رابعاً: نتائج عبادة الله وعبادة الطاغوت

تفاوت المنطلق بين عبادة اللّه دون الطاغوت، وعبادة الطاغوت دون اللّه آت مثله في مردود العبادتين، فيما يثري هنا المردود من إنسانية الانسان، ويزيدها تبلوراً وتألقاً، وفيما يضيف إلى هداياته من هدايات، وإلى صفائه ونقائه من صفاء ونقاء، أو فيما يدخل عليه من خسف وتشويه، وتحطيم لقابليّاته الشريفة، وطمس لاستعداداته النبيلة، وفيما يصير إليه من عبادة الطاغوت من صغار وهوان.

وكما أن عطاءات العبادتين على تفاوت كبير واضح في حياة الأفراد ووجودهم، فهي كذلك في حياة الاُمم والجماعات وأوضاعها السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة وغيرها.

والآيـات القرآنيـة المباركـة تقـدم لنا صورة جليّة لمردود هـذه العبـادة أو تلك، ولما تتركـه من آثار في النفس والخارج، وما ترسمه من حاضر ومستقبل للحيـاة الدّنيا والآخـرة. نتابع هذه الصورة ولو في بعض خطوطها في النقاط التالية:

أ ـ على مستوى الذات الانسانية:

﴿اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النّور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النورِ إلى الظُلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون﴾(1).

من تولي اللّه لعباده المؤمنين بالعناية واللطف، وحراسة قلوبهم وضمائرهم وعقولهم، ومدّها بالنور والهداية ما يأتي مردوداً مكتوباً واقعاً وتكويناً، وعطاء ثرّاً زكيّاً مباركاً للمنهج التربوي الذي اختاره اللّه بعلمه وحكمته، لصناعة هذا العبد وترقيته، ولمعالجة أوضاع داخله وخارجه، بما يهيّئ له أن يرى ويسمع ويواقع بعقله وروحه وقلبه وضميره معرفة الحق، المعرفة المتقدمة التي ترويه وترضيه، وتعطيه الوثوق والاطمئنان والنماء والزكاة، وبما يهيّئ له أن يعرف الأُمور بأوزانها وأحجامها، وأن يدرك من الأشياء حقائقها وحدودها، وأن يضعها بموضعها... أن يعرف الموت والحياة، الأولى والآخرة، الربح والخسارة، النصر والهزيمة، الفقر والغنى، بما يجعل خياراته رشيدة، وخطاه هادفة سديدة، مما يجعل النور معه في سمعه وبصره، في ادراكه وشعوره، فيمضي بعلم، ويقف بعلم، ويأخذ ويدع بعلم، ولا يقوم ولا يقعد الا بنور وحكمة ورشد وعلم.

ومع هذه العطاءات للمنهج الربّاني التي قد تكون على تعاظمها وغزارتها محسوبة، توجد هدايات أخرى من هدايات اللّه وهداياه لأوليائه لا محدودة ولا محسوبة: ﴿مثلُ الّذينَ يُنفقونَ أموالَهم في سبيلِ اللّهِ كمثلِ حبّة أنبتتْ سبعَ سنابلَ في كلّ سُنبلة مائة حبّة واللّه يضاعفُ لِمن يشاءُ واللّهُ واسعٌ عليم﴾(2). ففي الآية جزاء كثير محسوب، وعطاء هبة غيرُ محسوب.

فما من استعداد للخير في الذات الانسانية، ولا قابليّة من قابليات السمُوّ والرفعة، ولا فرصة من فرص الهدى والسداد، إلاّ جاءت من عطاء هذا المنهج المربّي، وفيوضات الولي الكريم فعليّة غنيّة كريمة، وواقعاً زخّاراً متقدّما.

وحينما يصير الاستعداد إلى التقدم تقدّما فعلاً، وتتحول قابلية الخير خيراً حيّاً، فهذا يعني أن وجوداً قويّاً ونوراً مشعاً اضافياً لم يكن ثم كان، وأن حالة الظلمة والعدم لهذا التقدم الفعلي الجديد والخير الاضافي، قد تم منها الانسلاخ، وتحقق عنها التجاوز﴿يُخرجهمْ من الظلماتِ إلى النورِ﴾.

