاب الله الكريم حيثما توجهت وأينما توليت بوجهك إنه في فسحة قصصه وأخباره عن الماضين لا ينسى حق العقل من حكم وعبر وأنه في مزدحم براهينه ودلائله لا يغفل حظ القلب من رغبة ورهبة وشوق ورجاء,يبث ذلك بوفرة شاملة في جميع آياته وبيناته في مطالعها ومقاطعها وتضاعيفها الأمر الذي ﴿تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله﴾(10) ﴿وإنه لقول فصل وما هو بالهزل﴾(11).


1- الميزان ج17 ص267 ط بيروت.

2- الانعام: 14.

3- الزمر: 63.

4- راجع النبأ العظيم / ص128.

5- راجع الميزان ج16 ص245.

6- راجع النبأ العظيم ص 117.

7- سورة الشعراء / 224.

8- سورة الأحزاب / 4.

9- سورة الإسراء / 84.

10- سورة الزمر/23.

11- سورة الطارق/14.