تحريم الخمر

لم ترد آية في المنع عن شرب الخمر، بلفظ التحريم صريحاً، وإنما هو أمر الاجتناب عنه أو مما ينبغي الانتهاء منه، مما هو ظاهر في الإرشاد إلى حكم العقل محضاً، الأمر الذي قد يوهم أنها غير محرمة في شريعة الإسلام!

ومن ثَمَّ سأل المهديُّ العباسيُّ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عن ذلك، قال: هل هي محرّمة في كتاب الله عزوجل؟ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها!

فقال الإمام: بل هي محرّمة في كتاب الله، يا أمير المؤمنين!

قال: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله، يا أبا الحسن؟

فقال: في قول الله عزوجل: ﴿قل إنما حرّم ربىّ الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق﴾(1).

قال (عليه السلام)، أمّا ما ظهر فهو الزنا ونصب ارايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية. وأمّا ما بطن فيعني ما نكح الآباء، كان الناس قبل البعثة إذا كان للرجل وزجة ومات عنها، تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمّه.

قال: وأما الإثم فإنّها الخمرة بعينها.. وقد قال تعالى في موضع آخر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾(2).

فالتفت المهديّ إلى علّي بن يقطين- وكان حاضر المجلس ومن وزرائه- وقال: ياعلّي، هذه والله فتوىّ هاشميّة! فقال ابن يقطين: صدقت والله ياأمير المؤمنين، الحمد لله لم يُخرج هذا العلم منكم أهل البيت، فما صبر المهديّ أنقال: صدقت يارافضي. وكان يعرف منه الولاة لآل البيت(3).

وبهذه المقارنة الدقيقة بين آيتين قرآنيتين يعرف التحريم صريحاً في كتاب لله الأمر الذي أعجب المهديّ الهباسي واستعظم هذا التنبّه الدقيق والذكاء المرهف الذي حظي به البيت الهاشمي الرفيع.

وهكذا روي عن الحسن تفسير الإثم في الآية بالخمر(4).

قال العلامة المجلسي: المراد بالإثم ما يوجبه. وحاصل الاستدلال أنه تعالى حكم في تلك الآية بكون ما يوجب الإثم محرماً، وحكم في الآية الأخرى بكون الخمر والميسر مما يوجب الاثم، بمقتضاها تحريمهما(5).

والكناية بالإثم عن الخمر، لأنها امّ الخبائث ورأس كل إثم(6) وكان قد شاع ذلك الوقت وقبّله وتعارف استعماله. أنشد الأخفش:

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي**كذلك الإثم تذهب بالعقول.

وقال آخر:

نهانا رسول الله أن نقرب الخنا**وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا(7)

وأيضاً قال قائلهم في مجلس أبي العباس:

نَشربُ الإثم بالصُّواع جِهارا**وتَرى المسكَ بيننا مُسْتَعارا(8)

وقد صرَح الجوهري بوروده في اللغة، قال: وقد تسمّى الخمر إثماً، ثَمَ أنشد بالبيت الأول. وكذلك عدّها الفيروز آبادي أحد معانيه.

وأما إنكار جماعة أن يكون الإثم اسماً للخمر، فهو إنما يعني الإطلاق الحقيقي دون المجاز والاستعارة، فكل معصية إثم، غير أن الخمر لشدة تأثيمها سميت إثما لأنها رأس المآثم وأصلحا وأساسها، كما نبهّنا. وإلى هذا يرجع كلام ابن سيده، قال: وعندي أنه إنمّا سمّاها إثماً لأن شربها إثم، فهو من الإطلاق الشائع الدائر على الألسن، وضعاً ثانويَاً عرفياً بكثرة تسمية الخمر(9)، لا إنكار استعماله فيها مجازاً شايعاً. قال الزبيدي: وقد أنكر ابن الأنباري تسمية الخمر إثماً، وجعله من المجاز، وأطال في ردّ كونه حقيقة(10).

قلت: وهو كذلك بالنظر إلى أصل اللغة.

وأنكره ابن العربي رأساً قال: (لا حجة فيما أنشده الأخفش، لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك، لوم يوجب أن يكون الذنب أو الوزر اسماً من أسماء الخمر، كذلك الإثم. قال: والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهلُ باللغة وبطريق الأدلّة في المعاني).

لكن الفارق أن العرب استعملت الإثم في الخمر وتعارف استعماله في عرفهم، حتى خصّ به على أثر الشياع. أما الذنب والوزر فلم يتعارف استعمالها في ذلك، ولو تعارف لكان كذلك.

قال القرطبي في ردّه: إنّه مرويّ عن الحسن، وذكره الجوهري مستشهداً بما أنشده الأخفش، وهكذا أنشده الهروي في غريبيه، على أن الخمر الإثم. قال: فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضاً لغة فلا تناقض(11).


1- الاعراف: 33.

2- البقرة: 219.

3- الكافي 6: 406.

4- مجمع البيان للطبرسي 4: 414.

5- مرآة العقول: 22: 264.

6- اخرج الكليني باسنادهإلى أبي عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الخمر رأس كل إثم) (الكافي 6: 403).

7- مجمع البيان 4: 414. والخنا: الفحش من الكلام واستعبر لكل أمر قبيح. وقد كنّي بالإثم عن الخمر ذاتها، ذا لو كان بعنى الوزر لم يكن يوجب الوزر، ولم يصلح تعلّق الشرب منه.

8- ذكره ابن سيده. (ابن منظور- لسان العرب).

9- لسان العرب لابن منظور.

10- تاج العروس في شرح القاموس.

11- تفسير القرطبي 7: 201.