والطاغوت يأتي الأمةَ على انسانية متقدمة، أو يأتيها ولها من الاستعداد أن تكون كذلك; أن تكون اُمة خير وحق وجمال، أن تعيش العدل وتنشره، أن تغنى بالهدى وتشع به، أن تزخر بالعلم وتفيض منه، وأن تقرب من اللّه، من ألطافه ورحمته ورضاه، وتهدي إليه. يأتي إلى الذات الانسانية ثرّة مكتنزة موّارة بقابليات الخير والكثير من فعليّاته، بعطاءات الهدى واستعداداته، فيكون دأبه الاضلال والغواية والتحجيم والتقزيم حتى تنحدر المسيرة ويكون السقوط. من أجل أن يكبر الطاغية في نظر الآخرين، وهو الصغير، لا بد أن يسمو، ومن أجل أن يحل المحل العزيز في النفس، وهو الحقير، لا بد أن تفسد الضمائر، وأن تنطفئ شعلة الحقّ في القلوب، ويخبو نور الفطرة في الوجدان. لا بد أن يصغر النّاس، وأن ينسوا كرامتهم وشرف إنسانيتهم. فإذا لم تهن أنفسهم عليهم، ولم تفقد الحياة معناها الكبير في نظرهم، ولم يغفلوا عن ربّهم العظيم، فكيف يكبر الطاغوت على صغره؟! وكيف يعظم على حقارته؟! وكيف يُرتضى ربّاً وهو لا يملك نفعاً ولا ضرّاً؟!

لا بد للصغير حقّاً أن يكبر زوراً، ولا بد للكبير واقعاً أن يصغر افتراءً، وأن يسقط التقويم والقيم عند النّاس حتى تقبل من الطاغوت ربوبيته وهي هراء، ويدخل في ولايته وهي هباء، ويحتمى به، ويلتجأ إليه وهو ليس على شيء.

وعليه يأتي دور الأجهزة الخاصّة والخبراء المستوردين والميزانية الضخمة، ودور المشانق والمعتقلات، والتشريد والتغريب، والثقافة المزوّرة والاعلام الساقط، وخطط التذويب الخلقي، والتمزيق الاجتماعي، وتركيز ظاهرة الأفيون من أجل صناعة المجتمع الممسوخ المتنكر لنفسه ولربه وقيمه ليحتضن فكرة الربّ الصغير والولي الحقير، ومن أجل أن تستوحش النفس ـ بعد الترجّس والهبوط ـ ولاية اللّه العظيم، ولا تطيق الارتفاع إلى مستوى عبادته.

لكي تقر عين الطاغوت، وتستقر نفسه، ويأمن على انحفاظ ربوبيته في النفوس لا بد أن يسقط الانسان، ويعيش النظر إلى تفاهة نفسه وخستها، ويختفي النور، ويعم الظلام ﴿فاستخفَّ قومَهُ فأطاعوهُ إنّهم كانوا قوماً فاسقين﴾(3).

لا بد أن يأتوا أولاً خفافاً من العقول والضمائر والنظرة المحترمة للذات، والتقدير الصائب للأمور، أن يأتوا بلا رشد ولا حكمة ولا وعي ولا ذوق سليم، أن تصل بهم عملية التحجيم المستمر والاسقاط والتذويب إلى حالة من الخفة وفقد الوزن الانساني إلى حدّ كبير جدّاً، وتتم عملية الانحدار إلى النقطة التي يرون معها عبادة الطاغوت مستساغة والتعلق به من الشيء المربح. فعندئذ يكون الدخول في الطاعة والتذلل أمام حقارة الطاغوت.

﴿قلْ هل أنبئكم بشرّ من ذلك مَثوبةً عندَ اللّهِ من لعنهُ اللّه وغضب عليهِ وجعلَ منهم القردةَ والخنازيرَ وعبدَ الطاغوتَ أولئك شرٌّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً﴾(4).

تجعل الآية الكريمة من يعبد الطاغوت في صف واحد مع القردة والخنازير، وكأن المناسبة هي جامع المسخ، فكأن ما أصاب بعض أهل الكتاب منه على لونين: مسخ في صورة قردة وخنازير، ومسخ بعبادة الطاغوت، والمسخ هنا داخلي، يعني تحولاً هائلاً في صورة انتكاسة ذريعة في انسانية الانسان; حيث يتحول في داخله إلى واقع بهيمي لا يحمل شيئاً من معالم نفخة الروح، وشرف المعرفة الانسانية باللّه سبحانه، المعرفة التي تقف دائماً سراً كبيراً وحيداً وراء طهر الانسان واستقامته وسموّ ذاته.

