الانحرافات الاجتماعية الرئيسية وأساليب معالجتها

لا شكّ أنّ الانحرافات التي فصلتها الشريعة وأوجبت فيها العقوبات الأدبيّة والمادّية، تأخذ مجريين شرعيين:

الأوّل: ما يستدعي ارتكابها التعدّي على حقوق الله سبحانه وتعالى، وهي الزنا واللواط وشرب المسكر، لأنّها تعدّ مخالفة لأمر الله، ولا يجوز العفو فيها بعد قيام البيّنة وثبوت الحدّ.

والثاني: ما يستعدي ارتكابها التعدّي على حقوق الله وحقوق الفرد معاً، كالقذف والسرقة والقتل، لأنّ فيها جهة شخصيّة متضررّة، فيتوقّف إقامة الحدّ على المطالبة من المتضرّر أو من يرثه.

ويجوز للحاكم الشرعي إقامة الحد فيما يتعلّق بحقوق الله بمجرّد علمه، ولكنّه لا يستطيع القيام بذلك فيما يتعلّق بحقوق الناس كالسرقة والقذف.

1 ـ جرائم الاعتداء على النفس الإنسانية وما دونها:

وهي جرائم القتل والجراح والشجاج وإسقاط الجنين، وقد أوجب فيها الإسلام القصاص، أو دفع الدية. وأوجب كفارة القتل في مواضع معيّنة، وأباح للمعتدي عليه الدفاع عن نفسه في كلّ الأحوال.

فالقصاص، وهو من اقتفاء الأثر لغةً(1)، كما في قوله تعالى (وقالت لأخته قصيّه?)، وشرعاً هو وجوب المماثلة في القتل والقطع بشروطها الشرعيّة، يعتبر من أقصر الطرق إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 195). ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة: 45). ففي حين يعلن الإسلام بكلّ قوة وجوب المماثلة. في القصاص، يقوم النظام الغربي في تشريعه لعقوبة الانحراف، بفرض القيود على حرّية المجرم عن طريق السجن أو العلاج الطبّي أو خدمة مؤسسات الإدارة المحلّية، أو بتعويض الضحيّة ماليّاً. وهذه الأساليب لا تبعد المنحرف عن انحرافه ولا تقدّم للضحيّة مثالاً واقعيّاً لمعاقبة الجاني، بل تربك النظام الاجتماعي وتستهلك موارده الماليّة، لأنّ السجن والطبّ النفسي اثبتا فشلهما في علاج المنحرف علاجاً حقيقياً(2).

وقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ القاتل المتعمّد لو مات قبل الاقتصاص منه، أخذت الدية من ماله إذا كان له مال، أو من مال أرحامه إذا لم يكن له مال، لقوله تعالى: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ (الإسراء: 33). ولما ورد عن الإمام الصادق (ع) عندما سئل عن هروب القاتل، فقال: "إن كان له مال أخذت الدية من ماله وإلاّ فمن الأقرب فالأقرب فإن لم يكن له قرابة أدّاه الإمام فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم"(3).

ولا شك أنّ القرآن ضمن إطاره الأخلاقي العام، مع تأكيده على القصاص أو المماثلة عيناً بعين وسنّاً بسن?، إلاّ أنّه في نفس الوقت يحبّب لأولياء المقتول العفو عن القاتل ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ (المائدة: 45)، ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ (الشورى: 48).

أمّا الدية، فإنّ الأصل في وجوبها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 48) ولا شكّ أنّ الدية عامل من عوامل التعويض المالي المختص بجرائم قتل الخطأ وشبه العمد، فإنّهما يوجبان الدية دون القصاص، وبالتراضي بين الطرفين فيما عدا ذلك. وفي الضرب الذي لا يجري ولكنّه يولّد احمراراً ونحوه الأرش أو الحكومة، وفي الضرب الذي يسبّب الألم فقط، التعزير. وتتعيّن دية المقتول عمداً في حالات استثنائيّة فقط منها، فوات المحل كموت القاتل ونحوه.

والدية المقدّرة شرعاً في قتل المسلم الذكر عمداً ألف دينار، وهو ما يعادل أكثر من 3.5كليو غرام ذهباً، أو ما قدّر شرعاً من الشياه والإبل والأبقار والحلل والفضّة. وهذه الكمية من المال كافية لإغناء العائلة المفجوعة بفقد معيلها، حتى لا تمُدّ يدها لاستعطاء الناس. فيضمن القاتل الدية إذا قصد القتل أو الفعل الذي يؤدي إليه.

