الوجه الثاني لآية النبأ (المفهوم)
المنطوق والمفهوم
نقصد بالمنطوق المدلول: اللفظي للكلام. وهو المعنى المطابقي للفظ، دون المعنى الالتزامي، ونقصد بالمفهوم: المدلولات الالتزامية للجمل وهو مالم يكن مدلولاً مطابقياً للفظ، ولكن يدل عليها اللفظ بالدلالة الالتزامية.
ومثال ذلك من الجمل الشرطية (إذا بلغ الماء كراً لاينجسّه شيء)، فإنَّ منطوق هذه الجملة هو معناها المطابقي، وهو عدم نجاسة الماء بشيء إذا بلغ قدر الكر. وأما مفهومه إذا كان له مفهوم. فهو نجاسة الماء باضافة شيء نجس عليه إذا لم يبلغ قدر الكر.
مفهوم آية النبأ
منطوق آية النبأ هو الاحتراز عما يجيىء به الفاسق من الخبر، وضرورة التبين والتثبت عن صحة الخبر قبل الأخذ به.
ومفهومه عدم الاحتراز عن الخبر الذي يجيىء به من يتورع عن الكذب.
ويمكن أن نتصور المفهوم في هذه الآية على شكلين:
مفهوم الشرط، ومفهوم الوصف
أمّا مفهوم الشرط فلوضوح الجملة في الشرطية في هذه الآية (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) فيكون مفهومها عدم وجوب التبيّن والتثبّت إذا جاء العادل بالنبأ.
والصورة الثانية للمفهوم في هذه الآية الوصف، وهو تعليق وجوب التبيّن في الآية على وصف (الفاسق). والاشكال فيه هو عدم دلالة الوصف على المفهوم، إذ التعليق على الوصف لايدل على كونه علة منحصرة. والمفروض توقّف المفهوم على الانحصار. وليس هذا موضع التفصيل في هذا البحث.
حجيّة خبر الثقة
ويمكن أن تقرّر حجيّة خبر الثقة بطريقة اُخرى، تتألف من ثلاث نقاط. وفيمايلي إجمال وإيجاز لهذه النقاط. ولبسط الكلام في هذه النقاط موضع آخر أرجو أن يوفقني الله تعالى له. وهذه النقاط هي:
ولا يجري كل ذلك من دون حساب وتقدير. فان للخبر قيمة كبيرة في حياة الأمم. وعن طريق (الخبر) تستطيع هذه الدول أن تحقق اهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتستخدم لتحقيق هذه الأهداف قنوات فكرية وتقنية، كما نستخدم نحن العتلة في رفع الأثقال الكبيرة بسهولة وراحة.
ولامر ما يهتمّ العالم اليوم ب- (الاعلام) والمؤسسات الاعلامية، ويأخذ الاعلام السياسي والاقتصادي هذا الحجم الكبير من حياتنا المعاصرة.
وبناءً على ذلك فلابد أن نعرف نحن ماذا نأخذ من الخبر وماذا نرفض، وكيف نتلقى الخبر؟ بتثبت وتبين وتحقيق، أم باسترسال وعفوية؟
وماهو الأصل في الخبر التبين والتثبت أم الوثوق والاطمئنان؟
ان آية النبأ تبين لنا الإجابة الدقيقة على هذه الاسئلة جميعاً، وتضع أساساً دقيقاً للتعامل مع الخبر، وهذا الأساس هو التبين والتثبت، إذا كان مصدر الخبر معروفاً بالفسق (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، والفاسق هو من لا تحجزه التقوى عن الكذب.
واذا عرفنا أن مصدر الخبر لا يحجزه التقوى عن الكذب وانتحال الخبر والرواية...
فمن أفظع الخطأ أن نعتمد هذا المصدر، ونأخذ منه الخبر والرواية من دون تحقق وتثبت.
انتحال الرواية
وكما تستغل اليوم الدول الكبرى الخبر في تحقيق اهدافها العداونية على بلادنا; كذلك استغل المنافقون واعداء الإسلام عبر التاريخ انتحال الرواية على رسول الله - صلى الله عليه وآله - في الاساءة إلى هذا الدين، وفي تشويه معالمه، وتضييع حدوده، وقد دسّوا في هذا الدين من الروايات المنتحلة والموضوعة في تحليل الحرام وتحريم الحلال مالا يعلمه أحد إلاّ الله. ولولا الجهود الكبيرة التي بذلها علماء الحديث في تمييز الحديث الموضوع عن الحديث الصحيح ; لضاعت عنا معالم هذا الدين. وقد ألف المحدثون كتباً عديدة في الموضوعات من الرواية جمعوا فيها طوائف من الحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله.
وقد كان للعامل السياسي دور كبير في وضع الحديث. فأدخل حكام بني أمية روايات موضوعة كثيرة في حديث رسول الله لتثبيت دعائم حكمهم. وأول هؤلاء معاوية الذي جَرَّأ الناس الذين لايخشون الله على انتحال الحديث ونسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - وكل الأحاديث الواردة في فضائل معاوية عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - من هذا القبيل من دون استثناء، كما بذل أموالاً طائلة في وضع الأحاديث على لسان رسول الله - صلى الله عليه وآله - في الانتقاص من الإمام علي عليه السلام. وبذل حكام بني أمية أموالاً طائلة في انتحال الحديث في موضوع الرضوخ للحكام الظلمة وتحريم الخروج عليهم ووجوب طاعتهم. وحضور الجُمَع معهم، وجباية الأموال لهم، وان جاهروا بالمنكرات التي حرمها الله تعالى، وقد دخلت طائفة من هذه الأحاديث المسانيد والسنن والصحاح. وهي على خلاف تصريح كتاب الله الذي نهانا عن الركون إلى الظالمين وإلاّ فتمسنا النار.
كيف نتعامل مع الخبر؟
تعلمنا الآية الكريمة كيف نتعامل مع الأخبار والاشاعات والروايات، وهو أمر خطير وهام في حياة الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والعلمية. فلا يستطيع الإنسان أن يعتمد على مشاهداته وتجاربه ومعلوماته الشخصية في تيسير اُمور حياته.
ولابد له من أن يعتمد معلومات ومشاهدات وتجارب الآخرين، ولا يستطيع أن يستغني ويكتفي بمشاهداته وتجاربه الشخصية.
ولكن لا يجوز للانسان اعتماد (الخبر) بصورة مطلقة، من أي مصدر يكون الخبر.
والسؤال الذي يوجه الإنسان في مختلف شؤون حياته متى يقبل الخبر ومن أي مصدر، ومتى يرفض الخبر؟
وهذا هو موضوع هذه الآية الكريمة.