نعم! إنما تتم عبادة الطاغوت حينما يخسر الانسان وزنه، ويكون البهيمة والقرد والخنزير في داخله، ومن غير ذلك لا يوجد في مضمون الانسان ومن خلال انسانيته الرائعة ما يبرر أن تعبد الأوثان والأرجاس والطواغيت.

ب ـ على مستوى الأوضاع الحياتيّة في الدنيا:

﴿ولوْ أنّ أهلَ القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهمْ بركات من السماءِ والأرض﴾(5).

﴿وأنْ لو استقاموا على الطريقةِ لأسقيناهُم ماءً غَدقاً﴾(6).

﴿يهدي به اللّهُ من اتّبعَ رِضوانهُ سُبلَ السّلام..﴾(7).

﴿الّذينَ إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاةَ وآتوا الزّكاةَ وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكرِ وللّهِ عاقبةُ الاُمورِ﴾(8).

لا ينفصل الخارج عن الداخل، ولا الداخل عن الخارج في حياة الانسان تأثيراً وتأثراً، وإن اختلف الانسان أفراداً ومجتمعات في اعطاء ردِّ الفعل على الواقع الخارجي، تبعاً لما عليه مستواه في الدّاخل.

ولن تجد جوّاً اجتماعيّاً أكثر مناسبة لنمو الانسان في ذاته نموّاً زكيّاً مباركاً، من جو تصنعه التربية الإلهية ويصوغه منهج اللّه، وتبنيه الأبصار والأيدي الأمينة المؤمنة.

البركات التي تنفتح بها السماء، وتتدفق بها الأرض، على مجتمع الايمان والولاء للّه، من فيضه وفضله ورحمته، لا تبقي فقراً ولا جهلاً ولا خوفاً ولا قلقاً... بركات تصيب بالعطاء الوفير والخير الدافق عالم العقول والأنفس والأبدان. وإذا جاء الظاهر مرة على خلاف هذه النتيجة، فلا بد من مراجعة للتعرف على مدى تحقق الشرط المأخوذ في الآية الكريمة على الانسان المجتمع. وإن كان لا بد من فترات ابتلاء وتمحيص، ولكن قد لا يكون موردها في طول الايمان والتقوى المجعول شرطاً ذلك أن الابتلاء والتمحيص إنما هو من أجل الوصول بالمجتمع إلى ذلك المستوى من الايمان، والحصيلة من التقوى.

والاستقامة على الطريقة تستتبع ـ حسب الآية ـ الماء الغدق من عطاء اللّه; يغسل ادران الساحة الاجتماعيَّة، ويكتسح كل ازماتها، كما يزيد النفوس طهراً، ويملؤها رضا ويرويها ثقة وطمأنينة. ويبعثها قويّة نشطة هادية مهديّة تحبُّ الخير وتسعى به، وتوفّق إليه.

والسلام حقا وصدقاً حاضراً ومستقبلاً داخلاً وخارجاً نتيجة غير متخلفة لاتباع رضوان اللّه في بناء الحياة كل الحياة على هدى كتابه العظيم، وخطى رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله).

وحين تكون الحكومة في الأرض ـ في الحياة الارادية القائمة عليها ـ حكومة اللّه، والأمر بيد أوليائه يكون مجتمع الطهر والفضيلة، المجتمع الذي تألف النفس الانسانية في وضعها القويم، وذوقها السليم أوضاعه وعلاقاته، وتجد في بيئته بيئتها، ومن جوِّه جو نمائها وترعرعها... لا تقع منه على ما يُنكر، ولا ترى منه ما ينفّر، فهو صورة لما تنطق به فطرتها، وواقع يوحي به وعيها وضميرها. القائمون على أمر هذا المجتمع قادة الصلاح والفلاح، والقدوة في تمثّل القيم، والمسارعة في الخيرات﴿أقاموا الصّلاة وآتوا الزكاة﴾.