ولم يتوقّف دفع الدية على القتل فحسب، بل تعدّى إلى تلف الأعضاء كالعين والأنف والشفة واللسان والأسنان ونحوها، وتلف المنافع كالعقل والسمع والبصر والشمّ والنطق ونحوه، والجراح المختصّة بالرأس والوجه كالحارصة والدامية والباضعة والسمحاق والموضحة والهاشمة والمأمومة ونحوها. وفي غير ذلك يتعيّن الأرش الذي تقدّره الحكومة.

وبطبيعة الحال فإنّ تقدير قيمة الضمان، في النظام الإسلامي، تخدم المجتمع عن طريق عاملين، الأوّل: تعويض الضحيّة أو أسرته تعويضاً ماليّاً يسدّ حاجاتهم الأساسيّة التي حرموا من إشباعها بفقدان المعيل. والثاني: ردع الانحراف الاجتماعي، بإبلاغ المنحرفين علناً بأنّ انحرافهم لا يمرّ دون ثمن باهض يدفعونه لصالح الضحيّة وفي الآخر لصالح النظام الاجتماعي.

ولا شك أنّ إشراك العاقلة في دفع الديّة، وإشراك القسامة في التحليف حالة اللوث، تعتبران من أهم العوامل الرادعة للانحراف الاجتماعي. لأنّ الفرد، لكونه كائناً اجتماعيّاً، يرتبط بعشيرته ومحلّته وقريته بروابط الزواج والأخوّة والأسرية والمصلحة الاجتماعيّة. وهذه الروابط تقلّل من فرض زيغه عن النظام الاجتماعي العام، وتجعل الجريمة التي يرتكبها فضيحة اجتماعيّة تجلب عليه وعلى أسرته وعشيرته وصمة لا تمحو آثارها السنون، أمّا إذا كانت الجناية خطأ فإنّ مشاركة العصبة أو العشيرة في تسديد ثمنها المالي، يعتبر بمثابة المشاركة الجماعيّة في مساعدة العائلة المفجوعة، وتقويتها أمام المحن والمصاعب الاقتصادية القادمة.

وتكمن أهمية العاقلة في المشاركة في دفع دية الخطأ بما يلي:

1 ـ إنّ مساهمة العاقلة في دفع ديّة الخطأ يخفف من تحمل الفرد كاهل دفع تلك الدية وحده، وهو مبلغ هائل، كما هو واضح.

2 ـ إنّ مساهمة العاقلة في دفع الدية يساهم في تقوية العلاقات والأواصر الاجتماعية بين أبناء العشيرة الواحدة ويجعلها تقف متّحدة في المحن والمصائب التي يتعرّض لها أفرادها.

3 ـ إنّ جمع مبلغ الدية عن طريق العاقلة يخفف من العبء الذي تتحمّله عائلة المجني عليه، خصوصاً إذا عجز الجاني عن تسديد ذلك المبلغ، فتصبح العائلة المفجوعة ضحيّة لجريمة اقتصاديّة ومعاشيّة خارجة عن إرادتها. فتكون العاقلة عندئذ وسيلة ضمان لاستلام الديّة.

نقطة مهمّة أخرى نودّ أن نعرضها هنا، وهي أنّ القيمومة الشرعيّة على الأسرة هو المقياس في مقدار الديّة، وليس تفضيل جنس على جنس كما يدّعيه أعداء النظريّة الدينيّة. فدية قتل الذكر المسلم عمداً ألف دينار ذهب أو نحوه، ودية المرأة الحرّة المسلمة على النصف من أصناف الديّات الست، سواءً كانت الجناية عليها عمداً أو خطأ أو شبه عمد، صغيرةً كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مصابة بالاضطراب العقلي (الجنون). وكذلك الجراح والقطع والشجاج فإنّه يتساوى مع الرجل قصاصاً ودية إلى حد الثلث، فإن زاد عن الثلث رجعت ديتها عن النصف من الرجل، ولا شكّ أنّ مقادير هذه الديّات لم توضع لتقدير قيمة المرأة، فيكون مقدارها نصف قيمة الرجل مثلاً. بل إنّ الإسلام أراد منها معالجة وضع ما بعد الجريمة. فالرجل المقتول الذي يفترض فيه أن يكون معيلاً لعائلة ما، تذهب ديته إلى عائلته التي افتقدت المعيل، فيكون الدخل المقدّر بألف دينار ذهب أو نحوه ضمان لنفقات العائلة المعيشيّة. أمّا المرأة المقتولة، فإنّ ديتها المقدّرة بنصف دية الرجل تدخل وارد الرجل الذي يفترض فيه أن يكون قيّماً على عائلته، زوجةً كانت المجني عليها أو أختاً أو بنتاً. ودليل آخر على مساواة الإسلام للمرأة والرجل في نظام العقوبات، هو أنّ حدّ القذف وحد المسكر وهو ثمانون جلدة يتساوى فيه القاذف والشارب، ذكراً كان أم أنثى.

