إمتناع رؤية الله أو إمكانها

ذهبت الأشاعرة إلى جواز رؤيته سبحانه يوم القيامة وهذا هو الأصل البارز في مدرستهم الكلامية, ثم أن هناك آيات تدل بصراحتها على امتناع رؤيته, فحاولوا إخضاع الآيات لنظريتهم وإليك نموذجاً واحداً.يقول سبحانه ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾(1).

ومن المعلوم أن الإدراك مفهوم عام لا يتعين في البصري أو السمعي أو العقلي إلا بالإضافة إلى الحاسة التي يراد الإدراك بها.فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين, والإدراك بالسمع يراد منه السماع, هذا هو ظاهر الآية.

ولما حاول الرازي تفسير الآية رأى أن ظاهرها صريحها لا يوافق أصله الكلامي فقال: إن أصحابنا الأشاعرة إحتجوا بهذه الآية على أنه يجوز رؤيته والمؤمنون يرونه في الآخرة وذلك بوجوه:

1- إن الآية في مقام المدح, فلو لم يكن جائزاً الرؤية لما حصل التمدح بقوله (لا تدركه الأبصار ألا ترى ان المعدوم لا تصح رؤيته والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا يمدح شيء منها في كونها لا تدركه الأبصار فثبت أن قوله لا تدركه الأبصار يفيد المدح ولا يصح إلا إذا صحت الرؤية).

يلاحظ عليه: أن الرازي توغل في مدرسته وغفل عن أن المدح ليس بالجزء الأول فقط وهو لا تدركه الأبصار بل بمجموع الجزئين المذكورين في الآية كأنه سبحانه يقول: الله جلت عظمته يدرك أبصارهم ولكن لا تدركه أبصارهم بالمدح بمجموع القضيتين لا بالقضية الأولى.

2- إن لفظ (الأبصار) صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الإستغراق بمعنى أنه لا تدركه جميع الأبصار وهذا لا ينافي أن تدركه بعض الأبصار.

يلاحظ عليه أن الآية تفيد عموم السلب لا سلب العموم بقرينة كونه في مقام مدح نفسه كأنه سبحانه يقول: لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ولكنه تعالى يدركهم وهذا نظير قوله سبحانه ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾(2) وقوله ﴿اللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾(3).

إلى ذلك من الوجوه الواهية التي ما ساقه إلى ذكرها إلا ليُخضع الآية إلى معتقده, وبهذا القدر نكتفي بالكلام عن القسم الأول.

القسم الثاني: تأويلات الباطنية المتصوفة:

إن الباطنية وضعوا لتفسير المفاهيم الإسلامية ضابطة ما دلّ عليها من الشرع شيء وهو أن للقرآن ظاهراً وباطناً والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر وأن باطنه يؤدي إلى ترك العمل بظاهره, واستدلوا على ذلك بقوله سبحانه ﴿فضرب بينهم بسور له باب باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب﴾(4).

فإذا كانت تلك الضابطة في فهم الشريعة والعمل بالقرآن صحيحة إذن أصبحت الشريعة غرضاً لكل نابل وفريسة لكل آكل, فلا يبقى منها شيء. وفي هذه الحالة يدّ عي كل مؤول أن الحق معه, وأن المراد ما اختاره من التأويل على الرغم من اختلاف تأويلاتهم.

أنظر ما يقولون حول المفاهيم الإسلامية وأنهم كيف يتلاعبون بها, فالصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول لقوله سبحانه ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾ والغسل عبارة عن تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرار الباطنية من غير قصد, والاحتلام عبارة عن إفشائه والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدّين, والجنة راحة الأبدان من التكاليف ومشقتها بمزاولتها(5).

فإذا كان ما ذكره حقيقة الدين والتكاليف فلم يبق بين الديانة والإلحاد حدّ فاصل.هذه نماذج من تأويلات الباطنية أقتصرنا بهذا المقدار.


1- غافر/35.

2- لقمان/18.

3- الفرق بين الفرق/ص18.

4- المواقف/ج8/ص 390.

5- تفسير إبن العربي /ج1/ص 150.