روايات شاذة لا مستمسك فيها
لا نتحاشى الاعتراف بوجود روايات قد تنم عن تحريف الكتاب في المجاميع الحديثية عند الشيعة الإمامية، كما هي في المجاميع الحديثية عند أبناء السنة.
غير أن وجود هكذا روايات شاذة في كتب الحديث لا يعبّر عن شيء من عقيدة صاحب الكتاب، فضلا عن الطائفة التي ينتمي إليها صاحب الكتاب، لأن نقل الحديث لا ينمّ عن عقيدة ناقله، ولا سيما إذا كان له تأويل وجيه، كما هي الحالة في الأحاديث المنقولة عن كتب أصحابنا المعتمدين، مما ظُنّ دلالتها على التحريف، أما النظر الدقيق فيأبى هذا الاحتمال.
مثلا نسبوا إلى الكليني(1) أنه ممن يقول بالتحريف، لنقله روايات ـ قد يحسب الحاسب دلالتها على التحريف ـ في الكافي الشريف. وذكروا لذلك مثالا الباب (35) من كتاب الحجة، الذي عقده لبيان: أن علم القرآن كله ظاهره وباطنه عند الأئمة من أهل البيت (ع). ويحتوي الباب على ست روايات كانت الثانية حتى الخامسة ضعيفة الأسناد. والأولى مختلف فيها، والأخيرة حسنة، حسب مصطلحهم في دراية الحديث(2).
جاء في الحديث الأول: ((ما ادّعى أحدٌ من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده)). وهذا الجمع إشارة إلى مصحف علي (ع) حيث ألفه على ترتيب النزول تماما، مشتملا على بيان التنزيل والتأويل ـ على الهامش ـ ومن ثم قال ابن جُزَيّ الكلبي: ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير(3).
والحديث الثاني: أوضح هذا المعنى، جاء فيه: ((ما يستطيع أحدٌ أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله، ظاهره وباطنه، غير الأوصياء)).
وفي الحديث الثالث: ((أوتينا تفسير القرآن وأحكامه)).
وفي الحديث الرابع: ((إني لأعْلم كتاب الله من أوله إلى آخره كأنّه في كفّي)).
وفي الحديث الخامس: ((وعندنا ـ والله علم الكتاب كله)).
وفي الحديث السادس: عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾(4) ـ: ((إيّانا عُني)).
هذه هي كل أحاديث الباب رواها الكليني عن الإمامين الباقر والصادق (ع) دلالة على أن علم القرآن كله عند أئمة أهل البيت لا يدانيهم في ذلك غيرهم إطلاقا(5).
فيا ترى أي دلالة فيها على وقوع تحريف في القرآن كما حسبته أمثال النوري وأتباعه؟!
وأما الروايات التي أخرجها الاستاذ الدكتور موسى كاظم يلماز(6) من كتاب الكافي، باعتباره من أهم الكتب المشتملة على روايات التحريف، فهي:
1- ما قدمنا من روايات تشتمل على أن علم القرآن كله ظاهره وباطنه عند الأئمة من أهل البيت (ع). وقد نبّهنا إلى أن هذا المعنى لا يمسّ مسألة التحريف في شيء.
2- ما أخرجه الكليني في باب آخر باب النوادر من كتاب فضل القرآن، بإسناده إلى هشام بن سالم ـ أو هارون بن مسلم، كما في بعض النسخ ـ عن أبي عبد الله الإمام الصادق (ع) قال: ((إن القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمد (ص) سبعة عشر ألف آية))(7). والحديث بهذه الصورة نادر غريب، لأن أي القرآن الكريم لا تعدو بضعا ومائتين وستة آلاف آية، فهي لا تبلغ سبعة آلاف فكيف بسبعة عشر ألفا..؟! ومن ثم وقع الشُرّاح في مشكلة العلاج!.
وقد جزم المولى أبو الحسن الشعراني ـ في تعليقه على شرح الكافي للمولى صالح المازندراني ـ بأن لفظة ((عشر)) من زيادة النُسّاخ أو الرّواة. والأصل: سبعة آلاف، عددا تقريبيا ينطبق مع الواقع نوعا ما(8). هذا مع العلم بأن كتابة الألف والآلاف ـ في القديم ـ كانت متقاربة بلا ألفٍ.
والدليل على صحة ما ذكره الشعراني ما جاء في كتابه ((الوافي)) للمولى محسن الفيض الكاشاني، وقد وضع كتابه على جمع أحاديث الكتب الأربعة ((الكافي)) و((الفقيه)) و((التهذيب)) و((الاستبصار)) للمحمّدين الثلاثة. وعليه، فهذا الحديث عندما ينقله عن الكافي نراه بلفظ ((..سبعة آلاف آية)) من غير ترديد(9) الأمر الذي يدلّ على أن نسخته كانت على ذلك من غير شكّ. كما اعترف النوري أيضا باختلاف النسخة وأن بعض النسخ تشتمل على ((سبعة آلاف))(10).وعلى أي تقدير، فالنسخة المشتملة على رقم سبعة عشر ألفا غلط بلا ريب. وهذا نظير ما روي عن عمر بن الخطاب، إذ كان يزعم أن عدد حروف القرآن أكثر من مليون حرف.
