كلمة في التفسير بالرأي

التفسير بالرأي الذي يدخل تحته أكثر ما تقدم من التفسير بالعقل الذي أجمع الفريقان على منعه تبعاً للأثر المتضافر عن النبي (ص) حيث قال (إتقوا الحديث إلا ما علمتم فمن كذّب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار)(1).

وعلى ضوء هذا الحديث المتفق عليه يجب على المفسر أن يتجرد من الآراء المسبقة ويوطن نفسه على قبول ما تفيده الآية وتدل عليه ولا يخضع القرآن لعقيدته, بل تعرض عقيدته على القرآن, لأنه حجة الله على خلقه وعهده إلى عباده, إليه يتحاكمون, وعن حكمه يصدرون ولأجل ذلك لا يجوز له تأويل الآية وإخراجها عن ظاهرها , ليوافق عقيدته ويلائم مذهبه فإن موقف المتصدي لتفسير كلام الله موقف المتعلم من المعلم ومجتني الثمرة من الشجرة فيجب ان يتربص إلى ان ينطلق المعلم فيأخذه خطةً وقاعدةً ويجتني الثمرة في أوانها وفي إيناعها.

من البدع الذائعة في بعض التفاسير طلب الوجوه البعيدة في الإعراب أو حمل اللفظ على المعاني التي لا تتفق وسياقها أو سبب نزولها وتطبيق الآيات على موارد ومصاديق بعيدة كلها, لأجل أغراض ودعايات وأهداف طائفية او سياسية او شخصية عصمنا الله من ركوب الهوى والعصبية.

المنهج الثاني: التفسير بالنقل

يعتمد المفسر على العقل تارة وأخرى على النقل وقد تقدم الحديث عن أقسام التفسير بالعقل مقبوله ومردوده , فحان حين البحث عن التفسير بالنقل وبيان أقسامه:

1- تفسير القرآن بالقرآن

إن هذا المنهج من أسمى المناهج الصحيحة الكافلة لتبيين المقصود من الآية كيف وقد قال سبحانه ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء﴾ (النحل/89) فإذا كان القرآن موضحاً لكل شيء, فهو موضح لنفسه أيضاً كيف والقرآن كله (هدى) و (بينة) و (فرقان) و (نور) كما في قوله سبحانه ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة/185).

وقال سبحانه ﴿وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً﴾ (النساء/174) وقال النبي الأكرم (ص) (إن القرآن يصدّق بعضه بعضاً) وقال علي (ع) في كلام له يصف فيه القرآن (كتاب الله تبصرون به وتنطقون به, وتسمعون به, وينطق بعضه ببعض, ويشهد بعضه على بعض, ولا يختلف في الله ولا يخالف بمصاحبه عن الله)(2).

وهذا نظير تفسير المطر الوارد في قوله سبحانه ﴿أمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين﴾ (الشعراء/173) بالحجارة الواردة في آية أخرى في هذا الشأن ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ (الحجر /74).

وفي الرويات المأثورة عن أهل البيت نماذج كثيرة من هذا المنهج يقف عليها المتتبع في الآثار الواردة عنهم, عند الاستدلال بالآيات على كثير من الأحكام الشرعية الفرعية وغيرها.

وقد قام أحد الفضلاء بإستقصاء جميع هذا النوع من الأحاديث المتضمنة لهذا النمط من التفسير.

ولنذكر بعض النماذج من هذا المنهج:

1- سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر عن وجوب القصر في الصلاة في السفر مع أنه سبحانه يقول (ليس عليكم جناح) ولم يقل أفعلوا.

فأجاب الإمام عليه السلام بقوله (أوليس قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض(3).

2- روي المفيد في الإرشاد أن عمر اُتِيَ بأمرأة قد ولدت لستة أشهر فَهَمّ برجمها فقال له أمير المؤمنين: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك , إن الله تعالى يقول ﴿وحمله وفصاله ثلاثون شهراً﴾ (الأحقاف/15) ويقول ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ (البقرة /232) فإذا تم أتمت المرأة الرضاع لسنتين وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً كان الحمل منها ستة اشهر, فخلى عمر سبيل المرأة(4).

وهذا النمط من التفسير كما يتحقق بالتفسير الموضوعي أي تفسير القرآن حسب الموضوعات يتحقق بالتفسير التجزئي أي التفسير حسب السور, سورة بعد سورة وهذا تفسير الميزان قد كتب على تفسير القرآن بالقرآن, لكن على حسب السور دون الموضوعات, فبيّن إبهام الآية بآية أخرى.