أمّا فيما يتعلّق بالإجهاض أو الإسقاط المتعمّد للجنين، فإنّ النظام الإسلامي شرّع أدقّ العقوبات الخاصّة بهذه الانحرافات، النطفة المستقرّة في الرحم عشرون ديناراً، وفي العلقة أربعون، وفي المضغة ستّون، وفي العظم ثمانون، وفي الجنين التام الذي لم تلجه الروح مئة دينار، وفي الجنين الذي ولجته الروح ديّة كاملة (الكافي: 7: 343) وهذا الحكم الشرعي يرجع بالتأكيد إلى أصالة قوله تعالى في خلق الإنسان: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ / ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ / ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المؤمنون: 13 ـ 14).

وفي حين حلّ الإسلام مشكلة الإجهاض من الصميم قبل نشوء الثورة الصناعيّة بقرون، إلاّ أن قضاة النظام الرأسمالي الغربي يحاولون لحدّ اليوم الإجابة عن السؤال الذي يناقش أحقية المرأة في الإجهاض، فمنذ تشريع المحكمة العليا الأمريكيّة سنة 1973م القاضي بشرعيّة الإجهاض في قضيّة (جين رو ضدّ هنري ويد)، والقانون يتبدّل بين شدّ وجذب، وجواز وحرمة. وكلّما تبدل عضو من أعضاء المحكمة العليا تبدّل القانون الخاص بالإجهاض. وهذا الاضطراب دليل قوي على فشل النظام الاجتماعي الغربي في معالجة مشاكل قضائيّة خطيرة عالجها الإسلام بكلّ دقة قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.

2 ـ جرائم ضد الملكيّة:

ولا ريب أنّ النظريّة الإسلامية الخاصّة بالعقوبات الجنائيّة تنظر إلى الجرائم المتعلقة بالملكية نظرة خاصة وترتب عليها عقوبات صارمة. لأنّ ضمان سلامة حقوق الناس من تعدّي الآخرين تعتبر من أهم أسباب استقرار النظام الاجتماعي وتطوره الاقتصادي. ولا شك أنّ الإقرار بأحكام اليد ودلالتها على الملكيّة، تضع للمجتمع الإنسان الحدود العامة لانتقال الملكيّة، ودوران المال بين أفراد النظام الاجتماعي، عيناً كان ذلك المال أو نقداً، منقولاً كان أو غير منقول، ولولاها لاضطرب النظام الاقتصادي والاجتماعي، وانعدام البيع والشراء الذي هو الأصل في سدّ حاجات الناس الاستهلاكية والكمالية. ولذلك فإنّ إقرار الإسلام لهذا الأصل وربطه بالصدق العرفي ينسجم مع الطبيعة الفطرية للتعامل الاجتماعي وتنظيم سلوك الأفراد.

وتنقسم الجرائم المتعلّقة بالملكيّة إلى قسمين:

القسم الأوّل: الانحرافات التي تؤدّي إلى سلب الملكيّة من مالكها قهراً وظلماً كالغصب ويتحقق بصدق الاستيلاء عرفاً على حقّ الغير. وقد شدد الإسلام على حرمة غصب أموال الناس. وحرّم التصرّف بالمال مطلقاً إلا مع العلم بالإذن الشرعي، لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ (البقرة: 188)، وعموم قوله (ص): "لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس منه"(4)، وقوله (ص) أيضاً: "من غصب شبراً من الأرض طوّقه من سبع أرضين"(5).

