تطور كتب التفسير انتهاء بكتاب التبيان

كان لا بد للمسلمين وهم يؤمنون بالقرآن وقدسيته وحاجتهم الحياتية والروحية إليه أن يتعلموا معانيه ويتفقهوا فيه، ليستطيعوا العمل على ضوئه والسير على هداه، كما كان لا بد للنبي (ص) أن يتولى مسؤولية التفسير والشروح - خلال أيام حياته - بحكم قيامه بمهمة تلاوة ما يوحى إليه من آيات الذكر على المسلمين، فيذكر أسباب النزول ويوضح ما يحتاج إلى الإيضاح من المجمل والمتشابه والناسخ والمنسوخ ويقوم بالشرح العملي لما تضمنته تلك الآيات من أحكام عبادية وواجبات شرعية. وبفضل ذلك كله كان القرآن في عصر الرسالة قريباً إلى عقول الناس وأفهامهم وإن تفاوتت تلك الأفهام في درجة المعرفة والإدراك.

وعندما فجمع المسلمون بوفاة المفسر الأول (ص) وسد في وجوههم باب السماع المباشر من صاحب الوحي لجأوا إلى الصحابة الذين عاشروا النبي (ص) ورافقوه وسمعوا منه وتفقهوا على يديه يسألونهم تفسير ما يستغلق فهمه عليهم من مفردات القرآن وآياته فيروي لهم الصحابة ما سمعوه من النبي (ص) في ذلك، ولا يتحاشى بعضهم من الاعتراف بجهله بمعاني بعض الكلمات تنزيهاً للقرآن من التفسير بالرأي والظن(1).

وهكذا بدأ تفسير القرآن معتمداً على الرواية والنقل عن الرسول (ص) مع كل التحرج والتأكد والالتزام بدقة النقل وعدم التصرف وليس ذلك غريباً ما دام (التفسير هو إيضاح مراد اللّه تعالى من كتابه العزيز، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان، ولا على شيء لم يثبت أنه حجة من طريق العقل أو من طريق الشرع، للنهي عن اتباع الظن).

حيث أن المقصود بتفسير القرآن في المصطلح الإسلامي هو (علم معانيه وفنون أغراضه)(2) أو أنه العلم الباحث (عن معنى نظم القرآن بحسب الطاقة البشرية وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية)(3) أخذا له من المعنى اللغوي للتفسير وهو البيان و(كشف المراد عن اللفظ المشكل)(4) فإن من الصحابة من لم يكتف بالرواية والنقل في تفسير القرآن فأضاف إليهما الشعر المأثور عن العرب يستهدي به في معرفة معنى اللفظ القرآني انطلاقاً من كون القرآن عربياً وارداً بهذه اللغة ومستعملاً كلماتها ومفرداتها.

إن أول ما يخطر في أذهاننا ونحن نخزن في المخيلة عصر الرسول (ص) وتلك القوائم الكبيرة من أسماء الصحابة أن جل الصحابة - إن لم نقل كلهم - كانوا من مفسري القرآن وشارحيه، باعتبارهم قد سمعوا ذلك من النبي (ص) وأدركوا معنى كل ما سمعوه، ولكن الواقع الخارجي كان على خلاف ذلك فما أقل من وعى معاني القرآن وأرهف سمعه وقلبه وعقله للنبي وهو يشرح تلك المعاني ويوضح أهدافها ومراميها ويقول السيوطي في ذلك:

(اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس واُبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير).

(أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب. والرواية عن الثلاثة نزرة جداً، وكان السبب في ذلك تقدم وفاتهم. كما أن ذلك هو السبب في قلة رواية أبي بكر (رض) للحديث ولا أحفظ عن أبي بكر (رض) في التفسير إلا آثاراً قليلة جداً لا تكاد تجاوز العشرة).

وهكذا يغدو علي (ع) أشهر الصحابة جميعاً - من استخلف منهم ومن لم يستخلف - في تفسير القرآن وروي عنه الكثير في هذا الباب.

واشتهر عبد الله بن مسعود المتوفى سنة 32هجري بالتفسير أيضاً - كما روى السيوطي وغيره - وروى عنه الكثير في ذلك و(روى عنه كثيرون لكن تتبعهم العلماء بالنقد والتجريح)(5).

ثم يأتي بعد ذلك في التسلسل عبد الله بن عباس المتوفى سنة 68هجري. الذي ورد عنه في التفسير (ما لا يحصى كثرة وفيه روايات وطرق مختلفة)(6).

وقد كثر النقل عنه في مصادر التفسير إلى حد الإغراق الملفت للنظر والمثير للاستفهام وأصبح - بكثرة أقواله المروية، ورواته المتعددين ومؤلفه المنسوب - أبرز المفسرين الأوائل في تاريخ الإسلام.

وبالنظر إلى هذه الهالة المشعة التي أحاطت بالرجل والقدسية التي حفته حتى منح لقب (ترجمان القرآن) يلزمنا أن نقف عند جانبين من جوانبه نستوضح أمرهما ونستطلع واقعهما هما: منهجه في التفسير والبحث في رواته وطرقه.


1- البيان للخوئي - 1 / 278.

2- التبيان للطوسي - 1 / 3.

3- كشف الظنون - 1 / 427.

4- لسان العرب 5 / 55.

5- مناهل العرفان - 486.

6- الاتقان - 2 / 321.