محاولات غير ناجحة

وقد حاول جماعة من أهل النظر معالجة تلكم الروايات بأشكال فنية، لكن من غير جدوى، بعد أن زعموا صحة أسانيدها وصراحة مداليلها في وقوع التحريف في نص الكتاب العزيز، وانتهوا أخيرا إلى اختلاق مسألة ((نسخ التلاوة)) المعلوم بطلانها وفق قواعد علم الأصول، ومن ثمّ إمّا قُبلت على علاّتها والأخذ بها والافتاء وفق مضامينها، كما فعلها فريق، نظرا لصحة الأسانيد فيما زعموا، أو رُفضت رأسا بعد عدم إمكان التأويل.

هذا ابن حزم الأندلسي ـ وهو الفقيه الناقد ـ يرى شريعة الرجم مستندة إلى كتاب الله، لما رواه بإسناده عن أبيّ بن كعب، قال: ((كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قيل له: ثلاثا أو أربعا وسبعين آية. قال: إن كانت لتقارن سورة البقرة أو لهي أطول منها. وإن كان فيها لآية الرجم، وهي: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم)).

قال ابن حزم: ((هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه)) ثم قال: ((ولكنها ممّا نُسخ لفظها وبقي حكمها))(1).

وقال في مسألة عدد الرضعات المحرّمة: ((احتج من قال: لا يحرم من الرضاع أقل من خمس رضعات، بما رويناه من طريق حماد وعبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت: نزلت القرآن ((أن لا يحرّم إلا عشر رضعات)). ثم نزل بعدُ ((وخمس معلومات)). قالت: فتوفّي رسول الله (ص) وهن مما يقرأ من القرآن)).

قال ابن حزم: ((وهذان خبران في غاية الصحة وجلالة الرواة وثقتهم، ولايسع أحدا الخروج عنهما)). ثم ذكر اعتراض القائل: ((كيف يجوز سقوط شيء من القرآن بعد موته (ص)؟ فإن ذلك حُرّم في القرآن)). فاعتذر بأنه مما بطل أن يكتب في المصاحف وبقي حكمه كآية الرجم سواء بسواء(2).

وهذا الإمام المحقق الأصولي محمد بن أحمد السرخسي، بينما ينكر أشد الإنكار مسألة وقوع النسخ بعد وفاة النبي (ص)، نراه يستسلم لمسألة نسخ التلاوة دون الحكم، ويؤولها إلى إمكان سبق النسخ على الوفاة مع خفائه على الصحابة الأولين.

وقال في بيان ذلك: ((إن صوم كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعة ـ على ما قاله علماؤنا ـ مستند إلى قراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة ايام متتابعات). قال: وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة.. وابن مسعود لا يُشكّ في عدالته وإتقانه، فلا وجه لذلك إلا أن نقول: كان ذلك مما يتلى في القرآن كما حفظه ابن مسعود، ثم انتسخت تلاوته في حياة الرسول بصرف الله القلوب عن حفظها، إلا قلب ابن مسعود ليكون الحكم باقيا بنقله، وقراءته لا تكون دون روايته))(3).

قلت: لا شك أن أمثال هذه التعاليل هي بذاتها عليلة وغير وافية بدفع شبهة التحريف في كتاب الله، فضلا عن عدم انطباقها على مداليل ما سرده القوم. فالأولى رد تلكم النقول والروايات غير المعقولة. وقد انبرى جماعات كثيرة من العلماء(4) لرفض مسألة نسخ التلاوة دون الحكم، لمنافاتها للحكمة، إذ ما هي الحكمة في نسخ آية بلفظها مع بقاء حكمها؟ وهلا كانت سندا للحكم الباقي مع الأبد؟!

أما فقهاؤنا الإمامية فقد شطبوا على تلكم الأوهام ولم يقيمو لها وزنا في عالم الاعتبار، كما لم يعتمدوها في مجال الفقه والإفتاء أبدا، ولا نجد فقيها من فقهاء الإمامية، لا في القديم ولا في الجديد، يكترث بروايات كهذه ساقطة لا حجية فيها ولا اعتبار.

ومن سفه القول نسبه سخيفة إلى أُمّة، بحجّة أنها مما ارتكبه بعض الشواذ من أبناء السنة أو من المنتمين إلى الشيعة! ولا سيما إذا وقعوا منهم موضع استنكار وامتهان لاذع.

فإن كان أهل السنة قد ابتلوا بحشويات أهل الحشر في الحديث، وما دبّجوه من غثٍّ وسمين في أحاديث الرسول الكريم (ص)، وفي تفسير القرآن الحكيم، مثل روايات التشبيه والتجسيم(5)، ومسألة الجبر وسلب الاختيار عن العباد(6)، والقصص البائدة والإسرائيليات، وهكذا روايات التحريف والزيادة والنقصان، وما أشبه ذلك مما يمس كرامة القرآن أو يحط من قدسية الشريعة الغرّاء، مما يأباه العلماء اليوم(7)، فكذلك ابتليت الشيعة الإمامية بجماعة الأخباريين، ورواياتهم في الغلو والتحريف، والشيعة يتبرأون منذ أول يومهم من المغالاة في العقيدة، وكذا من القول باحتمال الزيادة أو النقيصة في القرآن الكريم.


1- راجع المحلى11: 23.

2- المحلى 10: 14 ـ 16.

3- أصول السرخسي2: 80.

4- راجع ما حققه الشيخ علي حسن العريض مفتش الوعظ بالأزهر في كتابه ((فتح المنّان)): 224 ـ 227.

5- هذا أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي (200 ـ 280) حشى كتابه ((الرد على الجهمية)) بروايات غريبة في التشبيه والتجسيم، وكذا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السُّلمي (223 ـ 311) في كتابه ((التوحيد والصفات)) كان مليئا بالغرائب في إثبات التجسيم، وأن لله جوارح وأعضاء وما أشبه من خرافات بني إسرائيل.

وكان هذان الكتابان هما مستقى كتابي ((اللمع)) و((الإبانة)) لأبي الحسن الأشعري في التشبيه والتجسيم.

6- راجع كتابي ((اللُّمع)) و((الإبانة)) لأبي الحسن الأشعري، وقد أشاد مباني الجبر وسلب الاختيار عن العباد، وكان المؤسس لمدرسة الجبر في أفعال العباد.

7- هذا الاستاذ أحمد أمين المصري يقرر من مذهب المعتزلة، ويقول: ((ولقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السمو والرفعة، فطبقوا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أبدع تطبيق وفصلوه خير تفصيل، وحاربوا الأنظار الوضيعة من مثل أنظار المجسّمة الذين جعلوا لله تعالى جسما له وجه ويدان وعينان.. وغاية ما قال أعقلهم أنه جسم لا كالأجسام.. وقالوا بأن له جهة هي الفوقية وأنه يُرى بالأبصار وأن له عرشا يستوي عليه.. إلى آخر ما قالوا مما ينطبق على الجسمية. فأتى المعتزلة وسموا على هذه الانظار، وفهموا من روح القرآن تجريد الله عن المادية، فساروا في تفسيرها تفسيرا دقيقا واسعا، وأولوا ما يخالف هذا المبدأ وسلسلوا عقائدهم تسلسلا منطقيا.. فهم من الناحية العقلية جريئون يقررون ما يرشد إليه في شجاعة وإقدام.. كذلك نظرهم إلى عدل الله، فقد وقفو أمام مشكلة المثوبة والعقوبة، فرأوا أن ذلك لا يكون له معنى إلا بتقرير حرية الإرادة في الإنسان)) إلى أن يقول: ((وعلى كل حال كان مسلك المعتزلة مسلكا لا بد منه، لأنه أشبه برد فعل لحالة بعض العقائد في زمنهم. لقد قرروا سلطان العقل وبالغوا فيه أمام من لا يقر للعقل بسلطان.. وقالوا بحرية الإرادة وغلوا فيها أما قوم سلبوا الإنسان إرادته، حتى جعلوه كالريشة في مهب الريح أو كالخشبة في اليم)) قال: ((وفي رأيي أنه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي. وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التواكل)) ضحى الإسلام 3: 68 ـ 70.

وهذا سيد قطب يجري في تفسيره ((في ظلال القرآن)) بما يقرر حرية الإنسان في إرادته واختياراته، بما لا يتخلف عما قرره سائر علماء الإسلام المعاصرين، أمثال الشيخ محمد عبده في تفسير المنار، وسيدنا الأستاذ الإمام الخوئي (قده) في ((البيان))، وغيرهما من الأعلام.