شهادات ضافية بنزاهة الإمامية

وليس الإمامية وحدهم يتبرّأون من سخائف القول في القرآن الحكيم(1)، بل غيرهم من ذوي المذاهب الأخرى أيضا يبرّئونهم عن مثل هذه النسبة الظالمة.

هذا أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ـ شيخ أهل السنة ورأس الأشاعرة حتى اليوم ـ من أعلام مطلع القرن الرابع (ت 330)، تراه يجعل من أبناء الشيعة ـ وقد سماهم الروافض ـ فريقين:

فريق هم اصحاب الظواهر: ممن لا عمق لهم في تفكير، ولا باع لهم في مجالات البحوث النظرية(2)، يزعمون أن القرآن قد نقص منه لروايات يروونها بهذا الشأن، مما لا قيمة لها عند المحققين، وإنما أخذها هؤلاء جريا على عادتهم في الاسترسال، نظير إخوانهم الحشوية من أهل الحديث. لكنهم ينكرون أشد الإنكار وجود زيادة في النص الحاضر، قالوا: لا يجوز ذلك بضرورة الشرع، كما لا تبديل في شيء منه ولا تغيير عما كان عليه، سوى أنه قد ذهب منه ـ في زعمهم ـ شيء كثير(3)، والإمام القائم يحيط به علما.

وأما الفريق الثاني: وهم المحققون من أهل النظر والاستنباط ـ فهم يرفضون احتمال أي تغيير أو تبديل، لا بنقيصة ولا بزيادة في نص القرآن الكريم، رفضا باتا، كما عليه جمهور المسلمين، وأن القرآن باق كما هو، على ما أنزله الله على رسوله (ص) لم يُغيّر ولم يُبدَّل، ولا زال كما كان عليه.

وإليك نص كلامه:

قال: ((واختلف الروافض في القرآن، هل زيد فيه أو نقص منه؟ وهم فريقان، فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن القرآن قد نقص منه. وأما الزيادة فذلك غير جائز أن يكون قد كان. وكذلك لا يجوز أن يكون قد غُيّر منه شيء عمّا كان عليه. فأما ذهاب كثير منه فقد ذهب كثير منه، والإمام يحيط علما به.

والفرقة الثانية منهم، وهم القائلون بالاعتزال(4) والإمامة، يزعمون أن القرآن ما نقص منه ولا زيد فيه، وأنه على ما أنزله الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، لم يغيّر ولم يبدل، ولا زال عما كان عليه))(5).

هذه شهادة أكبر زعيم من زعماء الفكر الإسلامي لأهل السنة في مطلع القرن الرابع، تنبِئُك بوضوح أن الأعلام المحققين من علماء الشيعة الإمامية يرفضون قاطبة القول بالتحريف في جميع أشكاله وألوانه، فمن ذا يا ترى يمكنه نسبة هذا القول إليهم؟ إلا أن يكون تائها في ضلال!

يقول السيد شرف الدين العاملي: ((والباحثون من أهل السنة يعلمون أن شأن القرآن العزيز عند الإمامية ليس إلا ما هو الحق المحقق عند جمهور المسلمين)).

قال: ((والمنصفون منهم يصرحون بذلك. يقول الإمام الهمام الباحث المتتبع الشيخ (ره) الهندي الدلهوي في كتابه النفيس ((إظهار الحق)) ما هذا لفظه: القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الإثني عشرية محفوظ عن التغيير والتبديل، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه ـ وهم الفئة الإخبارية ـ فقول مردود غير مقبول عندهم)).

ثم يستشهد الإمام الهندي بكلمات أعلام الطائفة أمثال: الصدوق والمرتضى والطوسي والطبرسي(6) وغيرهم من أعلام ومشاهير، ويعقبها بقوله: ((فظهر أن المذهب المحقق عند علماء الفرقة الإمامية الإثني عشرية، إن القرآن الذي أنزله الله على نبيه هو ما بين الدفتين، وهو ما بأيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك)). قال: ((والشرذمة القليلة ـ ويعني بهم الأخبارية المتطرفة ـ التي قالت بوقوع التغيير، فقولم مردود عندهم ولا اعتداد بهم فيما بينهم)). قال: ((وبعض الأخبار الضعيفة التي رويت في مذههبهم، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته، وهو حق، لأن خبر الواحد لا يقتضي علما، فيجب ردّه إذا خالف الأدلة القاطعة، على ما صرح به ابن المطهّر الحلي ((العلامة)) في مبادئ الوصول إلى علم الأصول)). قال: وفي تفسير الصراط المستقيم الذي هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة، في تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) أي لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان))(7).

ومن الأساتذة المعاصرين الدكتور محمد عبد الله دراز، أيضا يشهد بنزاهة ساحة الشيعة الإمامية عن تهمة القول بالتحريف إطلاقا. يقول: ((ومهما يكن من أمر فإن هذا المصحف هو الوحيد المتداول في العالم الإسلامي، بما فيه فرق الشيعة، منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمان، ونذكر هنا رأي الشيعة الإمامية ـ أهم فرق الشيعة ـ كما ورد بكتاب أبي جعفر الصدوق: إن اعتقادنا في جملة القرآن الذي أوحى به الله تعالى إلى نبيه محمد (ص) هو كل ما تحتويه دفتا المصحف المتداول بين الناس لا أكثر..أما ما ينسب إلينا الاعتقاد في أن القرآن أكثر من هذا فهو كاذب.