ولكن الصورة الكاملة لهذا القسم من التفسير يستدعي الإحاطة بالقرآن الكريم وجمع الآيات الواردة في موضوع واحد حتى تتجلى الحقيقة من ضم بعضها إلى بعض واستنطاق بعضها ببعض فيجب على القائم بهذا النمط تفسير القرآن على حسب الموضوعات وهو نمط جليل يحتاج إلى عناء كثير.. وقد قام العلاّمة المجلسي برفع بعض مشاكل هذا النمط فجمع الآيات الواردة في كل موضوع حسب السور.

ولو صدر هذا القسم من البحار في جزء مستقل ربما يكون مفتاحاً للتفسير الموضوعي فهو قدّس الله سره قد استخرج الآيات حسب الموضوعات وشرحها بوجه إجمالي.

ولكن النمط الأوسط منه قراءة القرآن من أوله إلى آخره والدقة في مقاصد الآيات ثم تصنيفها حسب ما ورد فيها من الأبحاث والموضوعات, ففي هذا النوع من التفسير تستخرج الموضوعات من الآيات ثم تصنف الآيات حسب الموضوعات المستخرجة وهذا بخلاف ما قام به العلاّمة المجلسي , فهو صنف الآيات حسب الموضوعات التي جادت بها ذاكرته, أو جاءت في كتب الأحاديث والأخبار.

وهذا النمط من التفسير لا يعني قول القائل (حسبنا كتاب الله) المجمع على بطلانه من عامة المسلمين لاهتمامهم بالسنة مثل إهتمامهم بالقرآن, وإنما يعني أن مشاكل القرآن ومبهماته ترتفع من ذلك الجانب.

وأما أنه كافٍ لرفع جميع المبهمات في مجملات الآيات ومطلقاتها, فلا شك أن المجملات كالصلاة والزكاة يبين بالسّنّة والعمومات تُخصص بها, والمطلقات تُقيد بالإخبار إلى غير ذلك من موارد الحاجة إلى السّنّة.

هذا بعض الكلام في هذا المنهج الذي حظي بالإهتمام في هذا العصر, فقد اتبعنا هذا المنهج في تفسيرنا للذّكر الحكيم فخرج فيه باللغة العربية أجزاء خمسة بأسم (مفاهيم القرآن) وباللغة الفارسية أجزاء ستة , وأنتشر باسم (منشور جاويد) ولا ننكر أن هذا العبء الثقيل يحتاج إلى لجنة تحضيرية أولاً وتحريرية ثانياً وإشراف من الأساتذة ثالثاً رزقنا الله تحقيق هذه الأمنية.

إن تفسير أبن كثير يستمد من هذا النمط أي تفسير الآيات بالآيات بين الحين والآخر كما أن الشيخ محمد عبده في تفسيره الذي حُرر بقلم تلميذه اتبع هذا المنهج في بعض الأحايين.

والأكمل من التفسيرين في اتباع هذا المنهج هو تفسير السيد العلاّمة الطباطبائي فقد بنى تفسيره على تفسير الآية بالآية.

غير أن هذه التفاسير الثلاثة كما عرفت كتبت على نحو التفسير التجزيئي أي تفسير القرآن بسورة بعد سورة لا على نحو التفسير حسب الموضوعات.

وعلى كل تقدير فتفسير القرآن بالقرآن يتحقق على النمط الموضوعي كما يتحقق على النمط التجزيئي غير أن الأكمل هو إقتفاء النمط الأول.

2- التفسير البياني للقرأن

هذا المنهج الذي ابتكره حسب ما تدعيه الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) (أستاذها أمين الخولي) عبارة عن استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته, وعرض الظاهرة الأسلوبية على كل نظائرها, في الكتاب المحكم وتدبر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في المصحف كله إلتماساً لسره البياني.

وحاصل هذا المنهج يدور على ضوابط وهي:

أ - التناول الموضوعي لما يراد فهمه من القرآن ويبدأ بجمع كل ما في الكتاب المحكم من سور وآيات الدروس.

ب - ترتب الآيات فيه حسب نزولها لمعرفة ظروف الزمان والمكان كما يُستأنس بالمرويات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية دون أن يفوت المفسر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية.

