أزمة الثقة وأزمة السذاجة

وبعد هذا الشرح نقول: اننا نعاني في حياتنا الاجتماعية من أزمتين أزمة الثقة في شريحة من الناس، لاتستجيب قلوبهم للثقة، وينظرون إلى كل شيء وكل شخص بنظر الريبة والشك وسوء الظن وهذه أزمة نفسية واجتماعية بالتأكيد، ومن أسباب تخريب العلاقات الاجتماعية، ويسري مفعوله بشكل أو بآخر إلى علاقة الإنسان بالغيب بصورة غير مباشرة، وهناك إلى جانب هذه الأزمة أزمة اخرى.

أ - فهو - عليه السلام - يستأذنه أولا في أن يتبعه، ولا يخبره بأنه قد قرر لوحده أن يتبعه فيقول له (هل أتبعك) وفي ذلك من أدب المرافقة مالا يخفى.

ب - ويقول له أتبعك، ولا يقول له اُصاحبك، والاتباع غير الصحبة، ودون الصحبة، ويضع رسول الله موسى بن عمران - عليه السلام - هنا نفسه من العبد العالم في موضع التابع، وليس في موضع الصاحب: فيقول (هل أتبعك).

جـ - ويقول له: (على أن تعلمن) فيحدد له موقعه - عليه السلام - منه، وهو موقع المتعلم من المعلم.

د - ويقول له - عليه السلام - (على أن تعلمن)، ولا يقول (أتعلم)، فيختفي موسى - عليه السلام - من المشهد، وتختفي ظلاله ولا يبقى في المشهد إلاّ المعلم والتعلم، وهو غاية في الأدب.

هـ - ويقول له - عليه السلام - (مما عُلمت)، فليس يطلب رسول الله موسى - عليه السلام - من العبد العالم أن يعلمه كل ماآتاه الله تعالى من المعرفة، انما يستأذنه أن يتبعه ليعلّمه بعض ماآتاه الله من المعرفة، و (ما) في (مما علمت) للتبعيض أي البعض مما آتاك الله من المعرفة.

و - ويقول له - عليه السلام - (مما عُلمت) ولا يقول مما علمك الله تعالى وكأنه يُجلُّ الله من أن يذكره.

ز - ويقول - عليه السلام - له (مما علّمت رشدا) فلا يعلم العبد العالم إلاّ الرشد، ولا يتعلم منه موسى بن عمران - عليه السلام - إلاّ الرشد.

هذا وموسى بن عمران - عليه السلام - من الأنبياء الخمسة أُولي العزم وكليم الله، وسلام الله عليه، ورزقنا الله بعضاً من أدبه الجم وخلقه الرفيع.

3 - ﴿قال انك لن تستطيع معي صبراً﴾ وهذا جواب العبد العالم لموسى بن عمران - عليه السلام - يقول له: ان الذي تريد أن تتعلمه يحتاج إلى صبر عظيم، وأنت لاتقدر على ذلك.

ثم يبين له سر ذلك ﴿وكيف تصبر على مالم تحط به خُبراً﴾، وهذا هو روح الموضوع وسرّه، فان الصبر على ما لايعرفه الإنسان، ولا يحيط به خبراً من أشق الاُمور.

فاستجاب موسى بن عمران - عليه السلام - لطلب العبد العالم، ووعده أن يصبر ماشاء الله له أن يصبر (قال ستجدني ان شاء الله صابراً ولا اعصي لك أمراً)، وصدق العبد العالم، فقد شَقَّ على موسى بن عمران - عليه السلام - أن يصبر على ماكان يفعله العبد العالم، مما لم يحط به خبرا مرة اخرى.

ففي المرة الاُولى عندما خرق العبد العالم السفينة انتفض موسى بن عمران - عليه السلام -، وقال: (أخرقتها لِتغرقَ أهلها لقد جئتَ شيئاً إمرا) فلما ذكّره العبد العالم بوعده الذي وعده (قال لا تؤاخذني بما نسيتُ ولا تُرهقني من أمري عُسرا)، فما تجاوز موسى بن عمران - عليه السلام -.