هذا مردود لعبادة اللّه وولايته على أوضاع النفس والأرض، وفي كل حقول الحياة... بركات تتدفق، وأوضاع ايجابية تنتشر وتتركز، ومسيرة صاعدة، واستقامة في اتجاه اللّه، وأمن يغطي كل مساحة الحياة، ويتيح للانسان حركة تقدمية فاعلة.

والآن ماذا عن عبادة الطاغوت في عطاءاتها المدمّرة؟

﴿وَمن النّاس من يعجبكَ قولهُ في الحياةِ الدّنيا ويُشهِدُ اللّهَ على ما في قلبهِ وهوَ ألدُّ الخصام * وإذا تولّى سعى في الأرضِ ليفسدَ فيها ويهلكَ الحرثَ والنّسلَ واللّهُ لا يحبُّ الفسادَ * وإذا قيل له اتقِّ اللّهَ أخذتهُ العزّةُ بالاثمِ فحسبُهُ جهنّمُ ولبئسَ المهاد﴾(9).

﴿وثمودَ الّذين جابوا الصخرَ بالوادِ * وفرعونَ ذي الأوتادِ * الذينَ طغوا في البلادِ * فأكثروا فيها الفسادَ﴾(10).

﴿ولا تطيعوا أمرَ المسرفينَ * الذينَ يُفسدونَ في الأرضِ ولا يصلحون﴾(11).

﴿إنّ فرعونَ علا في الأرضِ وجعلَ أهلها شيعاً يستضعفُ طائفةً منهم يذبِّحُ أبناءهمْ ويستحيي نساءهمْ إنّه كان من المفسدين﴾(12).

﴿قالت إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّةً وكذلك يفعلون﴾(13).

ما يهمّ الطاغية أولاً وأخيراً أن يبقى له استعلاؤه وكبرياؤه وعزته الموهومة التي بناها الاثم والعدوان، والتي ليس لذاته منها شيء حقّاً. عزّة تقوم على جماجم الآخرين وأشلائهم وآلامهم وحرمانهم، وتقوم على تجهيلهم وإفساد ضمائرهم، وعلى غياب شعورهم بكرامتهم وأصالتهم. كل شيء يحترق ويبقى الطاغية وكرسيّه، وكل شيء ينتهي وتبقى كبرياؤه الكاذبة غير مخدوشة ولا ممسوسة. وماذا لو تعرّض وجود الأمة للضمور، واقتصادها للتحطّم، وثقافتها للتخلف وأمنها للاضطراب؟ بل ماذا لو اقتضى الأمر أن يهلك الحرث والنسل وهما سببان لاستمرار الحياة على وجه الارض؟ وماذا لو بيعت الأمة كاملة للأجنبي بالبقاء الذليل لكرسي الطاغية الذي يكفيه انتفاخه الكاذب على مستضعفي الأمّة وقطاعاتها المحرومة؟ كل ذلك لا شيء، حيث يبقى الطاغية، ويستمر له شعوره الجنوني بالانتفاخ.

ثم هل يمكن أن يكون غير هذا التنافي بين استمرار الطاغية في طغيانه وتحكمه وبين وجود الأمة ومصلحتها؟ لا وألف لا، فمتى التقى استمرار الطاغية وغروره، واصراره وهو الصغير في ذاته، المريض في نفسه، المدخول في تفكيره، المختل في توازنه، على أن يكون أكبر شيء، وأن يسجد له كل شيء، متى التقى هذا الشرور والهذيان مع مصلحة الانسان، وتقدم الحياة، وازدهار الأوضاع؟ وذلك لا يكون إلاّ بأن تقدّر الأمور بقدرها، وأن يأخذ كل شيء موضعه، ويقوم كل واحد بواجبه، ويوفى كل عضو حقه.

الحالة الدائمة هي حالة تصادم وتهافت بين وجود الطاغية وما يشتهي مما تمليه عليه نفسه المريضة، وشعوره المختلط، وبين ما يقتضيه تقدم الحياة، ومصلحة الانسان. ومن أين للهوى والطيش والغرور أن يبني؟! ومن أين للجهل والعنجهية والنفس التي خسرت نفسها أن تعمِّر؟!

ولاية الطاغوت تعني الفساد الشامل الذي يطال كل جَنبة من جنبات الحياة، وكل زاوية من زوايا المجتمع، والذي يتهدد كل شيء في دائرة حكم الطاغوت بالدمار.