إنّ حرمة الغصب تتعدّى من مجرد الإثم إلى وجوب الردّ على الغاصب وضمانه تلف المادّة المغصوبة. فالغاصب، حسب النظريّة الإسلامية، يتحمل مسؤولية كاملة في إرجاع المادّة المغصوبة سليمة من كلّ عيب، بل يتعيّن عليه وجوب الردّ فوراً دون تأخير. بينما لا يتحقق الضمان ولا الفوريّة في قانون العقوبات الرأسمالي الغربي.

ولا شك أنّ المباشرة أو التسبيب أو اجتماعهما في تلف المغصوب توجب الضمان بأيّ حال من الأحوال، باعتبار أنّ الخطابات الوضعيّة تشمل الجميع. وعليه فإنّ الطفل والمجنون إذا أتلفا مال الآخرين، تعيّن على وليهما دفع البدل إن كان لهما مالٌ. والمسبب لتلف مال الآخر يدفع للمالك بدل التالف من المثل والقيمة. والمستولي على مال غيره بغير إذن ونحوه يدخل في عهدته، وعليه مسؤوليّة تلفه إذا تلف. والنتيجة أنّ وجوب الضمان يحفظ أموال الأفراد من الضياع والتلف، ويصون الثروة الاجتماعية والإنسانية من الهدر والتبذير.

القسم الثاني: السرقة وهي سلب مال الغير المودع في حرز سرّاً وفيها شروط. ولعل السرقة أشدّ من الغضب، باعتبار أن انتهاك حرمة الشيء المسروق الذي اطمأنّ صاحبه على سلامته بالسر والحرز، يعرّض النظام الاجتماعي لمخاطر كبيرة فيما يتعلّق بالوضع الاقتصادي للمجتمع الإسلامي. وقد أوجب الشارع الحدّ فيها على السارق دون الغاصب، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (المائدة: 38).

ونستلهم من كتب السيرة والتاريخ عدالة النظريّة الإسلامية في معاقبة المنحرفين فقد روي أنّ امرأة من طبقة الأشراف سرقت، فتشفع لدى رسول الله (ص) أحد الصحابة، فقام (ص) وخطب في الناس خطبة قويّة قصيرة، معلناً فيها مبدأ مساواة جميع الأفراد أمام الشريعة والقانون: "إيّها الناس، إنّما هلك من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٌ يدها"(6).

ولابدّ للسارق، بموجب الشريعة الإسلامية، من إعادة المادة المسروقة (الغرم)، حيث لا يسقط عنه بحال من الأحوال، حتّى مع إقامة الحد وهذا الضمان لا تلتزم به النظريّة الغربية، فإذا صرف السارق المال المسروق في المجتمع الرأسمالي، فإنّه يعاقب بالسجن ولا يجبر على ردّ ما سرقه إلى صاحبه.

ولا يحد السارق إلاّ بتوفر الشروط الشرعية، وهي البلوغ والعقل لقاعدة "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ"(7)، والاختيار(8)، وارتفاع الشبهة(9)، وكون المال المسروق في حرز(10)، وأن تبلغ قيمة المسروق نصاب القطع وهو ربع دينار ذهباً(11). بمعنى أنّ المضطر الجائع لا يقطع إذا سرق ما يسدّ رمقه ورمق عائلته. ومع وجود الشبهة لا ينفذ الحد لقاعدة "إدرأوا الحدود بالشبهات"(12). وإذا تمت السرقة في مكان عام غير مقفل لا يقطع أيضاً، لأنّ القطع مختص بكون المال المسروق موضوع في حرز أو نحوه. وإذا طلب الفرد المسروق عدم معاقبة الفرد السارق بالحد، يترك كالسارق دون قطع، لأنّ عقوبة السرقة متعلقة بالحقوق المالية للناس وليست من حقوق الله.

وطريقة القطع، المراد منها تأديب المنحرفين وردعهم عن ارتكاب الجريمة، لا تجعل الفرد المذنب معاقاً عن العمل الإنتاجي. فالأصل في القطع هو الأصابع الأربع فقط من اليد اليمنى للمنحرف، فتترك له الراحة والإبهام. وهذا لا يعتبر تعطيلاً لإنتاجيّة الفرد، بل إنّ للفرد الحقّ بعد توبته الدخول في الحقل الإنتاجي الاجتماعي ليكون عضواً نافعاً في مجتمعه الإنساني، عالماً بأنّ عنصر إبداع الإنسان في العمل والبناء يعتمد على الإبهام وراحة اليد بالأصل. على عكس نظام العقوبات الغربي الذي يجعل السجن محور العقوبات، ممّا يسبب انخفاضاً في الإنتاج واستهلاكاً لموارد وثروات المجتمع، لأنّ السجين معطّل عن الإنتاج الاجتماعي بالإكراه.

