هذر المستشرقين الأجانب
وبعد، فانظر إلى هذر بعض الاجانب من خارج الملة، وقد استغل من تلكم الغوغاء العارمة ذريعة لئيمة لضرب المسلمين بعضهم ببعض، وللحط من كرامة القرآن في نهاية المطاف. إنهم إذا وجهوا تهمة القول بالتحريف إلى أفخم طائفة من طوائف المسلمين، فإنهم بالتالي قد أزاحوا الحريم عن قدسية كلام الله المجيد.
هذا المستشرق العلامة الشهير (إجنتس جولد تسيهر) في كتابه مذاهب التفسير الإسلامي، يحاول مبلغ جُهده الحط من قيمة نص الوحي الإلهي المعجز القرآن الكريم. يقول في مفتتح كتابه: ((لا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عَقَديّاً على أنه نص منزل أو موحى به، يقدم نصه في أقدم عصور تداوله، مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات، كما نجد في نص القرآن))(1).
وقد جعل دليله على ذلك اختلاف القراءات ولا سيما السبعة المعروفة، ولم يدر المسكين أن لا مساس بين مسألة القراءات ـ وهي اجتهادات من القرّاء في قراءة نص الكتاب العزيز، لا شيء أكثر ـ ومسألة تواتر القرآن بنصه ولفظه ثبتا وقراءة، كما عليه جمهور المسلمين في جميع الأعصار والقرون، نصا واحدا لا اختلاف فيه ولا تحوير.
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): ((القرآن واحد، نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة))(2). ورواة نص القرآن هم القُُرّاء اختلفوا فيما بينهم، أما المسلمون فقد جروا على نهجهم المستقيم تلقيا من فم الرسول الكريم، وتوارثوه يدا بيد خلفاً عن سلف، ولا يزال يشق طريقه إلى الأبدية في أمن وسلام.
ولذلك قال الإمام (ع): ((اقرأ كما يقرأ الناس))(3)، أي العامة وجماهير المسلمين لا زيد وعمر وبكر. ثم نراه يعرج على مسألة تحريف القرآن ويحاول إثباته عن طريق اتهام الشيعة الإمامية بذلك، مع علمه بالذات بأنهم بريئون من هذه التهمة المفضوحة، ولكن الغريق يتشبث بكل قشة، وبالفعل نراه تكلّف الصعب وفضح نفسه في هذه الفرية العجماء (أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون)(4).
يقول في افترائه المصطنع: ((إنه وإن كان الشيعة قد رفضوا الرأي الذي ذهبت إليه طائفة متطرفة منهم، من أن القرآن المأثور لا يمكن الاعتراف به مصدرا للدين(5)، فإنهم قد تشككوا ـ على وجه العموم ـ منذ ظهورهم، في صحة صياغة النص العثماني، لأنه يشتمل على زيادات وتغييرات هامة بالنسبة إلى الذي جاء به محمد (ص). كما استؤصلت فيه أيضا من جانب آخر قِطَعٌ هامّة من القرآن الصحيح بالإبعاد والحذف)).
قال: ((ويسود الميل عند الشيعة ـ على وجه العموم ـ إلى أن القرآن الكامل الذي أنزله الله، كان أطول كثيرا من القرآن المتداول في جميع الأيدي)).
ويضيف قائلا: ((أنهم يعتقدون في سورة الأحزاب (المشتملة على 73 آية) أنها كانت تعدل سورة البقرة (المشتملة على 286 آية)، وسورة النور تشتمل على 64 آية كانت تحتوي على أكثر من (100 آية). وسورة الحجر (99 آية) كانت (190 آية))). وزاد شناعة قوله: ((وحديثا وجدت في مكتبة ((بانكيبور)) بالهند نسخة من القرآن تشتمل على سورة ساقطة من مصحف عثمان. منها سورة نشرها ((جارسان دي تاسي)) وهي سورة النورين (41 آية)، وسورة أخرى شيعية ذات سبع آيات، وهي سورة الولاية. وكل هذه الزيادات الشيعية نشرها (كلبير تدال) باللغة الإنجليزية)).