ج - في فهم دلالات الألفاظ يقدر أن العربية هي لغة القرآن فتلتمس الدلالة اللغوية الأصلية التي تعطينا حس العربية للمادة في مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية , ثم يخلص للمح الدلالة القرآنية بجمع كل ما في القرآن من صيغ اللفظ, وتدبر سياقها الخاص في الآية والسورة وسياقها العام في القرآن كله.

د- وفي فهم أسرار التعبير يحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين ما يحتمله نصاً وروحاً ويعرض عليه أقوال المفسرين فيقبل منها ما يقبله النص.

هذا هو خلاصة هذا المنهج الذي ابتكره (الأستاذ الخولي) واقتفت أثره تلميذته وقرينته (بنت الشاطئ) فخرج من هذا المنهج كتاب باسم (التفسير البياني للقرآن الكريم) في جزئين تناول تفسير السور التالية في الجزء الأول: الضحى, الإنشراح الزلزلة , النازعات, العاديات , البلد , التكاثر كما تناول في الجزء الثاني تفسير السور التالية: العلق , القلم, العصر, الليل , الهمزة , الماعون.

ولاشك أنه نمط بديع بين التفاسير إذ لا يماثل شيئاً مما أُلف في القرون الماضية من زمن الطبري إلى العصر الأخير الذي عُرف فيه تفسير الإمام (عبده) وتفسير (المراغي) فهذا النمط لا يشابه التفاسير السابقة غير أنه لون من التفسير الموضوعي أولاً, وتفسير القرآن بالقرآن ثانياً, والنقطة البارزة في هذا النمط هو استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده في الكتاب.

وبعبارة أخرى يهتم المفسر في فهم لغة القرآن بالتتبع في جميع صيغ هذا اللفظ الواردة في القرآن الكريم ثم يخرج من ضم بعض إلى بعض بحقيقة المعنى اللغوي الأصيل وهو لا يترك هذا العمل حتى في أوضح الألفاظ.

فمثلاً يتتبع في تفسير قوله سبحانه ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ كل آية ورد فيها مادة (الشرح) بصورها أو كل آية ورد فيها مادة (الصدر) بصيغه المختلفة وهكذا في كل كلمة حتى وإن كان واضحاً معناه عندنا, لكنه لا يعتني بهذا الوضوح بل يرجع إلى نفس القرآن ثم يطبق عليه سائر الضوابط من تدبر سياق الآية وسياق السورة وسياق الآية العام في القرآن كله.

والذي يؤخذ على هذا النوع من التفسير أنه أمر بديع قابل للاعتماد, غير أنه لا يكفي في تفسير الآيات الفقهية بلا مراجعة السنّة لأنها عموميات فيها مخصصها أو مطلقات فيها مقيدها أو مجملات فيها مبيّنها, ورغم ذلك فإن هذا النمط من التفسير يغني عن كثير من الأبحاث اللغوية التي طرحها المفسرون لأن المفسر في هذا النمط يريد أن يستخرج معنى اللفظ من التدبر في النص القرآني.أما معاجم العربية وكتب التفسير فتعينه في بداية الأمر.

وما ورد في روايات أهل البيت في مواضع يشبه بهذا النوع من النمط وهو الدقة في خصوصيات الآية وجملها ومفرداتها وإليك نماذج.

1- روي الصّدوق بإسناده عن زُرارة قال: قلت لأبي جعفر ألا تخبرني من أين علمت وقلت أن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين, فضحك فقال: يا زرارة قاله رسول الله (ص) ونزل به الكتاب من الله عز وجل لأن الله عز وجل قال ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يُغسل ثم قال ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ فعرفنا انه ينبغي لهما أن يُغسلا إلى المرفقين, ثم فصل بين الكلامين فقال ﴿وامسحوا بروؤسكم﴾ فعرفنا حين قال ﴿بروؤسكم﴾ أن المسح ببعض الرأس لمكان (الباء) ثم وصل الرجلين بالرأس, فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضها, ثم فسّر ذلك رسول الله (ص) للناس فضيّعوه(5).

2- روي الكليني بسند صحيح عن حماد بن عيسى عن أبي عبدالله أنه سئل عن التيمم فتلا هذه الآية ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا﴾وقال ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ قال فامسح على كفيك من حيث موضع القطع(6).

فقد استظهر الإمام في التيمم كفاية المسح على الكفين بحجة أنه أطلق الأيدي في آية السرقة والتيمم وقال ﴿فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه﴾ فعلم أن القطع والتيمم ليس من المرفقين.