والآيات الكريمة تتحدث عن هذه العلاقة الثابتة الأكيدة بين حكم الطاغوت وبين العمليّة التخريبية الواسعة في صورة استحياء للنّساء، وتذبيح للأبرياء أطفالا رضعاً أو شيوخاً ركّعا، وفي صورة تمزيق لوحدة المجتمع، وضرب القوى بعضها ببعض، واذلال للرقاب، ومنع لأسباب القوة والنهوض فيمن يتعلق به الشك في الولاء، واستهداف أن تكون هناك طبقة واسعة مسحوقة; لا تملك حولاً ولا طولا لتكريس حالة الاستعباد. عملية تخريبية تمتد إلى أخضر الأرض ويابسها، وتحرق مع النسل الحرث.

ج ـ على مستوى المصير:

﴿قال اللّه هذا يومُ ينفعُ الصادقينَ صِدقهمْ لهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً رضي اللّهُ عنهمْ ورَضوا عنهُ ذلكَ الفوزُ العظيم﴾(14).

﴿يا أيتها النفسُ المطمئنّةُ ارجعي إلى ربِّك راضيةً مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي﴾(15).

﴿يَقدُمُ قومهُ يوم القيامةِ فأوردهمُ النّار وبئس الوِردُ المَورود﴾(16).

﴿إذ تبرّأ الّذينَ اتُّبِعوا من الّذينَ اتَّبعوا ورأوا العَذابَ وتقطّعتْ بهم الأسبابُ وقال الّذينَ اتَّبعوا لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأَ منهم كما تبرّأوا مِنّا كذلك يريهم اللّهُ أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجينَ منَ النّار﴾(17).

تنتهي عبادة الملك الحقّ، مالك الأمر كله بأهلها إلى غايتها. والتعلقُ بمالك السماوات والأرض، والدّنيا والآخرة، خالق كل شيء وربّ كل شيء، الذي لا تنقص خزائنه، ولا تزيده كثرة العطاء إلاّ جوداً وكرما; هذا التعلق له نهاية يفضي إليها تقتضيها قدرة المعبود وعلمه وكرمه.

والتعلق بالعبيد المستضعفين ممن أثقلت ظهورهم جرائرهم، وحل عليهم سخط سيدهم، وكانوا في قبضة جبار السماوات والأرض، له نهاية من نهاية هؤلاء المجرمين المنكّل بهم، وجزاء من جزائهم، فالسعي إلى بوار، والغاية خسار، والمقرّ مع أهل النّار.

يدخل المؤمن الجنّة نفسا بلا شرور، وقلباً بلا غل، وانساناً بلا هم ولا قلق... يلقى من نعم اللّه وألطافه وكريم ضيافته ما يتجاوز الخيال، ويكبر الوصف، ويجد من وفاء اللّه بوعده الجميل اكثر وأكثر مما كان يدخل له في حسبان. ويغمر قلبه أنس لا حدّ له مما يرى من جمال اللّه وجلاله. عندئذ لا يكون له أن يفارقه الرضا بمعبوده لحظة، ولا يكون لرضاه عنه أن تأتي فيه ثلمة، أو يعرضه نقص، أو يكون فوقه أو من مستواه رضا.

ويغزر الشعور بالكرامة، ويتفايض من النفس على جوانبها، وتكبر المعنويات في النفس إلى أقصى حدّها، ويسكر بلذة الروح، فوق ما يأتيه من متع البدن على ما هي عليه تلك المتع من وفرة وشفافيّة، وما تعبق به من ألوان التكريم. يحصل له أن لا يكاد يصدّق بمقامه حتّى يتلقى اليقين بأن اللّه العظيم راض عنه... معناه أنّه صار في جنته بلطف اللّه إلى واقع نقي جميل، طهور، نظيف من شوب العقول والأرواح والنفوس. هكذا أتى بلا شك، بلا يأس، بلا غل، بلا شرور. صُفّي وجُلّيَ وغُسِل بماء الرحمة; فجاء علماً، وصدقاً، وعدلاً، وحبّاً للخير، وبغضاً للشر، وروحاً طليقاً، وقلباً زاكياً، وضميراً حيّاً، ووجوداً مباركاً، ونوراً مضيّاً، جاء لا يلحق به ما يصرف عين الجليل عنه، وما منه يتحوّل بوجهه الكريم عن التلطف به.