قال: ((وكل ذلك يدل على استمرار افتراض الشيعة حصول نقص غير قليل في نص القرآن العثماني بالنسبة إلى المصحف الأصلي الصحيح))(6).
هذا وقد جعل من كتابين منسوبين إلى الشيعة، موضوعهما التفسير، أحدهما على نهج التأويل الصوفي، والآخر من نوع التفسير بالمأثور، جعلهما موضع دراسته لآراء الشيعة ـ على وجه العموم ـ في التفسير، في حين أن الشيعة ولا سيما الإمامية تتحاشا التأويلات الصوفية البعيدة عن ذات الإسلام، والتفسير الآخر لا يعرف واضعه لحد الآن.
أما التفسير الصوفي فهو كتاب بيان السعادة في مقامات العبادة وضعه قطبٌ من أقطاب الصوفية هو سلطان محمد بن حيدر الكنابادي، زعيم فرقة النعمة اللّهية الملقّب في الطريقة بسلطان علي شاه، من مواليد سنة 1251 هـ ق. وقد فرغ من تأليفه عام 1311 هـ. والكتاب مبذول يجده الطالب في عامة المكتبات.
غير أن مستشرقنا المومأ إليه اشتبه بشأن هذا التفسير في موضعين:
أولا: زعم أن تأليف الكتاب تم عام 311 هـ، 923م، ولعل رقم الألف كان مشَوّها غير مقروء في نسخته فلم يحقّقه تماما. وهذا التشوه ـ احتمالا ـ نفع هذا المستشرق، فحسب من هذا التفسير أنه يحمل أقدم آراء الشيعة في التفسير، ويرجع عهده إلى ما قبل أحد عشر قرنا كما حسب المسكين.
يقول: ((بقيت كتب كاملة في التفسير الشيعي من القرن الثالث إلى القرن الرابع الهجري، وربما كان أقدمها هو كتاب بيان السعادة في مقام العبادة للسلطان محمد بن حجر البخجتي، الذي أرّخ الانتهاء من عمله بسنة 311 هـ، 923م))(7).
وثانيا: تبديله اسم سلطان محمد بن حيدر البيدختي بسلطان محمد بن حجر البخجتي.
ومن ثمّ فلنتسائل: هل جهل الأمر أم تجاهله؟ وعلى أي تقدير، فهل ينبغي من مثل هذا الباحث الناقد أن يبني حكمه البات على أمة كبيرة لها سابقة قَدَم وقِدَم في الإسلام، ويقطع به على جهالة لا تُغفر في مقام خطير هكذا؟! ثم كيف نسب إلى الشيعة بالذات اعتقادهم بشأن سورة الأحزاب وغيرها أنها نقصت بكثير عما كانت عليه؟ في حين أنه لا يوجد ذلك في الشيعة ومؤلفاتهم إطلاقا، وإنما هو من حديث عروة بن الزبير ناسبا له إلى خالته أم المؤمنين عائشة أنها كانت تقول: ((كانت سورة الأحزاب تقرأ زمن النبي مئتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا على ما هو الآن))(8) وهكذا نسب إلى الصحابي الكبير ابيّ بن كعب(9) وحاشاه.
كيف نسب إلى الشيعة ما لا يوجد في كتبهم، وغفل عن الموجود بوفرة في كتب غيرهم؟! ما هذه المحاباة في تحقيق علمي يمس كرامة أمّة وقداسة كلام الله العزيز الحميد؟! ثم إن مثل هذا العلامة المحقق كيف تغافل عن نظرة علماء الشيعة الإمامية بالذات، في خصوص مذاهب التصوف المستوردة من اليونان القديم، مما تحاشاه الشيعة من أول يومهم ولا يزالون؟!