3- سأل أبو بصير أحد الصادقين (ع) هل كانت صلاة النبي إلى بيت المقدس بأمر الله سبحانه أولاً؟قال: نعم.ألا ترى أن الله تعالى يقول ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾(7).

3- تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية

ففي هذا المنهج يهتم المفسر إهتماماً شديداً بالقراءة حتى يقف على الصحيح منها لأنه ينبعث عن تحريف اللفظ القرآني المنزل ومن ثم تحريف المعنى.

فالحرص على سلامة النطق حرص على سلامة معنى النص القرآني وصيانته من شبهة أو تحريف.

والاهتمام بالقراءة يستدعي منطقياً الاهتمام بالصنعة النحوية في النص القرآني إذ إن هذا الاهتمام بضبط أواخر الكلمات إنما يقصد أساساً إلى المعنى, فعلى المعنى يدور ضبط الكلمة وإعرابها فالفاعل يُرفع والمفعول به يُنصب وما فيه سبب من أسباب الجر يُجر.

فالتفات النحويين إلى إعراب القرآن كان إلتفاتاً طبيعياً لأن الغاية من وضع النحو هي خدمة معنى القرآن وتحليته, ففي ضوء القراءة ثم ضبط الإعراب القرآني يتضح مفاد الآية في هذا الإطار الخاص, مضافاً إلى تحقيق مفردات الآية لغوياً وتوضيح معانيها الأصلية.

وعلى هذا النمط تجد التفاسير الآتية:

1- (معاني القرآن) تأليف أبي زكريا يحيى بن زياد الفراء (م207) ففسر مشكل إعراب القرآن ومعانيه على هذا المنهج وقد طبع الكتاب في جزئين حققهما محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي, ويبدو من ديباجة الكتاب ان الفراء اخذ في التأليف سنة 204.

والكتاب قيّم في نوعه وإن كان غير وافٍ لعامة مقاصد القرآن الكريم.

2- (مجاز القرآن) لأبي عُبيدة معمر بن المثنى (م213) وقيل غير ذلك.

يقول في مقدمة الكتاب (قالوا إنما أنزل القرآن بلسان عربي ومصداق ذلك في آية من القرآن وفي آية أخرى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عرب الألسن فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه. وعمّا فيه مما في كلام العرب من وجوه الإعراب, ومن الغريب والمعاني).

وهذا يعرب عن انه كان معتقداً بأن الإطاحة باللغة العربية كافية في إخراج معاني القرآن وهو كما ترى.

نعم القرآن نمط من التعبير العربي لكن ليس كل تعبير عربي غنياً عن البيان خصوصاً في مجال التشريع والتقنين الذي نرى تفصيله في السنة.

ويظهر من سبر كتاب مجاز القرآن أنه لا يقصد من المجاز ما يقابل الحقيقة بل يريد ما يتوقف فهم الآية على تقدير محذوف , وما شابه ذلك, وهو على غرار (مجازات القرآن) للشريف الرضي رضوان الله عليه, ولكن الشريف خصص كتابه بالمجاز بشكله المصطلح مثلاً يقول أبو عبيدة: ومن المحتمل من مجاز ما اختصروا فيه مضمر.قال (وانطلق الملأ منهم: أن أمشوا واصبروا) , فهذا مختصر فيه ضمير مجازه: وانطلق الملأ منهم ثم اختصر إلى فعلهم وأضمر فيه: وتواصوا أنه أمشوا.أو تنادوا أن امشوا أو نحو ذلك.

وفي آية أخرى (ماذا أراد الله بهذا مثلاً) فهذا من قول الكفار ثم أختصر إلى قول الله وأضمر فيه: قل يا محمد.نضل به كثيراً, وهذا من كلام الله.

وقد طبع الكتاب وانتشر.

3- (معاني القرآن) لأبي إسحاق الزّجّاج (م311) يحدد (ابن النديم) تاريخ تأليف هذا الكتاب في نصه: قرأت على ظهر كتاب المعاني: إبتدأ أبو إسحاق إملاء كتابه الموسوم بمعاني القرآن في صفر سنة 285 وأتمه في شهر ربيع الأول سنة301.

والكتاب بعد مخطوط ومنه نسخ متفرقة في المكتبات.

4- (تلخيص البيان في مجازات القرآن):

تأليف الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين (ت359,م406).

