دور الثقة في مساحة الدين والإيمان بالغيب

ومساحة الدين في حياة الإنسان كلها مساحة الثقة. ومن دون عامل الثقة تتعطل علاقة الإنسان بالدين، ويتعطل دور الدين في حياة الإنسان. فان الدين هو الثقة بالانبياء فيما يوحى إليهم من الله تعالى من الغيب. والغيب مما لايمكن أن يناله الإنسان بالمشاهدة والتجربة واللمس فلا محالة ينحصر طريق الايمان بالغيب بالانبياء وأَساس ذلك كلها الثقة بالأنبياء. وقد عدّ الله تعالى الايمان بالغيب الأساس الأول في هذا الدين.

2 - آية النبأ، حيث تحذر من الأخذ بالخبر إذا كان الذي يأتي بالخبر فاسقاً.

أما التعديل في سيرة العقلاء في الموضع الأول فقد ناقش فيه علماء الاصول، ومن أوجهها مناقشات المحقق صاحب الكفاية، وهي ثلاثة:

أما أولاً: فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية أن الظاهر من هذه الآيات هو الانصراف إلى اُصول الدين، وليس الفروع بقرينة المورد والسياق. فان قوله تعالى (ان يتبعون إلاّ الظن) ورد عقيب قوله تعالى (ان الذين لايؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى ومالهم به من علم)، هذا أولاً.

وثانياً: إذا لم يكن المورد والسياق كافياً لتخصيص الوارد باصول الدين فلا أقلَّ من أن يكون موجباً لاجمال الوارد، ولا مناص حينئذ من الأخذ بالقدر المتيقن وهو في أبواب اصول الدين فقط، دون الفروع وذلك لاحتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة على الانصراف إلى اصول الدين.

وثالثاً: على فرض نفي دلالة المورد والسياق على تخصيص الوارد، وعلى فرض نفي الاجمال في الآية الكريمة بسبب القرينة المذكورة في الآية نفسها.. أقول: على فرض نفي هذا وذاك فإنَّ اطلاق الآية يدل على التوقف عن الأخذ بالخبر في حالة عدم حصول العلم، ولكن الأخبار الواردة في حجية الخبر أخص من تلك الآيات فتكون مخصصة لها، أو حاكمة عليها. وبهذا الشرح فلا تكون في هذه الآيات دلالة على التعديل في السيرة العقلائية القائمة على حجية الاطمئنان بالخبر، في غير الموضعين اللذين أشرنا إليهما.

وأما التعديل في الموضع الثاني فلابد أن نأخذ به لصراحة أية النبأ في الردع عن أخذ الخبر من الفاسق قبل التبيّن.

وبذلك تثبت حجية الخبر من قبل غير الفاسق في نظر الشارع... فانَّ سكوت الشارع عن سيرة العقلاء في حجية الاطمئنان، في غير مورد (خبر الفاسق) يدل على اقرار الشارع لها، كما في سائر موارد سيرة العقلاء.

وبذلك يتم الاستدلال بحجية خبر الواحد لغير الفاسق، بمنطوق آية النبأ، بضميمة سيرة العقلاء دون الحاجة للجوء إلى مفهوم الآية الكريمة.

النقطة الاُولي

حصول الاطمئنان من الخبر لدى عامة الناس إلاّ في حالتين:

الحالة الاُولى: أن يكون المخبر متهّماً بالكذب.

الحالة الثانية: أن يكون للمخبر مصلحة معقولة في الكذب. إلاّ أن يكون حامل الخبر معروفاً بالوثوق أو العدالة.

وفي غير هاتين الحالتين يطمئن الناس إلى مايلقى إليهم من الأخبار، سواء كان ذلك في الصحافة والاذاعة، أو كان في السوق، أو كان في البيت أو كان في المدرسة، ممّا يلقي الاساتذة على طلبتهم من العلم. وبنفس الملاك نأخذ الناس برأي أهل الخبرة وذوي الكفاءات في شؤون العلم كالطب والهندسة والحقوق، حيث يأخذ الناس بآرائهم إِلا في الحالتين المتقدمتين، والرجوع إلى أهل الخبرة في مواضع اختصاصهم، وإن كان يختلف عن الرجوع إلى المخبر والأخذ بالخبر، إلاّ أن الاطمئنان نفس الاطمئنان، والملاك نفس الملاك.

والخلاصة: أن الناس لايجدون حَرَجاً في الاطمئنان إلى الخبر، مالم يكن المخبر متهّماً بالكذب، أو تتوفر فيه دواعي للكذب، فيجب عندئذ التأكّد من وثوق المخبر أو عدالته. وهذه المقدمة وجدانية لانحتاج لاثباتها إلى استدلال وإثبات. وهذه هي النقطة الاُولى.

النقطة الثانية

إنّ هذا الاطمئنان ليس من العلم قطعاً. فلا تكون حجيته في ذاته، كما في القطع، حيث أن حجيته ذاتية، ولكن الناس يتعاملون مع الاطمئنان معاملة الحجة، ويعتبرونه حجة فيما بينهم. ففي القضاء يحكم القاضي بموجب اطمئنانه، ويحاجج القاضي الخصم في القضاء باطمئنانه، والناس فيما بينهم يتعاملون على أساس حجية الاطمئنان.

وإذا توقفنا عن الأخذ بالخبر أحياناً، إذا كان الخبر خطيراً... حتى يثبت الخبر بالقرائن الاُخرى. فليس لعدم حجية الاطمئنان، حتى لو كان المخبر ثقة وإنما من أجل احتمال الخطأ في الخبر. واحتمال الخطأ غير احتمال الكذب.

ولعلاج احتمال الخطأ طريق آخر، ولا علاقة له بحجية الخبر من ناحية الوثوق والاطمئنان بصدق المخبر.

والذي يتأمل في حياة الناس في المحاكم، وفي الأسواق، وفي المساحات الاخرى من الحياة، لايتوقف عن القول بحجية الاطمئنان عند العقلاء، واعتباره علماً اعتبارياً، وبحكم العلم، لدى االعقلاء.

النقطة الثالثة

إنَّ الشارع لم يردع عن السيرة العقلائية بحجية الاطمئنان إلاّ في موضعين:

1 - في الآيات الرادعة عن الأخذ بغير العلم مثل قوله تعالى ﴿ولا تقف ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً﴾ وقوله تعالى ﴿ان يتبعون إلاّ الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً﴾.

ومهما يكن من أمر فان أمر الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - أمر خطير تتعلق به سلامة هذا الدين. ولابد من دراسة علمية دقيقة فيما نأخذ وما نرفض من الرواية، ولابد من دراسة دقيقة لسند الحديث لتمييز الثقاة من رجال السند عن الضعفاء، المتهمين بالكذب والوضع.

وقد دوّن العلماء كذلك علم (الرجال) و (الجرح والتعديل)، وهو علم شريف يمكننا من تمييز ما صَحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - من الحديث عما لم يصح.

هذا فيما يتعلق بقاعدة الحذر والتبين، وهو الوجه الأول من آية النبأ المباركة.