3 ـ الجرائم الخلقيّة:

ولما كانت رسالة الإسلام العظيمة اجتماعيّة المنشأ، فتتعامل مع الفرد والمجتمع ضمن الإطار الأخلاقي المرسوم لها من قبل السماء، أصبح تعاملها الشديد مع الجرائم والانحرافات الخلقيّة أمراً حتميّاً، لأنّ القاعدة الأخلاقية هي الأصل في ضمان سلامة أجهزة النظام الاجتماعي وتكاملها لبناء المجتمع الإنساني السعيد، وهذا الإطار الأخلاقي الذي نادت به الشريعة وتبنته على إمتداد تاريخها الحافل بالوقائع والأحداث، هو الذي حفظ المجتمع الإسلامي من الانحرافات التي يعيشها المجتمع الغربي وهو في أوج تقدّمه الحضاري والاقتصادي. وأهمّ الجرائم والانحرفات الأخلاقيّة التي يواجهها النظام الاجتماعي هي الانحرافات الجنسية كالزنا واللواط والمساحقة والقيادة، والانحرافات السلوكية كالقذف وشرب الخمر، والانحرافات العقائدية كالارتداد.

والأصل في العقوبات الأخلاقية القرآنيّة لردع المنحرفين هو التشديد، فتتعيّن عقوبة القتل في الزنا بذات محرم نسباً، وفي الاغتصاب الجنسي ونحوها؛ والرجم في الزانية المحصنة والزاني المحصن؛ والجلد على الزاني والزانية غير المحصنين؛ والجلد والرجم معاً في الشيخ والشيخة المحصنين الزانيين؛ والجلد والتغريب والجز في البكر الزاني الذي تزوج ولم يدخل. ومع أنّ هذا التفصيل يستند إلى السنّة الشريفة، إلاّ أنّ تحريم الزنا ظاهر في النص القرآني الشريف: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 32)، وقوله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ (الفرقان: 68)، ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور: 3)، ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور: 2).

ويحد اللواطي بالقتل ضرباً بالسيف أو حرقاً بالنار أو الإلقاء من شاهق، أو هدم الجدار عليه. وهذا اللون من الانحراف من أخطر مراتب الانحرافات الجنسيّة، ومعناه اللغوي، اللصوق. وسمي لواطاً نسبة إلى قوم لوط الذين أدانهم القرآن الكريم بالقول: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ / إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ / فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ / أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ / وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾ (الشعراء: 161)، ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ (العنكبوت: 29). وقد شدّد التحريم فيه، كما ورد في قول رسول الله (ص): "من جامع غلاماً جاء جنباً يوم القيامة، لا ينقيه ما الدنيا، وغضب الله عليه، ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً"(13).

وفي السحق مئة جلدة، وقيل أنّ "أصحاب الرسّ كانت نساؤهم سحقات"(14).

وهو إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ﴾(15) وفي القيادة، وهو الجمع بين فردين على الحرام خمسة وسبعون جلدة. وفي القذف والسكر ثمانون جلدة، لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ (النور: 4)، وقوله أيضاً: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ (المائدة: 90) والنص الوارد عن أمير المؤمنين (ع): "إنّ الرجل إذا شرب الخمر سكر، وإذا سكر هذى، وإن هذى افترى، فاجلدوه حدّ المفتري"(16).

ولا شك أن هذا التشديد في التعامل مع المنحرفين أخلاقياً منسجم مع النظريّة الأخلاقيّة الإسلامية. فلابد من أجل بناء مجتمع متكامل نظيف يهتم بحقوق الأسرة والأفراد الذين يشكلون تركيبتها البشرية وحقوق النظام الاجتماعي، من إنزال أقصى العقوبات الجسدية بالذين يحاولون تمزيق النظام الأسري والاجتماعي عن طريق الانزلاق في الشهوات المحرّمة وخلط الأنساب. وبطبيعة الحال، فإنّ الإسلام لم يغفل حاجة الفرد كالمتعلّقة بالجنس، بل أشبعها ضمن ضوابط الزواج الشرعيّة والعرفيّة، وجعل العقاب صارماً فيما وراء ذلك.

