المقدمة
عبادتان في النّاس لهما من المكث في الأرض ما كان للانسان من مكث تقريباً وما يكون; عبادة اللّه، وعبادة الطاغوت. والانسان فعليّة; فكراً وضميراً وإرادة وعلاقات اجتماعية، وأوضاعاً خاصّة وعامّة، وصيغةً حضاريةً، صورةٌ من عطاء هذه أو تلك العبادة ومقتضياتها. فعندئذ تجده إما صورة وضيئة مضيئة; تزخر بإشعاعات اللّه، وإمّا صورة قاتمة كالحة; تغمرها ظلمات الطاغوت.
والطاغوت كثير متنوّع، تلقاه في كل معبود من دون اللّه، من صنم حجر، أو انسان فرد متفرعن، أو طبقة اجتماعيّة مستكبرة، أو حزب مستعل. وتلقاه في شعار قومي أو وطني يستقطب من الناس ولاءهم، وفي كل شيطان من انس أو جن إليه يصغى ومنه يؤخذ، سخطه المرهوب ورضاه المطلوب. فحيث تكون الطاعة معصيةً للّه، إعظاماً لغيره في نفسه، واعترافاً بحق الخضوع إليه في ذاته، مستقلاًّ عن الملك الحق; يكون المطاع طاغوتاً، ويكون المطيع مشركاً، وهو يعطي ما للّه غير اللّه من حق الطاعة إليه مستقلاً، وفي قبال طاعته سبحانه كذلك.
في قوله تعالى: ﴿وَالذّينَ اجْتَنَبُوا الطّاغوتَ أنْ يَعْبُدوها﴾ قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) مخاطبا لأبي بصير: أنتم هم، ومن أطاع جباراً فقد عبده(1).
انظر إلى كلمة جبار وأدائها الخاص في التركيب. فطاعته التي عدت شركاً هي طاعته في طغيانه وتجاوزه عن حدود اللّه ودائرة عبوديته، وليست طاعته بما هو ولي اللّه وعبده الذي لا يتجاوز حدوده، ولا يتخطى أحكامه.
والطاغوتية أكبر مظهر للتجاوز المنفلت، وأيُّ تجاوز أكبر وأخطر من أن يوهمَ المملوك ملكاً طلقاً حقيقة وواقعاً، بأنه مطلق وسيد شامل بحق، ثم يستجيب لوهمه، ويستجيب غيره له، فيحتمي بالفقر على أنه الغنى، وبالجهل على أنه العلم، وبالعدم على أنه الوجود؟!
والعبادة مرآة مستوى من الرؤية والنفسيّة والسلوك الذي يكون وراء الرضا من العابد بالمعبود قبل، ويكون من مردود عبادته له بعد. فحيث يكون المعبود لفرد أو أمة كبيراً حقاً وجليلاً حقّاً ـ وليس غير اللّه كذلك في ذاته على الاطلاق ـ يكشف ذلك عن سموّ رؤية، وعلوّ همة، وطهر نفس; هو ما شدّ العابد إلى المعبود الكبير، وتجاوز به كل الصغار، وكل الموهومين، وكل المحدودين. وكلما كان المعبود طاغوتاً ـ والطاغوت، حيث ينصب نفسه معبوداً، عبد من عبيد الشهوة والهوى، وأسير من أسراء العقد والأزمات الذاتية ـ يكون العابد ذلك القصيرَ في رؤيته، الوضيع في نفسيته، السقيم في ذاته.
هذه كلمة يأتي الموضوع بعدها في نقاط تستهدي الوحي، وتستضيء النص; الوحي الصادق والنص الناطق:
1- ميزان الحكمة 5: 543، عن نوادر الراوندي 4: 481.