وإليك القصة من سورة الكهف:

﴿وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً * وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حُقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حُوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه ءاتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً * قال أرءيت إذ أوينا إلى الصخرة فاني نسيتُ الحُوتَ وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عبجاً * قال ذلك ماكنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا * فوجدا عبداً من عبادنا آيتناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تُعلمنِ مما عُلِمتَ رُشداً * قال إنك لن تستطيع معي صبراً * وكيف تصبر على مالم تُحِط به خُبرا * قال ستجدني إن شاء صابراً ولا أعصي لك أمراً * قال فان اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى اُحدِثَ لك منه ذِكراً * فانطلقا حتى إذا رَكِبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لِتغرقَ أهلها لقد جئتَ شيئاً إمراً * قال ألم أقل انكَ لن تستطيع معي صبراً * قال لاتؤاخذني بما نسيتُ ولا تُرهقني من أمري عُسراً * فانطلقا حتى إذا لقيا غُلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نُكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا * قال هذا فِراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورآءهم ملك يأخذُ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربُكَ أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلتُهُ عن أمري ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبراً﴾.

مجموعة نقاط في سورة الكهف

1 - يظهر لنا من سياق القصة أن نبي الله موسى بن عمران - عليه السلام - كان مأموراً من جانب الله تعالى باللقاء بالعبد العالم عند مجمع البحرين، ولذلك كان - عليه السلام - حريصاً على الا يفوته هذا الموعد (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حُقباً)، وكانت العلامة التي جعلها الله تعالى لرسوله موسى بن عمران - عليه السلام - هو أن ينسيا (هو وفتاه) السمكة، وتأخذ السمكة سبيلها في البحر عجبا، فلما تأكد موسى - عليه السلام - من حصول العلامة أمر فتاه بالرجوع إلى المكان الذي نسيا فيه السمكة، وأتخذت سبيلها في البحر عجبا (قال ذلك ماكنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا، فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) فعرف موسى بن عمران - عليه السلام - أنّه هو الذي أمره الله تعالى باللقاء به، واتباعه، والتعلّم منه، فقال له في أدب جم: (قال له موسى هل أتبعك على أن تُعلمنِ مما عُلِمتَ رُشدا) وفي هذه الجملة والسؤال والطلب من أدب النبوة مالا يطيقه ولا يعرفه إلاّ الأنبياء:

الحق بالحق، ومعرفة الحق بأهل الحق، فانَّ لكل من هذين الأصلين مساحته الخاصة في المعرفة والحياة ولا تتداخل هاتان المساحتان. وليس معنى ذلك أن نضع ثقتنا في الأنبياء(عليهم السلام) من دون حساب ونأخذ بما يقولون بلا حساب. فهذا مما لايصح ولا يجوز على كل حال. ولكننا نضع ثقتنا في الأنبياء(عليهم السلام) بالبينة، فإذا تبيّنا الحقّ بالبينة في كلامهم وحياتهم نضع عندئذ الثقة فيهم، فيما يوحى إليهم من الغيب بشكل مطلق، ونعرف بهم الحق، ونميز بهم الهدى عن الضلال.

وهذا باب آخر من المعرفة، أوسع من الباب الاول وسبيلنا إلى معرفة (الغيب) من خلال هذا الباب.

والإنسان يحتاج إلى (الوثوق)، كما يحتاج إلى (المعرفة)، فان من المعرفة مالا سبيل للانسان إليها إلاّ بالوثوق.

فلا سبيل للانسان إلى معرفة الغيب إلاّ بالوثوق; و الوثوق عنصر ضروري للمعرفة. ولئلا يحصل أي التباس في هذا الأمر نعيد مرة اُخرى ماذكرناه قريباً من أن أهمية وضرورة الوثوق في حياة الإنسان ليس بمعنى أن يضع الإنسان ثقته في كل قائل ومُدّع، فهذا مما لانقول به، ولا يجوز أن يقول به أحد. ولكننا نقول أن الإنسان إذا عرف الأنبياء بالبينات، فعندئذ لايسعه أن يتعامل مع كلماتهم ومفاهيمهم إلاّ من خلال التسليم والايمان. والإنسان بحاجة إلى هذه (الثقة)، بقدر ماهو بحاجة إلى (المعرفة). والذهنيّات المشككة التي تنال قضايا الغيب والتشريع بالتشكيك، لاتنال من المعرفة إلاّ اليسير البتّة.

ومن هنا فان الله تعالى يمتحن عباده ب-(الثقة)، ولا تكتمل شخصية الانسان من دون اكتمال حالة (الثقة)، وهي أن يتلقى الانسان قضايا التشريع والغيب، بالتسليم، ودون مناقشة وترديد.