ومع التشديد المذكور في إنزال العقاب بفعليّة الانحراف، هناك تشديد آخر في الشهادة على الجرائم الخلقيّة، وخصوصاً الزنى واللواط والسحق وهو أربعة شهود، وفي القيادة والقذف والسكر شاهدان. ففي ثبوت الزنى الموجب للحدّ رجماً أو جلداً ينبغي شهادة أربعة عدول يتواردون على الشهادة برؤية الواقعة رؤية دقيقة، ولا بد من اتفاقهم على المشهود به زماناً ومكاناً وفعلاً. وإذا نقص عدد الشهود عن أربعة، أو اختلفوا في التفصيل حُدّ الشهود على القذف ثمانين جلدة. وهذا مصداق قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ / إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النور: 4 ـ 5). وقد ورد أنّ ثلاثة شهود شهدوا على رجل بالزنا، فقال أمير المؤمنين علي (ع): أين الرابع؟ قالوا: الآن يجيء، فقال: "حدّوا الشهود فليس في الحدود نظر ساعة"(17) ولا شكّ أنّ هذا التشديد في دقّة الشهادة وعدالة الشهود، له ناحيتان إيجابيتان:

الأولى: ردع الأفراد عن اتهام الآخرين بالزنا بمجرد الظن أو الشك، فلابد من اجتماع الأربعة على رؤية الواقعة بتفصيلاتها الدقيقة، وإلا فستكون العقوبة من نصيبهم.

الثانية: أنّ الذي يرتكب هذا الانحراف أمام أربعة رجال دون أدنى حياء، يستحق العقوبة الجسديّة لأنّه عنصر إفساد للنظام الاجتماعي ينبغي استئصاله دون رحمة.

وقد جعل الإسلام تطبيق الحدود، آخر الحلول لمعالجة الجريمة والانحراف. فقد أمر الأفراد أوّلاً بالستر والتوبة وسدّ الحاجات الغريزية بالطرق الشرعيّة. فإذا استتر المنحرف وتاب على الله قبل قيام البيّنة فهو في ستر الله ولا يقام عليه الحد ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النور: 5) ولكن إذا أقرّ على نفسه الجرم أو ثبت عليه الجرم بالبيّنة أقيم عليه الحدّ. وقد ورد في الروايات أنّ الإمام (ع) مسؤول عن تزويج الزانية بحيث يعصمها عن ارتكاب هذا الانحراف. وهو دليل قوي على أنّ أهمّ أسباب انحراف الفرد هو الحاجة الماليّة أو الغريزيّة التي لا تسدّ إلاّ عن طريق الزواج الشرعي.

4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي العام:

ولما كان الإسلام يعكس جوهر العدالة الاجتماعية بين الأفراد. فإنّ نظامه السياسي والاقتصادي لابدّ وأن يتحرّك بكلّ قوّة لمعاقبة المنحرفين الذين يحاولون العبث بمقدّرات الأفراد على الصعيد الاجتماعي. ولذلك فإنّ الانحرافات التي يقوم بها هؤلاء الأفراد، وتؤدّي بقصد أو دون قصد إلى زعزعة النظام الاجتماعي، كإرهاب الناس، واحتكار اقواتهم، وظلمهم، تعتبر جرائم تستحقّ نوعاً من العقربات المنصوص عليها في الشريعة.

فالمحاربة هي إرادة الإفساد في الأرض والمحارب هي الذي يجهّز سلاحه لإرعاب الناس، ذكراً كان أم أنثى، قوّياً كان أم ضعيفاً، لعموم الآية في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة: 33).

ولا شك أنّ من أهمّ نتائج هذا التشريع هو استتباب الأمن والسلام الاجتماعي في المجتمع الإسلامي. فليس لأولياء المقتول عن طريق المحاربة العفو عن المحارب، بل إنّ على الإمام قتله بأيّ شكل من الأشكال، إلاّ إذا تاب من تلقاء نفسه قبل التمكن منه فعندئذ يسقط الحقّ العام، لقوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (المائدة: 34) وهكذا الأمن الاجتماعي الذي ينعم به المجتمع الإسلامي يعتبر من أهم مصادر استقرار النظام وتنشيط طاقات أفراده الإنتاجيّة.

