ويقول عندما يستشهد بالشعر على شرح مفردات القرآن وأسلوبه

ويقول عندما يستشهد بالشعر على شرح مفردات القرآن وأسلوبه:

(ولولا عناد الملحدين وتعجرفهم لما احتيج إلى الاحتجاج بالشعر وغيره للشيء المشتبه به في القرآن، لأن غاية ذلك أن يستشهد عليه ببيت شعر جاهلي، أو لفظ منقول عن بعض الأعراب، أو مثل سائر عن بعض أهل البادية. ولا تكون منزلة النبي (ص) - وحاشاه من ذلك - أقل من منزلة واحد من هؤلاء ولا ينقص عن رتبة النابغة الجعدي وكعب بن زهير وغيره. ومن طرائف الأمور أن المخالف إذا أورد عليه من شعر من ذكرناه ومن هو دونهم سكنت نفسه واطمأن قلبه. وهو لا يرضى بقول محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب، ومهما شك الناس في نبوته فلا مرية في نسبه وفصاحته، فإنه نشأ بين قومه الذين هم الغاية القصوى في الفصاحة ويرجع إليهم في معرفة اللغة. ولو كان المشركون من قريش وغيرهم وجدوا متعلقاً عليه في اللحن والغلط والمناقضة لتعلقوا به وجعلوه حجة وذريعة إلى إطفاء نوره وإبطال أمره واستغنوا بذلك عن تكلف ما تكلفوه من المشاق في بذل النفوس والأموال... وكيف يجوز أن يحتج بشعر الشعراء عليه ولا يجوز أن يحتج بقوله عليهم وهل هذا إلا عناد محض وعصبية صرف؟)(1).

إن استعراض النصوص السالفة يوضح لنا الأسس الرئيسية لمنهج الطوسي في التفسير، ويحدد بجلاء معالم ذلك المنهج وخطوطه العريضة (2).

ويأتي في مقدمة تلك المعالم والخطوط قيام هذا المنهج على (الأدلة الصحيحة: أما العقلية أو الشرعية) دون الاتباع المطلق والتقليد الأعمى للمفسرين السابقين: وتبرز الأدلة العقلية هنا لأول مرة لتحتل مكانها الطبيعي الأصيل، بعد أن كان النقل في مناهج المفسرين هو الدليل الأوحد، وليس من دليل غيره.

وعلى الرغم من الدور الكبير الذي يلعبه النقل في هذا الكتاب فإنه يعني النقل القائم على النقد والمحاكمة والترجيح، ولذلك اشترط في قبوله قيام إجماع عليه أو إنه ( نقل متواتر به عمن يجب اتباع قوله، لا يقبل في ذلك خبر واحد) لأن في المفسرين (من ذمت مذاهبه كأبي صالح والسدي والكلبي وغيرهم). ولذلك لا بد للنقل المعتبر في منهح الطوسي أن يدعمه الإجماع والتواتر بشروطهما المقررة.

وحتى ذلك البعض من رواة التفسير ممن (حمدت طرائقه ومدحت مذاهبه كابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم) لم يتلق الطوسي سائر ما روي عنهم بالقبول ولم يجد ما يبرر الانسياق مع سائر مروياتهم على كل حال.

وانطلاقاً من هذه الأسس رفض الطوسي كثيراً من روايات الطبقة الأولى من المفسرين، وأبان جوانب الخطأ والضعف فيها، وكان من جملة أولئك الذين أبان خطأهم ورفض بعضاً من رواياتهم: مجاهد (3) وابن جريج (4) وعكرمة (5) والسدي (6) وعشاء (7) وابن كيسان (8) والحسن (9) وابن إسحاق (10). ووقف من نقول ابن عباس موقف التردد في بعض الأحيان (11) كما رفض في أحيان أخرى بعض الآراء على الرغم من ورود روايات (كثيرة من جهة الخاصة والعامة) فيها، لأن (طريقها الآحاد لا توجب علماً ولا عملاً والأولى الإعراض عنها) (12).

وإذا كان موقف الطوسي من أقوال الطبقة الأولى على هذا النحو من الدقة والحزم والموضوعية فإن موقفه من أقوال المفسرين المتأخرين ممن تلا الطبقة الأولى كان كذلك بل أكثر من ذلك، لأن (كل واحد منهم نصر مذهبه، وتأول على ما يطابق أصله، ولا يجوز لأحد أن يقلد أحداً منهم) ولذلك نجده يرفض من آرائهم ما يستأهل الرفض ويناقش في أقوالهم ما اقتضى الأمر المناقشة، كما فعل مع الطبري(13) والجبائي(14) والبلخي(15) والرماني(16).

وهكذا يصبح للنقل لدى الطوسي حدود ثابتة قائمة على الإجماع أو التواتر، دون ما كان طريقه الآحاد، ودون الشعور بضرورة السير وراء نقول التفسير في كل الفروض.

وهذا الجانب أحد جوانب التطوير الرئيسية في منهج الطوسي.

أما العقل فكان له هو الآخر دور كبير أيضاً في هذا المنهج وقد اعتمد عليه الطوسي - كل الاعتماد - في شرح معاني القرآن وأهدافه وفي الرد على مقالات الفرق والمذاهب المخالفة لوجهة نظره، وفي الدفاع عن طائفته الشيعية.

ودحض ما أورد عليهم من شبهات ونقود(17). ولم يكن يستطيع - لولا هذا الاستناد الكبير على العقل - أن يقوم بهذه المهمة على هذا النحو من الشمول والعمق والبرهنة السليمة الموفقة. وحسبنا أن نراجع النماذج التالية من ردوده ليتجلى لنا دور العقل في هذا المنهج على حقيقته الناصعة وواقعه المشرق.