يقول في أوله: أن بعض الأخوان جاراني وذكر ما يشتمل عليه القرآن من عجائب الإستعارات وغرائب المجازات التي هي أحسن من الحقائق معرضاً, وأنفع للعلة معنىً ولفظاً وإن اللفظة التي وقعت مستعارة لو أوقعت في موقعها لفظة الحقيقة لكان موضعها نابياً بها, ونصابها قلقاً بمركبها, إذ كان الحكيم سبحانه لم يورد ألفاظ المجازات لضيق العبارة عليه, ولكن لأنها أجلى في أسماع السامعين وأشبه بلغة المخاطبين وسألني أن اُجرد جميع ما في القرآن في ذلك على ترتيب السور ليكون اجتماعه أجلّ موقعاً وأعم نفعاً وليكون في ذلك أيضاً فائدة أخرى.

(إلى أن قال) وقد كنت أوردت في كتابي الكبير الموسوم ب (حقائق التأويل في متشابه التنزيل) طرفاً كثيراً من هذا الجنس أطلت الكلام والتنبيه على غوامض العجائب التي فيه من غير استقصاء(8).

وبهذا البيان أمتاز هذا التأليف عما ألفه أبو عبيدة وأسماه (بمجاز القرآن).

فالشريف يروم من المجاز القسم المصطلح ولكن أبا عبيدة يروم الكلام الخارج على غير النمط العادي من حذف وتقدير وتأخير وإضمار وغير ذلك.

4- تفسير القرآن بالأثر عن النبي والأئمة:

ومن التفسير المنقول هو تفسير القرآن بما أثرعن النبي والأئمة المعصومين أو الصحابة والتابعين وقد ظهر هذا النوع من النهج بعد رحلة النبي ومن المعروفين في سلوك هذا المنهج بعد عهد الرسالة (عبدالله بن عباس) وهو القائل ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب(9) وحسبك هذه الشهادة من ترجمان القرآن.

نعم روي عن النبي (ص) أنه دعا له بالفقه والحكمة وتأويل القرآن(10) ولكن للتردد في صحة ذلك الحديث مجال لأن عبدالله بن عباس ولد في عام الهجرة فكان عند رحلة النبي (ص) صبياً لا يتجاوز عمره عن عشرة أعوام.

وقد ذاع هذا المنهج من القرن الأول إلى إعصارنا هذه فظهر بين المفسرين من يكتفون في التفسير بالأثر المروي ولا يتجاوزون عنه حتى أن بعض المفسرين لا يذكر الآية التي لا يجد حولها أثراً من النبي والأئمة كما هو ديدن تفسير (البرهان) للسيد البحراني.ولنأت بأشهر التفاسير الحديثية بين الفريقين.

فأشهر المصنفات على هذا النمط عند أهل السنة عبارة عن تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: 224, م301) وهذا الكتاب أوسع ما ألف في هذا المجال ومن مزايا هذا التفسير ذكر الروايات مسندة أو موقوفة على الصحابة والتابعين وقد سَهّل بذلك طريق التحقيق والتثبت منها ومما فيها من الإسرائيليات والمسيحيات ما لا يحصى كثرة.

2- ويليه في التبسط تفسير الثعلبي (م427) باسم (الكشف والبيان) وهو تفسير مخطوط ونسخه قليلة عسى أن يقيّض الله رجال التحقيق لإخراجه إلى عالم النور ومؤلفه من المعترفين بفضائل أهل البيت فقد روي نزول كثير من الآيات في حق العترة الطاهرة وينقل عنه كثيراً لسيد البحراني في كتبه مثل (غاية المرام) و(تفسير البرهان).

3- تفسير (الدّرّ المنثور) تأليف السيوطي (م911) نقل فيه ما رواه الطبري في تفسيره مضافاً إلى ما وقف عليه شخصياً وغيره ويبدو من كتابه (الإتقان) أنه جعله مقدمة لذلك التفسير وقد ذكر في خاتمة الإتقان نبذة من التفسير بالمأثور المرفوع إلى النبي (ص) من أول الفاتحة إلى سورة الناس.

هذه مشاهير التفاسير الحديثية عند أهل السنة, إكتفينا بذلك هذا ما لدى أهل السنة.

وأما التفسير بالمأثور عند الشيعة فأشهرها ما يلي:

1- تفسير محمد بن مسعود العياشي المعاصر للكليني الذي توفي عام 329هجرية وقد طبع في جزئين غير أن ناسخ الكتاب في القرون السابقة جنى على الكتاب جناية علمية لا تغتفر حيث اسقط الأسانيد وأتى بالمتون, وبذلك سدّ على المحققين باب التحقيق.

