خامساً: الطاغية داخلاً
أ ـ غيبوبة وتيبس:
﴿إذهبا إلى فرعونَ إنّهُ طغى * فقولا لهُ قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى﴾(1).
﴿وأهديَكَ إلى ربِّك فتخشى﴾(2).
﴿كذلكَ يطبعُ اللّهُ على كلِّ قلبِ متكبّر جبّار﴾(3).
﴿وكذلك زُيّن لفرعونَ سوءُ عمله وصُدَّ عن السّبيل﴾(4).
الطاغية وهو يريد أن يقود الحياة، وأن يخرَّ له النّاس ركعاً بل سجّداً ناس غارق في النسيان للحقائق الكبرى المتجليّة خلقة في وجدان كلّ انسان. ناس لعظمة ربِّه، لعبودية نفسه، لقيمة انسانيته، لمبدئه ومصيره. فهو في غيبوبة لا يعي منها من نفسه نفسه، مريض طغيانه يملك عليه ذاته، ويفقده توازنه وانضباطه. ومن خلله أن نفسه لا تهتز لعظمة العظيم وكمال الكامل، وقدرة القادر، وانعام المنعم، نفسٌ ما أحوجها إلى التقويم، وأن يعاد لها صوابها المفقود. والحالة المرضيّة لهذه النفس بالغة مستحكمة; فلا بد إذاً للكلام معه لعلاجه أن يكون ليّنا، ولمفاتحته بدائه أن تأتي على قدر كبير من المرونة والتلطف.
يلعب بذات الطاغية شعور طاغ بذاته; بحجمها الوهمي الضخم، بحقها على كلّ شيء أن يكون في الخدمة، وأن يعطي من نفسه له العبوديّة. شعور يقزِّم في عين هذه الذات من خارجها، ويكبّر كل شيء لها منها; حتّى تنسى عدمها السابق، وموتها اللاحق، ومحدوديتها في كل بعد من الأبعاد، وفقرها الذاتي في كل حيثيّة من الحيثيّات.
والطاغوت إذا اصطدم بطاغوت يقدر فيه أنه يبتلعُه ذلَّ في الكثير واستكان، وخضع وخنع، وأدّى واجب العبودية له كاملاً غير منقوص. إنه البهيمة التي لا تردعها إلا العصا، والعصا التي تقع عليها بحواسها.
لنسيانه وبلادته، وتيبُّس وجدانه وجدتَه يحتاج إلى أن يوصّى به التوصية الخاصة لأن يقال له قولاً ليناً يعالج فيه كبرياءه ليتطامن، وتيبس وجدانه، وتصلب شعوره ليخشى قولا لينا يترفق بحالة الذهول والنسيان والغيبوبة ليتذكر.
ولو عادت للطاغية رؤيته لربوبية ربِّه، وعبودية نفسه، عزة اللّه وجبروته، وذلته هو وخضوعه، وأخذت هذه الرؤية موقعها في نفسه; فإنه هنا لا بد أن يخشى ولا بد أن ينقاد... لا بد أن يهتز كيانه كله، وتملكه الرعدة، ويؤوب ويتوب.﴿وأهديَكَ إلى ربِّك فتخشى﴾(5).
لكن بعد أن تستحكم الطاغوتية ويتمادى الطغيان والعناد والاستكبار، وتتّسم النفس بروح المضادة للّه سبحانه، وتتشبع بالغرور في مواجهة عظمته وجبروته، ينغلق باب الرشد في وجه الطاغية جزاءً وفاقا; ليظل سادراً في غيِّه، متمادياً في ضلاله وانحداره.
يبدأ الطاغية درب التيه بالاستجابة الأولى والثانية للشيطان والنفس الأمارة بالسوء; وهو يملك من نفسه أن لا يستجيب، وأن لا يفعل، ويذهب شيئا فشيئا في طريق الاستسلام والارتماء في أحضان شيطانه، حتى ينأى به الشيطان عن الجادة، وتضيع عليه معالم الطريق، ولا يرى نفسه التي بين جنبيه، حيث كان الطبع على قلبه جزاء، والختم على سمعه وبصره عقوبة.
فهذا هو الطاغوت داخلاً; انسانيته هو عنها في غياب، وقلبه في سياج مستحكم دون النور، لا يتذكر ولا يخشى، ولا يسمع حقّاً، ولا يرى هدى.
ب ـ رجسٌ وتعفن:
﴿اذهبْ إلى فرعونَ إنه طغى * فقل هل لكَ إلى أن تزكّى﴾(6).
الطغيان عفنٌ يعطب، وأذى يسمِّم القلب، ورجسٌ يلوث الروح. ما من نية شرّ، ولا ارادة سوء، ولا حقد أسود، وتعطش للبغي، ولا استخفاف بالكرامات وجرأة على الحرمات، ولا فحش ولا تهتك، ولا تنكر للحقوق، ولا نقض للعهود، ولا غير ذلك مما قذر وخبث إلاّ ويجد له مقرّاً في نفس الطاغية وقلبه، وتعبيراً على لسانه ويده.
فهو لطغيانه محط رذائل، ومجمع تشوهات، ومستنقع قبائح، وهل أبقى من نفسه نافذة تطل على جمال ليروقه فيطلبه؟! أو احتفظ لها بقابليّة يقظة حتى تعشق الكمال فتتمثله؟!.
انسان لم يبق له من انسانيته عبق ولا نماء، بل أصابها تعفن واندثار. فهي تحتاج إلى بعث ونفخة حياة، وتحتاج إلى تزكية بها الطهر والنماء، وبها الحياة والعبق.
وإنما يكون البعث وتكون التزكية، وتكون انتفاضة الحياة من جديد شيئاً منظوراً، ومتوقعاً كثيراً إذا أبقى الطاغية لنفسه من نفسه، ولم يأت على كلِّ قابليّات الخير والهدى فيها، ولم يسد كل منافذ النور إليها أو قارب. أمّا وقد أتت جاهليته على كل جذر من جذور انسانيته، وأطفأت شعلتها حتى الذبالة، أو ما يكاد، فعملية التزكية هنا ومحاولاتها إنما تواجه محلاً قد فقد الكثير من قابلية الاستصلاح، وتربة خرج بها الفساد والتخريب إلى حدٍّ بعيد عن مستوى الاستعمار; وإن لم يصل أمرها إلى حد يجعل المخاطبة عبثاً، والمحاولة لغواً ﴿ لعلّه يتذكّر أو يخشى﴾(7).
1- طه: 43 ـ 44.
2- النازعات: 19.
3- المؤمن: 35.
4- المؤمن: 37.
5- النازعات: 19.
6- النازعات: 17 ـ 18.
7- طه: 44.