هذه عبادة المؤمن تنتهي به إلى الرضا بوجوده وحياته وماضيه وحاضره ومستقبله في ظل الرضا من ربّه عنه، وما يتقلب فيه من نعمائه وجزيل عطائه وعناياته وكراماته.

وعبادة الطاغوت وهي تفرّغ صاحبها من مضمون انسانيته الرفيعة تنتهي به إلى شيء تافه، ووقود من وقود النّار، ولكن مع شعور غليظ بالعذاب، واحساس مغرق بالمهانة، وبالمقت للذات، والاحتقار لها، وبالأسى والألم، والحزن والندامة، والوحشة والاحباط، والدونيّة والرذالة.

وفي قبال الصورة الوضيئة من رضا المؤمن عن ربّه ورضا ربّه عنه، صورة معتمة من التخاصم والتشاتم والتبري والعداوة وغل الصدور، والحقد المتفاقم مما هو بين الطاغوت ومن عبدوه وكان له منهم ولاء، وكانت له عندهم مودة.

ألم تتكشف الأمور على واقعها، وتنقشع الغشاوات عن البصائر؟! ﴿فكشفنا عنكَ غطاءكَ فبصركَ اليومَ حديد﴾(18) ألم يتجل أن الطاغوت قد سرق واغتصب من أتباعه أغلى رصيد يملكه انسان بعد الذات; ساعات الحياة ودقائقها؟ ألم يختلس وينتهب منهم ذواتهم الكريمة ليعبث بها ويحولها إلى خواء؟! ألم يطفئ في داخلهم شعلة الانسانيّة الراقية؟ ألم ينأ بهم عن الطريق؟ ألم يحجبهم عن نور اللّه الذي تشرق به السماوات والأرض وما فيهن من شيء، وبه وجودهم وحياتهم؟! ألم يحرمهم جنّة الخلد؟ ألم يملأ صدورهم بكل خبيث، ويقتلع منها كل طيّب؟ ألم يفقدهم رؤيتهم وبصيرتهم التي عجنت بها كينونتهم في صورتها الانسانية الأولى النقيّة، فصاروا يرون الباطل حقّاً، والحق باطلا؟ إذاً فليصبّوا جام غضبهم عليه، وليتمنوا أن يرجعوا ويرجع إلى الحياة ثانية وبعد أن عادت لهم البصيرة فيتبرأوا منه، وليخاصموه وهم وإياه في النار ويلعنوه، ويطلبوا المزيد من عذاب اللّه ونكاله لينصبَّ عليه.

نعم إنه أهل لكل ذلك، ولكنهم أهل معه لأن يكونوا في العذاب، وأن يأخذوا مقرّهم ومأواهم في جهنم.

ألم يكونوا يد الطاغوت ورجله، وسمعه وبصره على الحق وأهله؟! ألم يكونوا شركاء وأدوات ـ لم تسلب ارادتها ـ في الفساد والافساد؟! ألم يزد تذللهم بين يدي الطاغوت، وانكبابهم على قدميه خانعين ما عليه من غرور غروراً، ومن زهو زهواً؟ ألم يعطوا له ابتداء يد البيعة والذلة مريدين في الظرف السهل أو الصعب، وهكذا كانوا على المدى كله يفعلون؟! ألم تكن هناك آيات بيّنات، ورسل وكتب، وفطرة ووجدان متأصل؟! ألم يروا من أحوال الطواغيت تبدلها على غير ما يشتهون، ومن جريان المقادير الالهيّة عليهم بخلاف ما يأملون؟!


1- البقرة: 257.

2- البقرة: 261.

3- الزخرف: 54.

4- المائدة: 60.

5- الاعراف: 96.

6- الجن: 16.

7- المائدة: 16.

8- الحج: 41.

9- البقرة: 204 ـ 206.

10- الفجر: 9 ـ 12.

11- الشعراء: 151 ـ 152.

12- القصص: 4.

13- النمل: 34.

14- المائدة: 169.

15- الفجر: 27 ـ 30.

16- هود: 98.

17- البقرة: 167.

18- ق: 22.