2- تفسير علي بن إبراهيم القمي الذي كان حياً عام 307 وتفسيره هذا مطبوع قديماً وحديثاً غير أن التفسير ليس لعلي بن إبراهيم القمي وحده وإنما هو تفسير ممزوج من تفسيرين فهو ملفّق مما أملاه علي بن إبراهيم على تلميذه أبي الفضل العباس وما رواه تلميذه بسنده الخاص عن أبي الجارود عن الإمام الباقر (ع).

وقد أوضحنا حاله في أبحاثنا الرجالية(11).

3- وقد أُلف أواخر القرن الحادي عشر تفسيران بالمنهج المذكور هما: البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني المتوفي (1107) ونور الثقلين للشيخ عبد علي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر والإستفادة من التفسير بالمأثور يتوقف على تحقيق إسناد الروايات لتطرق الإسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات المروية من مسلمة أهل الكتاب إليها.

وهناك كلمة قيّمة (لأبن خلدون) يقول: (إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأميّة وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود, فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سلام وأمثالهم.فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم وتُلقيت بالقبول وتساهل المفسرون في نقل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات, وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو مما كانوا يفترون)(12).

ولأجل ذلك ترى أن ما أتى به الطبري في تفسيره حول قصة آدم وحواء تطابق ما جاء في التوراة.

والعجب ان كتب التفسير مملوءة من أقاويل هؤلاء (أي مسلمة أهل الكتاب) ومن أخذ عنهم من المسلمين أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء والضّحّاك.

فهؤلاء مضافاً إلى ما ورد فيهم من الجرح والطعن في كتب الرجال المعتبرة عن أهل السنة كانوا يأخذون ما أثر عنهم من التفاسير من اليهود والنصارى)(13).

وأما ما يتراءى من نقل أقوالهم في تفاسير الشيعة كالتبيان لشيخ الطائفة الطوسي ومجمع البيان للشيخ الطبرسي فعذرهم في نقل أقوالهم هو رواجها في تلك العصور والأزمنة بحيث كان تجاهلها يعد نقصاً في التفسير ويوجب عدم الاعتناء به.

وعلى كل تقدير فالتفسير بالمأثور يتوقف على توفر شرائط الحجية فيه إلا إذا كان الخبر ناظراً إلى بيان كيفية الإستفادة من الآية, ومرشداً إلى القرائن الموجودة فيها, فعندئذ تلاحظ كيفية الإستفادة فعلى فرض صحة الاستنتاج يؤخذ بالنتيجة وإن كان الخبر غير واجد للشرائط.

وأما إذا كان التفسير مبنياً على التعبد فلا يؤخذ به إلا عند توفر الشرائط.

هذه هي المناهج التفسيرية على وجه الاقتصار قد عرفت المقبول والمردود منها غير ان المنهج الكامل عبارة عن المنهج الذي يعتمد على كل المناهج الصحيحة فيعتمد في تفسير القرآن على العقل القطعي الذي هو كالقرينة المنفصلة كما يفسر القرآن بعضه ببعض, ويرفع إبهام الآية بأختها ويستفيد من الأثر الصحيح الذي يكون حجة بينه وبين ربه إلى غير ذلك من المناهج المرضيّة التي مرّ بيانها.


1- نهج البلاغة /الخطبة 129.

2- الوسائل/ج55 /الباب 22 ,من ابواب صلاة المسافر/الحديث 2.

3- نور الثقلين/ج5/ص 14,الدّرّ المنثور للسيوطي/ج5/ص؟.

4- الوسائل ج /1/الباب 23 من ابواب الوضوء الحديث 1.

5- الوسائل /ج2/الباب 13 من ابواب التيمم الحديث 2.

6- الوسائل /ج3/الباب 2 من ابواب القبلة الحديث 2.

7- تلخيص البيان /مقدمة المؤلف /ص 1-2.

8- مناهل القرآن /ج1/ص 468.

9- تنقيح المقال/ج2 ص,وأسد الغابة/ج3/ص 193.

10- الكافي /الجزء 2/ص238.

11- نهج البلاغة/الخطبة 189.

12- مقدمة أبن خلدون /ص439.

13- لاحظ آلاء الرحمن 1/46.الملل والنحل 1/71-95.