في رحاب آية النبأ
هي أزمة الاستجابة السريعة والوثوق والاطمئنان من دون تحقيق وتبيّن، إلى حدّ السذاجة والبساطة، وهذه أزمة اخرى بالتأكيد في الحياة الاجتماعية، ولها آثار سلبية واسعة على حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية.
أين نضع الثقة؟
والآن بعد هذه الجولة من مسألة الثقة نقول ليس معنى ماذكرنا من أمر الثقة أن يستجيب الإنسان من دون بيّنة ومن دون مقاييس ومعايير دقيقة لكل دعوة ولكل خطاب، ولابد أن يكون الإنسان دقيقاً في اختيار الموضع الذي يضع ثقته فيه.
روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين - عليه السلام -أنه قال: ((إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لايغرنَّكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف نيته ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها، فهو لايزال يختل الناس بظاهره، فان تمكن من الحرام اقتحمه.
واذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام، فرويداً لايغرنكم فان شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإنْ كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة، فيأتي منها محرماً.
فاذا وجدتموه يعفّ عن ذلك، فرويداً لايغرنكم، حتى تنظروا ماعقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون مايفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.
فاذا وجدتم عقله متيناً، فرويداً لايغرنكم، حتى تنظروا أمع هواه يكون عقله؟ أم يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبته للرياسات الباطلة وزهده فيها؟
فان في الناس من خسر الدنيا والآخرة، بترك الدنيا للدنيا، ويرى أنَّ لذّة الرياسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنعم المباحة المحللة; فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة الباطلة، حتّى إذا قيل له: اتق الله (أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد).
فهو يخبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمدّه ربه بعد طلبه لما يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ماحرّم الله، ويحرّم ماأحل الله، لايبالي مافات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي من أجلها، (فاولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً).
ولكنّ الرجلَ كل الرجل، نعم الرجل، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذل مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لاتبيد ولاتنفد، وانَّ كثيرٌ مايلحقه من سرّائها إن اتّبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال)).
هذا الامتحان العسير حتّى واجه امتحانا أعظم عسراً من الاول: (فانطلقا حتى إذا لقيا غُلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نُكرا) فقد هزّه - عليه السلام - هذه المرة ما رآه من قتل الغلام البريء، الذي لايعرف له ذنباً يستوجب قتله، وهو غلام صغير، وانتفض ينكر على العبد العالم هذا التصرف، دون أن يذكر ما وعده به آنفاً من الصبر على مالا يعلمه فذكّره العبد العالم بما قال له من قبل، أنه لا يستطيع معي صبراً.
فطلب منه موسى بن عمران - عليه السلام - أن يمهله مرة ثالثة وهي آخر مرة، فإذا سأله عن شيء، فلا يصاحبه من بعده (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا)، ولكنه - عليه السلام - لم يُطق الصبر هذه المرة أيضاً (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا) عندئذ أعلن العبد العالم له - عليه السلام -: أن هذا فراق بينه وبينه - عليهما السلام -: (قال هذا فراق بيني وبينك).
4 - ثم شرح له - عليه السلام - ماخفى عليه من الاُمور التي لم يُطق السكوت عنها.
فقال له: (سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً)، فيشرح له ماخفي ليه من أعماله خلال هذه السفرة القصيرة واحداً بعد آخر فيقول له (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردتُ أن اعيبها، وكان ورآءهم ملك يأخذُ كل سفينة غصبا، وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما، وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربُكَ أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك، وما فعلتُهُ عن أمري ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبراً)، فلم يكن العبد العالم يريد اخفاء سر مافعله على موسى بن عمران - عليه السلام -، ولكن الله تعالى كان يريد أن يُعلم عبده وكليمه موسى بن عمران - عليه السلام - الصبر على مالا يعلم، والثقة والتسليم.
5 - وفي قصة الجدار الذي كان يريد أن ينقض يقول العبد العالم (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة * وكان تحته كنز لهما * وكان أبوهما صالحاً فأراد ربُكَ أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) وهو أمر للنظر، أن صلاح الاب ينعكس على ابنائه وذريته، فيَرَحَمُ الله الذرية بسبب صلاح الأب (وكان أبوهما صالحاً فأراد ربُكَ ان يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك).