المقدمة

أن نسبة التحريف إلى كتاب الله العزيز الحميد، نسبة ظالمة تأباها طبيعة نص الوحي المضمون بقاؤه وسلامته عبر العصور.

قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(1).

وهي نسبة خاطئة وقديمة يرجع عهدها إلى عصر اختلاف المصاحف الأولى في الثبت والهجاء، لأسباب وعوامل، لعلها كانت طبيعية آنذاك، ولكنها ربما استدعت مناوشات كلامية في وقتها بين بعض السلف لا عن قصد سوء، سوى أنه بقيت من ذلك روايات وحكايات أولعت الحشويّة بنقلها وضبطها وتدوينها فيما بعد، في أمّهات الجوامع الحديثية، مما استعقب شبهة احتمال التحريف في القرآن الكريم.

فقد نُسب إلى ابن عباس في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾(2). أنه: ((أفلم يتبيّن..)) قائلا: ((أظن الكاتب كتبها وهو ناعس)).

وهكذا قال ابن جُريج: زعم ابن كثير وغيره أنها في القراءة الأولى ((أفلم يتبين..))(3).

وأيضا نسب إليه في قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾(4)، أنه من خطأ الكاتب، وإنما هو((حتى تستأنسوا وتسلموا..))؛ لأن شرط الدخول هو الاستئذان، أما الاستيناس فهو بعد الدخول(5).

وهكذا في قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾(6)، نسب إليه أنه قال: ((إن الذي أنزل على النبي (ص): ((ووصى ربك..)) غير أن الكاتب استمد مدادا كثيرا فالتزقت الواو بالصاد.. قال: ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد.

وهكذا قال الضحّاك: استمد كاتبكم فاحتمل القلم مدادا كثيرا فالتزقت الواو بالصاد، ثم قرأ: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ﴾(7)، قال: ولو كانت قضى من الرب لم يستطع أحد ردّ قضائه، ولكنه وصيّة أوصى بها العباد))(8). هكذا نسبوا إلى حبر الأمة زعم الغفلة في كاتب المصحف الشريف.

وقد بالغ العلامة جار الله الزمخشري في الإنكار على صحة هذا الأثر، قال: ((ولكن هذا ونحوه مما لا يُصَدّق بشأن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفّتي المصحف؟ وكان متقلّبا في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله، المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع والقاعدة التي عليها البناء. وهذه والله فرية ما فيها مرية))(9).

هذا كلام ذلك المحقق المنفرد في الأدب والتفسير. لكن مثل ابن حجر ـ مع كونه من أئمة النقد والتمحيص ـ نراه قد أعجبته صحة الإسناد حسب مصطلح القوم، فرجّح النقل على العقل الرشيد، وأخذ بالمظنون وترك المقطوع به.

قال ردا على كلام الزمخشري: ((هذا إنكار من لا علم له بالرجال، وتكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق))(10). قلت: بماذا يؤول نسبة النعاس والغفلة إلى كاتب المصحف؟ وكيف يحتمل أنه اراد أن يكتب ((يتبين)) فكتب ((ييأس)) ذهولا؟ وهكذا.

ثم كيف يحتمل إمكان تخطئة قراءة جمهور المسلمين، التي ورثوها كابراً عن كابر عن النبي الكريم (ص)؟!

إن هو إلا زعم فاسد، وفرية ما فيها مرية، كما قال الزمخشري. كما رووا عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ((كانت فيما أنزل من القرآن ((عشر رضعات معلومات يُحرّمن)) ثم نُسخن بـ((خمس معلومات)). فتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن)). رواه مالك في الموطأ وقال: ((وليس على هذا العمل))(11). ورواه مسلم في صحيحه والدارمي وأبو داود. وتركه البخاري وأحمد لغرابته.

قال الزيعلي تعليقا على رواية مسلم: ((لا حجة في هذا الحديث؛ لأن عائشة أحالتها على أنه قرآن. قالت: ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (ص) وتشاغلنا بموته دخل داجن البيت فأكلها)). قال: ((وقد ثبت أنه ليس من القرآن؛ لعدم التواتر، ولا تحل القراءة به ولا إثباته في المصحف، ولأنه لو كان قرآنا لكان متلوا اليوم؛ إذ لا نسخ بعد النبي (ص)))(12).

وهكذا رووا عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول: ((كان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله))(13).

وفي لفظ مالك: ((لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله ورجمنا. والذي نفسي بيده لو لا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله تعالى لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة...)) قال مالك: ((أي الثيّب والثيّبة))(14).

وغير ذلك من مزاعم نسبوها إلى جماعة من وجوه الأصحاب، ذكرنا تفاصيلها في رسالة ((صيانة القرآن من التحريف))(15).


1- الحجر: 9.

2- الرعد: 31.

3- قال ابن حجر: ((هذا الحديث رواه الطبري بإسناد صحيح كلهم من رجال البخاري)) فتح الباري 8: 282. وتفسير الطبري 13: 104.

4- النور: 27.

5- رواه الطبري في التفسير 18: 87، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. المستدرك 2: 396.

6- الإسراء: 23.

7- النساء: 131.

8- راجع الدر المنثور4: 170، والاتقان1: 185.

9- الكشاف2: 530 ـ 531.

10- فتح الباري8: 282.

11- راجع تنوير الحوالك لجلال الدين السيوطي 2: 118، آخر كتاب الرضاع.

12- راجع صحيح مسلم176: 4: والدارمي 2: 157، وأبا داود 1: 224.

13- راجع صحيح البخاري8: 208 ـ 211، ومسند أحمد1: 23 و5: 132 و183، وصحيح مسلم4: 167 و5: 116.

14- تنوير الحوالك3: 42. وراجع فتح الباري 12: 127.

15- وهي تتجاوز ثلاثين مزعومة. وراجع فصل ((التحريف عند الحشويّة)): 166 ـ 195.