الرد على أهل الوعيدية (7 / 448). الرد على التناسخية (4 / 129). الرد على الحشوية (7 / 243). الرد على الخوارج (19 / 366). الرد على الغلاة (5 / 93). الرد على المجبرة (1 / 30). الرد على المرجئة (7 / 449). الرد على المشبهة (4 / 113). الرد على المعتزلة (2 / 418). الرد على المفوضة (2 / 216).

ولعل أبرز ما يثير الإعجاب والتقدير ويوضح ما أشرنا من هيمنة العقل على منهج الطوسي أن نقرأ تصريح الشيخ - وهو في قرنه الخامس الهجري - بعدم رفضه لفكرة كروية الأرض، وفي ذلك يقول:

( واستدل أبو علي الجبائي بهذه الآية -(18) البقرة - على أن الأرض بسيطة ليست كرة كما يقول المنجمون والبلخي، بأن قال: جعلها فراشاً، والفراش: البساط بسط اللّه تعالى إياها، والكرة لا تكون مبسوطة.

قال - أي الجبائي -: والعقل يدل أيضاً على بطلان قولهم، لأن الأرض لا يجوز أن تكون كروية مع كون البحار فيها، لأن الماء لا يستقر إلا فيما له جنبان متساويان... فلو كانت له ناحية في البحر مستعلية على الناحية الأخرى لصار الماء من الناحية المرتفعة إلى الناحية المنخفضة).

ثم يقول الشيخ معلقاً على ذلك:

(وهذا لا يدل على ما قاله، لأن قول من قال: الأرض كروية، معناه أن لجميعها شكل الكرة)(19).

ومن الشواهد البارزة على دور العقل في هذا المنهج عدم استبعاد الطوسي لفكرة كون السحاب ناشئاً من بخار الأرض، وفي ذلك يقول:

(فإن قيل: هل السحاب بخارات تصعد من الأرض؟ قلنا: ذلك جائز لا يقطع به، ولا مانع أيضاً من صحته من دليل عقل ولا سمع)(20).

ومن تلك الشواهد أيضاً رفضه لفكرة كون السماوات غير الأفلاك، وفي هذا الصدد يقول:

قال الرماني: السماوات غير الأفلاك، لأن الأفلاك تتحرك وتدور وأما السماوات فلا تتحرك ولا تدور لقوله تعالى: (إن اللّه يمسك السماوات والأرض أن تزولا) وهذا ليس بصحيح لأنه لا يمتنع أن تكون السماوات هي الأفلاك وإن كانت متحركة، لأن قوله: (يمسك السماوات والأرض أن تزولا) معناه لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها)(21).

وهذا السلوك العقلي بهذا العمق والتجرد والانفتاح جانب آخر من جوانب التطوير الأساسية في منهج الطوسي.

ثم يأتي بعد ذلك دور الجانب الثالث من جوانب المنهج، وهو جانب اللغة والنحو والاشتقاق وما يرتبط به من بحث القراءات المختلفة وترجيح بعضها على بعض، ولذلك كله ميدان واسع في تفسير الطوسي وقد رجع الشيخ إلى آراء الأعلام البارزين في هذه الصناعات، واطلع على مؤلفاتهم المعنية بالقرآن، وسرد أقوالهم بالتفصيل.

وكان من جملة من رجع إليه في شؤون اللغة والاشتقاق والنحو: سيبويه. الخليل صاحب كتاب العين - ولم يسمه -. أبو عمرو. الكسائي. قطرب. الفراء. الأخفش. أبو زيد. أبو عبيدة. الأصمعي. ثعلب. ابن الأعرابي. المبرد. الزجاج. ابن دريد. الأزهري. أبو علي الفارسي وأضرابهم.

ولكن الطوسي إذ يروي عن هؤلاء آراءهم في الاشتقاق والنحو واللغة فإنه لا يلتزم بها إلا بعد غربلة وتمحيص وقد يرد بعضها لرجحان رأي آخر كما فعل مع الكسائي(22) والفراء(23) وأبي عبيدة(24).


1- التبيان - 1 / 16.

2- التبيان - 1 / 16.

3- التبيان - 3 / 519.

4- التبيان - 1 / 104 - 105.

5- التبيان - 8 / 240.

6- التبيان - 1 / 354.

7- التبيان - 1 / 29.

8- التبيان - 1 / 27.

9- التبيان - 6 / 489.

10- التباين - 1 / 435.

11- التبيان - 1 / 60 و230.

12- التبيان - 11 / 3.

13- التبيان - 1 / 60 و223 و416 و448 ومواضع أخرى من الكتاب.

14- التبيان - 1 / 102 ومواضع أخرى.

15- التبيان - 1 / 13 - 14 و255 ومواضع أخرى.

16- التبيان - 1 / 125 و151 - 153 و393 ومواضع أخرى.

17- التبيان - 1 / 13 - 14 و225 و2 / 292 و418 و5 / 48 ومواضع أخرى.

18- لقد تعرض الطوسي للرد على هذه الفرق والمذاهب في كل أجزاء الكتاب، واكتفينا هنا بالتنبيه على هذه المواضع لغرض التمثيل والإشارة.

19- التبيان - 1 / 102 - 103.

20- التبيان - 2 / 58.

21- التبيان - 1 / 125.

22- التبيان - 1 / 140.

23- التبيان - 1 / 104 و229.

24- التبيان - 1 / 128 - 129.