ولا شك أن الدولة في الإسلام ينبغي أن تتمتع بأمان اقتصادي ومعاشي ينعم به جميع الأفراد. وأي انتهاك لهذا الأمان يجب أن يعامل بقوّة أخلاقيّة وشرعيّة من قبل الحاكم الشرعي أو الدولة بمؤسساتها القضائية. والاحتكار وهو خزن المادّة الغذائية الأساسية التي يحتاجها الأفراد وقت الاضطرار من أجل رفع سعرها أو إضرار الدولة، يمثل هذا الانحراف الموجه ضد النظام الاجتماعي العامّ. فيجبر المحتكر حينئذٍ على الصعيد الشرعي على بيع المادّة المحتكرة، ففي عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر اشارة إلى ذلك: "فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب في غير إسراف"(18). وهذا لتشريع، يجنّب الأفراد الفوضى الاقتصادية والمعيشيّة وهو منسجم تماماً مع تطلعات الإسلام نحو العدالة الاجتماعية بين الأفراد.

أمّا فيما يتعلق بظلم الحاكم، فنقول إنّ المجتمع الإنساني لما كان بحاجة مستمرّة إلى نظام اجتماعي مستقرّ، وبحاجة ماسة إلى مدير هذا النظام ويرعى شؤونه المالية والقضائيّة والدفاعيّة والسياسيّة، تعيّن أن تكون للقائد شروط ومواصفات موضوعيّة مستمدة من الشريعة نفسها. وقد جابه القرآنُ الكريم بكل قوة النظام السياسي الظالم وأدان وجوده اللاشرعي بمختلف الأساليب، وجعل فرعون مثلاً يعكس فساد جوهر الظلم السياسي ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ / قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ﴾ (الشعراء: 10 ـ 11)، ﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 19)، ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ (طه: 111)، ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (الشورى: 40). وورد ما يشير إلى وجوب الكفر بالحكومة التي لا تقضي بما أنزل الله وتعمل في الناس بالجور والظلم والعدوان وسماها بالطاغوت، فقال عزّ وجلّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾ (النساء: 60) وفي خطبة الإمام الحسين بن علي (ع) في الناس في (منى) تأكيد آخر على التصدي للظلم الاجتماعي:

"اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ (المائدة: 63)، وقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ / كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 78 ـ 79). وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين اظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ورهبة مما يحذرون والله يقول: ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ (المائدة: 44)، وقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (التوبة: 72). فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنّها إذا أدّيت وأقيمت، استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها، وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم، ومخالفة الظلم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها"(19).

وإذا كان الإسلام دين العدالة الاجتماعية حقاً وهو بالتأكيد كذلك، فإنّ أوّل عدوّ يسعى لمحاربته، هو نظام الظلم الاجتماعي والسياسي ضد الأفراد. ولذلك، فإنّ قاعدة العدالة الاجتماعية المتمثّلة بإطار الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية يجب أن تستمر حتماً، حتّى قيام الساعة، إن كانت تحت أمر النبي (ص) أو الإمام المعصوم (ع) أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59)، فلا مكان للحاكم الظالم في دنيا الإسلام، دنيا العدالة الاجتماعية والحقوقية.


1- مجمع البيان: 20: 270.

2- المجتمع الإسلامي 1: 360 تحت الطبع للكاتب.

3- الجواهر: 42: 330.

4- الكافي: 7: 274.

5- كنز العمال 10 ـ 639.

6- البخاري ـ كتاب الحدود ـ باب 12.

7- سفينة البحار 1: 530.

8- من لا يحضره الفقيه 43: 4.

9- المقنع للشيخ الصدوق: 147.

10- تفسير العياشي: 319: 1.

11- المقنع للصدوق: 150.

12- المقنع للصدوق: 147.

13- الكافي: 70: 2.

14- مجمع البيان 107: 19.

15- تفسير القمي: 465، تفسير الآية 38 من سورة الفرقان.

16- الكافي: 215: 7.

17- من لا يحضره الفقيه 24: 4.

18- نهج البلاغة: 625.

19- تحف العقول: 237.