منهج التبيان

ومن أشهر التفاسير التي ألفها الشيعة: كتاب (التبيان) للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460 هجري.

وإننا لنعود الآن بعد هذه الجولة السريعة في مناهج التفسير لنتعرف بالخطوط الأساسية للمنهج الذي سار عليه في كتابه الضخم الكبير (التبيان في تفسير القرآن) (1)، ولنعرف - ومن ثم - مدعى تأثره بالمناهج التي سبقته، ومدى ما حفل به منهجه المختار من معالم التجديد والتطوير والإبداع.

وتفسير (التبيان) تفسير قيم من تفاسير المسلمين، وقد تضمن من كنوز العلم والمعرفة ما يجعله إحدى القمم الشامخة بين الكتب المعنية بالقرآن. وليس ذلك غريباً أو محتاجاً للاستدلال ما دام مؤلفه - كما نعرف - علماً من أعلام الدين وشيخاً من شيوخ الإسلام وقيماً من قوام الشريعة وحفظتها الأمناء المخلصين.

ولعلَّ الشيخ أبا علي الفضل بن الحسن الطبرسي المتوفى سنة 538 هجري مؤلف كتاب (مجمع البيان في تفسير القرآن) خير من عرف حق هذا الرجل، وأول من اعترف بفضله وأهمية كتابه، فقال فيه في جملة ما قال:

(إنه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق، ويلوح عليه رواء الصدق قد تضمن من المعاني الأسرار البديعة، واحتضن من ألفاظ اللغة الوسيعة، ولم يقنع بتدوينها دون تبيينها، ولا تنميقها دون تحقيقها. وهو القدوة استضيء بأنواره وأطأ مواقع آثاره) (2). وقبل الدخول في صلب الحديث عن منهج الطوسي يجدر بنا أن نستعرض النصوص التالية المقتبسة من مقدمة (التبيان) لنستعين بها على وضوح الرؤية وتحديد النتائج.

يقول الطوسي في بيان الأسباب التي حملته على تأليف الكتاب:

(فوجدت من شرع في تفسير القرآن من علماء الأمة، بين مطيل في جميع معانيه واستيعاب ما قيل فيه من فنونه كالطبري وغيره، وبين مقصر اقتصر على ذكر غريبه ومعاني ألفاظه. وسلك الباقون المتوسطون في ذلك مسلك ما قويت فيه منتهم وتركوا ما لا معرفة لهم به، فإن الزجاج والفراء ومن أشبههما من النحويين أفرغوا وسعهم فيما يتعلق بالإعراب والتصريف، ومفضل بن سلمة وغيره استكثروا من علم اللغة واشتقاق الألفاظ، والمتكلمين كأبي علي الجبائي وغيره صرفوا همتهم إلى ما يتعلق بالمعاني الكلامية، ومنهم من أضاف إلى ذلك، الكلام في فنون علمه، فأدخل فيه ما لا يليق به من بسط فروع الفقه واختلاف الفقهاء كالبلخي وغيره. وأصلح من سلك في ذلك مسلكاً جميلاً مقتصداً محمد بن بحر أبو مسلم الأصفهاني وعلي بن عيسى الرماني، فإن كتابيهما أصلح ما صنف في هذا المعنى، غير أنهما أطالا الخطب فيه وأوردا فيه كثيراً مما لا يحتاج إليه).

(وسمعت جماعة من أصحابنا قديماً وحديثاً يرغبون في كتاب مقتصد يجتمع على جميع فنون علم القران، من القراءة والمعاني والإعراب والكلام على التشابه، والجواب عن مطاعن الملحدين فيه وأنواع المبطلين كالمجبرة والمشبهة والمجسمة وغيرهم، وذكر ما يختص به أصحابنا من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحة مذاهبهم في أصول الديانات وفروعها) (3).

ويقول بعد ذلك:

إن معاني القرآن على أربعة أقسام:

أحدها - ما اختص اللّه تعالى بالعلم به، فلا يجوز لأحد تكلفة القول فيه ولا تعاطي معرفته وذلك مثل قوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي)... الخ.

وثانيها - ما كان ظاهره مطابقاً معناه، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناها مثل قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق) ومثل قوله تعالى: (قل هو اللّه أحد...) الخ.

وثالثها - ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلاً، مثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ومثل قوله: (وللّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) وقوله: (وفي أموالهم حق معلوم) وما أشبه ذلك. فإن تفصيل اعداد الصلاة وعدد ركعاتها وتفصيل مناسك الحج وشروطه ومقادير النصاب في الزكاة، لا يمكن استخراجه إلا ببيان النبي (ص)... الخ.

ورابعاً - ما كان اللفظ مشتركاً بين معنيين فما زاد عنهما ويمكن أن يكون كل واحد منهما مراداً، فإنه لا ينبغي أن يقدم أحد به فيقول: إن مراد اللّه بعض ما يحتمل، إلا بقول نبي أو إمام معصوم، بل ينبغي أن يقول: إن الظاهر يحتمل الأمور، وكل واحد يجوز أن يكون مراداً على التفصيل، واللّه أعلم بما أراد.

ومتى كان اللفظ مشتركاً بين شيئين أو ما زاد عليهما، ودل الدليل على إنه لا يجوز أن يريد إلا وجهاً واحداً جاز أن يقال: (إنه هو المراد) (4).


1- ألف الشيخ الطوسي تفسير (التبيان) أيام سكناه في بغداد، ويظهر من ترجمته في مقدمة كتابه (1 / 3) على أستاذه الشريف المرتضى علي بن الحسين إته قد ألف التفسير فيما بين عامي 346-348 هجري. على وجه التحديد. ويأتي بحث مستقل بعنوان (التبيان). يراجع في مكانه.

2- مجمع البيان - 1 / 10.

3- التبيان - 1، 2.

4- التبيان - 1 / 5 - 6.