وشيء أغرب أن يأتي كاتب إسلامي فيطرح من جديد ما طرحه الأجنبي الكافر، من غير دراية ولا وعي، متابعة عمياء لا مبرر لها. هو الشيخ خالد عبد الرحمن العكّي المدرّس بإدارة الإفتاء العام بدمشق. يقول: ((ولعل أنشط الطوائف في تفسير القرآن تفسيرا مذهبيا أو سياسيا هم الشيعة. وقد توسعوا في ذلك وصارت لهم تفاسير خاصّة، وغالى البعض في هذا المجال مغالاة سيئة)).
يأتي مثلا بما رواه أبو الجارود (الذي تبرّأ منه الإمام الصادق (ع) لكثرة دسّه ووضعه بما يحط من شأن أئمة أهل البيت (ع))(10)، ثم يجيء بتفسير بيان السعادة في مقام العبادة للسلطان محمد بن حجر البخجتي وقد انتهى منه سنة 311(11).
أنظر إلى هذه العمه في التقليد الأعمى! وأما الاستناد إلى التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي (من أعلام القرآن)، فأمر لا مبرر له بعد عدم ثبوت النسبة، بل الدلائل على تزييف النسبة متوفّرة.
وقد حقق العلماء أن هذا التفسير النقلي ملفّق من إملاءات علي بن إبراهيم على تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد العلوي، وقسطٍ وافر من تفسير أبي الجارود السابق بضمّ روايات رواها أبو الفضل بنفسه، ومن ثم فهذا التفسير (ذو التلفيق الثلاثي) هو صنيع أبي الفضل العلوي هذا. وأبو الفضل هذا مجهول في تراجم الرجال، لا يعرف عنه شيء، كما لم يعتمد الكتاب أحد من مؤلفي الشيعة القدامى كالكليني ـ الذي هو تلميذ القمي ـ وغيره(12). إذن فكيف صحّ جعل مثل هذه الكتب (المجهولة النسب، الفاقدة للاعتبار) موضع دراسة لفهم آراء أمة، هي عريقة في الأدب والتاريخ وسائر أنحاء الثقافات الإسلامية الراقية؟!
1- مذاهب التفسير الإسلامي: 4.
2- الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني2: 63، رقم 12.
3- نفسه: 633، رقم 23.
4- الطور: 42.
5- لعله يقصد ما نُسبإلى الأخباريين المتطرفين من عدم حجية ظواهر الكتاب، وعدم إمكان فهم أحكام الشريعة من نصوص القرآن الكريم إلا على ضوء تفاسير الأئمة (ع)، لكنا أوعزنا في مباحثنا عن التفسير والمفسرين أن هذه النسبة مفتعلة، وإنما مقصودهم عدم جواز الأخذ بظواهر الكتاب إلا بعد مراجعة أقوال أئمة السلف، وعلى رأسهم أئمة أهل البيت (ع). وهذا حق لا مرية فيه، بعد أن كانت المخصصات لعمومات الآيات، والمفندات لإطلاقاتها موجودة في السنة والمأثور من كلام الأئمة، فلا بد من مراجعتها إن كانت، ثم الأخذ بظاهر الكتاب.
6- راجع كتابه: مذاهب التفسير: 293 ـ 295 و304.
7- مذاهب التفسير الإسلامي: 304.
8- أخرجه أبو عبيد باسنادهإلى عروة. الاتقان 3: 72.
9- أخرجه احمد في المسند5: 132، وظنه ابن حزم في المحلى 11: 235، من أصح الأسانيد ولا غمز فيه.
10- راجع معجم رجال الحديث، للإمام الخوئي7: 322.
11- راجع ما كتبه في (اصول التفسير وقواعده): 249 ـ 250 ط. بيروت.
12- راجع الذريعةإلى تصانيف الشيعة للطهراني 4: 302 ـ 303.