قال الاستاذ: وبناء على ذلك أكد (لوبلو) أن القرآن هو اليوم الكتاب الرّباني الذي ليس فيه اي تغيير يذكر...وكان (و. موير) قد أعلن ذلك قبله..فلم يوجد إلا قرآنٌ واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة...))(8).

وهكذا فضيلة الاستاذ الشيخ محمد محمد المدني عميد كلية الشريعة بجامعة الأزهر، يقول: ((وأما أن الإمامية يعتقدون نقص القرآن فمعاذ الله، وإنما هي روايات رويت في كتبهم، كما روي مثلها في كتبنا، وأهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها وبيّنوا بطلانها، وليس في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك، كما أنه ليس في السنة من يعتقده)).

ويستطيع من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب الاتقان للسيوطي ليرى فيه أمثال هذه الروايات التي نضرب عنها صفحا. وقد ألف أحد المصريين(9) في سنة 1948م، كتابا اسمه ((الفرقان)) حشاه بكثير من أمثال هذه الروايات السقيمة المدخولة المرفوضة، ناقلا لها عن الكتب والمصادر عند أهل السنة.

وقد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بين بالدليل والبحث العلمي أوجه البطلان والفساد فيه، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب وصادرت الكتاب. فرفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضا، فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها.

قال الاستاذ: أفيقال: إن أهل السنة ينكرون قداسة القرآن، أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها فلان، أو لكتاب ألفه فلان؟! فكذلك الشيعة الإمامية، إنما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات التي في بعض كتبنا(10).

وما أشبه مأساة كتاب الفرقان لابن الخطيب، بمأساة كتاب فصل الخطاب للنوري، فإنه أثارا ضجة عارمة في وقته في الأوساط العلمية القائمة في مدينة سامرّاء مركز العلم ومحطّ رحل الإمام الشيرازي الكبير يومذاك.

يقول السيد هبة الدين الشهرستاني ـ وهو طالب علم ناشئ في بلدة سامراء ـ: ((كنت أرى سامراء تموج ثائرة على نزيلها المحدث النوري، بشأن تأليفه كتاب فصل الخطاب، فلا ندخل مجلسا في الحوزة العلمية إلا ونسمع الضجة والعجّة ضد الكتاب ومؤلّفه وناشره يسلقونه بألسنة حداد))(11)، الأمر الذي اضطر النوري إلى جمع نسخ الكتاب، وألجأه أخيرا إلى كتابة رسالة أخرى في رد ما كتبه أولا، ولكن من غير جدوى، بعد أن وضعت الحرب أوزارها.


1- وسنذكر نماذج من تصريحات أعلام الطائفة بهذا الشأن.

2- وهم الذين نسميهم اليوم بالأخبارية المتطرّفة.

3- ولعل أول من زعم أن القرآن قد ذهب منه شيء كثير هو عبد الله بن عمر كان يقول: ((لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله، ما يدريه ما كله؟ قد ذهب منه قرآن كثير)) (الاتقان 3: 72). وقد ذكر ابن شهاب أن القرآن منه كثير بذهاب حملته يوم اليمامة. (منتخب كنز العمال بهامش المسند 2: 50).

4- نسبهمإلى الاعتزال لقولهم بأصل العدل وتحكيم العقل وذهابهم إلى التنزيه في الصفات، فإن الإمامية متوافقون مع أهل الاعتزال في هذه الأصول، وإن كانوا يفترقون عنهم في أصول أخرى.

5- راجع: مقالات الإسلاميين للأشعري1: 119 ـ 120.

6- سنوافيك بنماذج من كلماتهم المشرّفة.

7- راجع إظهار الحق، تحقيق الدسوقي 2: 206 ـ 209، والفصول المهمة لشرف الدين: 164 ـ 166.

8- راجع كتابه مدخلإلى القرآن الكريم: 39 ـ 40.

9- هو ابن الخطيب محمد محمد عبد اللطيف من علماء مصر المعروفين. طبع كتابه هذا بمطبعة دار الكتاب المصرية سنة 1367هـ، 1948م، على أساس جمع روايات التحريف زاعما صحة أسانيدها ووجوب اتباع ما فيها والالتزام بمداليلها. ومن ثم ثارت حوله ضجة في القطر المصري آنذاك، فصُودر الكتاب مصادرة شكلية، وبقيت منه نسخة في المكتبات مبثوثة في الأقطار، منه نسخ في مكاتبنا اليوم.

10- راجع مجلة رسالة الإسلام الصادرة عن دار التقريب ـ القاهرة ـ س11، ع44: 382 ـ 385.

11- في تقريظ كتبه على رسالة البرهان للميرزا مهدي البروجردي: 143 ـ 144.