فقد أخرج الطبراني بإسناده عن طريق محمد بن عبيد بن آدم عن عمر أنه قال: ((القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف (1027000) فمن قرأه صابرا محتسبا كان له بكل حرف زوجة من الحور العين))(11).
في حين أن حروف القرآن بالضبط ـ وفق المأثور عن ابن عباس ـ ثلاثمائة وثلاثة وعشرون ألفا وستمائة وواحد وسبعون حرفا (323671) ثلث المأثور عن عمر: فيا ترى بماذا يوجه أبناء السنة هذا العدد الضخم المبالغ فيه من حروف القرآن، مأثورا عن مثل الخليفة عمر بن الخطاب؟! وهل له محمل سوى اشتباه أو خلط في الرواية أو النقل. وهكذا فيما روي عن بعض نسخ الكافي حسبما تكلمنا فيه.
3- والحديث الثالث: ((في مصحف فاطمة مثل القرآن ثلاث مرات))(12). ولا شك أن المصحف هنا بمعنى الصحف، ولعله تصحيف عنه. ولا غرابة في اشتمال صحيفة فاطمة (ع) على حكم ومواعظ وآداب وسنن ما يزيد على حجم القرآن بكثير.
والدليل على ذلك ذيل الحديث: ((والله ما فيه من القرآن حرف واحد. قال الراوي: قلت: هذا والله العلم. قال: إنه لعلم وما هو بذاك)). إذن فالصحيفة تشتمل على غير القرآن، لا انها قرآن وزيادة، كما زعم الزاعم!
قال العلامة المجلسي ـ في الشرح ـ: الظاهر أن مصحفها يشتمل على الأخبار فقط(13).
4- أخرج عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: دفع إلي أبو الحسن موسى (ع) مصحفا..ففتحته وقرأت فيه سورة البينة. فوجدت فيه اسم سبعين رجلا من قريش(14). قوله: فوجدت فيه أي في المصحف ـ على الهامش طبعا ـ إذ لم يقل فيها أي في السورة..ولعله كان عند قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ..﴾ تفسيرا وتعيينا للمعنيين بها من الكفار حينذاك. هكذا ذكر شراح الحديث.
5- تفاسير مدرجة ضمن تلاوة الآية، كما كان عليه السلف الصالح، حيث كان مأمونا من الاشتباه والخلط. وهو كثير مأثور عن ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما من الأصحاب الكبار، وهكذا عن الأئمة الأطهار (ع).
مثلا قوله (ع) في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾: في ولاية علي والائمة من بعده ﴿فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾(15). وقوله: هكذا نزلت، قال الشرّاح: أي بهذا المعنى. قال المولى محسن الفيض: وهكذا في نظائره(16). وهذا نظير ما ورد عن ابن مسعود، كان يقرأ: ((كان الناس أمة واحدة، فاختلفوا، فبعث الله النبيين...))(17).
وقرأ: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أب لهم، وأزواجه أمهاتهم..))(18). وقرأ: ((يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك أن عليا مولى المؤمنين، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته...))(19). وهكذا غيرهن من آيات، أدرج التفسير ضمن الآية..وقد شرحنا ذلك في محله(20).
1- نسبه إليه شاخص الفئة المتطرفة حسين النوري في المقدمة الثالثة من كتابه فصل الخطاب: 25.
2- راجع: مرآة العقول شرحا على الكافي للعلامة المجلسي3: 30 ـ 34.
3- راجع: التسهيل لعلوم التنزيل لمحمد بن أحمد بن جُزَيّ الكلبي الغرناطي (693 ـ 741 هـ) 1: 4.
4- سورة الرعد: 43.
5- راجع: أصول الكافي1: 228.
6- في مقال قدمه للمؤتمر الإسلامي المنعقد في تركيا حول آراء الشيعة في القرآن (سنة 1993م).
7- أصول الكافي2: 634 رقم 28.
8- هامش شرح الأصول للمازندراني 11: 76.
9- راجع: الوافي (ط حديثة): 9: 1781 رقم 9089 ـ 7.
10- فصل الخطاب: 236.
11- الاتقان1: 198 ط. حديثة.
12- أصول الكافي1: 239.
13- مرآة العقول3: 56.
14- أصول الكافي2: 631.
15- سورة الأحزاب: 70.
16- الكافي1: 414.
17- الوافي3: 885 رقم 1519 ـ 8.
18- الكشاف للزمخشري1: 255 والآية رقم 213 من سورة البقرة.
19- المصدر2: 523. الأحزاب: 6. (65) الدر المنثور2: 298.
20- راجع: التمهيد1: 259 ـ 263 ط1.