تأويلات المتصوفة

من القسم الثاني أيضاً ما جاء به (ابن العربي) شيخ الصوفية في عصره, فقد قام بتأويل المفاهيم القرآنية على وجه لا دليل عليه فيقول إن جبرائيل هو العقل الفعّال, وميكائيل هو روح الفلك السادس, وأسرافيل هو روح الفلك الرابع, وعزرائيل هو روح الفلك السابع(1).

هذا وهو يفسر قوله سبحانه ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ﴾ ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾ بأن مرج البحرين هو بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأُجاج, وبحر الروح المجرد الذي هو العذب الفُرات, يلتقيان في الموجود الإنساني, وإن بين الهيولى الجسمانية والروح المجرد برزخ هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجردة ولطافتها ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها, ولكن مع ذلك لا يبغيان أي لا يتجاوز أحدهما حدّه فيغلب على الآخر بخاصيته فلا الروح المجردة تجرد البدن وتخرج به وتجعله من جنسه ولا البدن يجسد الروح ويجعله مادياً(2).

التأويل باسم التفسير العلمي

وهناك تفسير بالعقل باسم التفسير العلمي وقد نهجه كل من الشيخ (محمد عبده) , السيد أحمد خان (الهندي) و (الطنطاوي الجوهري) ونحن نكتفي هنا بنماذج من تفسير (المنار) الذي جمعه محمد رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده.

1- كتب الأستاذ في تفسير قوله سبحانه ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾(3) كتب مايلي: (إن السلف من المفسرين إلا من شذّ ذهب إلى أن معنى قوله كونوا قردة خاسئين أن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين).

وإنما نسب هذا المعنى إلى السلف لأنه يصطدم بالإتجاه المادي ولا يصدقه أنصار الحضارة المادية الذين ينكرون إمكان صيرورة إنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة, ولأجل ذلك مال الأستاذ إلى رأي (مجاهد) الذي قال ما مُسخت صورهم لكن مُسخت قلوبهم فمثّلوا بالقردة كما مثّلوا بالحمار في قوله تعالى (مثل الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً)(4) ثم أخذ في نقد قول الجمهور إلى أن قال فما قاله المجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة(5).

ولا يخفى أنه إذا صح هذا التأويل فيصح لكل منكر للمعاجز والكرامات وخوارق العادات هذا النمط من التأويل وعندئذ تبطل المعارف ويكون الكتاب العزيز لعبة بيد المحرّفين.

2- نقل صاحب (المنار) عن بعض المفسرين مذهباً خاصاً في معنى الملائكة وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكّلين بالأعمال من إنماء النبات وخلقة الحيوان وحفظ الإنسان وغير ذلك فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق عن ظاهر العبارة هو أن هذا النمو في النبات لم يكن لا بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة, وكذلك يقال في الحيوان والإنسان فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فأنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكاً ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة.

وقال الأستاذ (عبده) بعد نقل نظير هذه التأويلات ولو أن نفساً مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدّين ما يمنعها من ذلك والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس على ما أبصرت من الحق(6).

ولا يخفى أن هذا التأويل لو صح في بعض الأحاديث لما صح في الملائكة الواردة في قصة آدم وغيرها, وما هذا التأويل إلا للخضوع للإتجاه المادي الذي كان يسيطر على مصر وأطرافه يوم ذاك.

ولنكتف بهذه النماذج من التفسير بالعقل غير المرضي, والمراد بالعقل ما يقابل التفسير بالنقل سواء أعتمد على العقل الفلسفي أو على الأصول العلمية الحديثة أو غير ذلك, إن التفسير بالعقل وإن صح ببعض صوره لكنه غير وافٍ في إيقاف الإنسان على حقائق الكتاب العزيز ولا غنى لمن يستند بالعقل عن الاستناد إلى النقل أيضاً.


1- تفسير إبن العربي ج/2 /ص 280.

2- البقرة/65-66.

3- الجمعة/5.

4- تفسير المنار /ج1/ص1343 إلى 1354.

5- المنار/ج 1.

6- سنن الترمذي /أبواب التفسير /ج2/ص 157.