أنواع المناهج التفسيرية

إذا ميزت الفرق بين البحثين فنقول إن التقسيم الدارج في تبيين المناهج هو ما ذكره المحقق الكاشاني في ذلك المجال وهو أن المفسر إما أن يعتمد في رفع الستر عن وجه الآية على الدليل العقلي أو على الدليل النقلي.

ونحن أيضاً نقتفي في هذا البحث أثر هذا التقسيم ونقول:

المنهج الأول: التفسير بالعقل

وله صورتان:

الصورة الأولى:

تحليل الآيات الواردة في المعارف على ضوء الأحكام العقلية القطعية الثابتة لدى (العدليّة) كالتحسين والتقبيح العقليين والثمرات المترتبة عليها, من لزوم بعث الأنبياء وحُسن التكليف, وقبح العقاب بلا بيان ولزوم إعداد المقدمات لايصال الإنسان إلى الغاية التي خُلق لها, وحُسن العدل وقبح الظلم إلى غير ذلك من الأحكام العقلية الثابتة لدى عقلاء العالم, والكل يستمد من الأصل المعين, أعني أصل التحسين والتقبيح العقليين.

وفي هذا القسم من التفسير لا يهتم المفسر باخضاع الآيات لمنهج عقلي كلامي خاص وإنما هو من قبيل الاستضاءة بهذه الأصول الثابتة في تحليل الآيات.

فلو وقف المفسر على آيات يتبادر من ظهورها الابتدائي الجبر فإنه يحاول أن يتفحص في القرآن ليجد ما يفسر هذه الآية على وجه يكون موافقاً لهذا الأصل المسلّم عند العقل فتكون هذه الاصول هي المحركة للمفسر على الفحص البالغ في متون الآيات والقرائن المنفصلة عنها حتى يتبين الحق.وهذا بخلاف القسم الآخر فإنه أشبه بالتفسير بالرأي ومن حاول أن يسمي هذا النوع من التفسير تفسيراً بالرأي فقد أخطأ خطاً كبيراً لأن المفسر إنما يقوم بتفسير كلام الله بعد الاعتقاد بوجود الصانع وصفاته وأفعاله وأنبيائه ورسله وكتبه وزبره وهذه المعارف تعرف بالعقل الذي يستقل بالأحكام الماضية ولا فرق عند العقل بين الاستدلال على وجود الصانع عن طريق النظام السائد في العالم والحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولزوم الوفاء بالعهد وقبح مقابلة الإحسان بالظلم إلى غير ذلك من الأحكام العقلية المستقلة العالمية التي يعترف بها جميع عقلاء العالم إلا قسماً من الأشاعرة الذين ينكرونها في اللسان ويؤمنون بها في القلب.

أ: هل التفسير الإشاري من قبيل التفسير بالرأي؟

هناك منهج آخر اصطلحوا عليه بالتفسير الإشاري أو التفسير الفيضي وعرّفوه بأن نصوص القرآن محمولة على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة(1).

الحاصل أنه ما يظهر من الآيات بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة.

وعلى ضوء هذا فإن القائل بالتفسير الإشاري لا ينكر كون الظاهر مراداً ولكن يقول بأن في هذه الظواهر إشارات إلى معاني خفية يفهمها عدة من أرباب السلوك وأولوا العقل والنهى وبذاك يمتاز عن تفسير الباطنية (فإنهم يرفضون كون الظواهر المرادة ويأخذون بالبواطن).

ويستدل البعض بما ورد عن النبي الأكرم من أن (للقرآن ظهراً وبطناً, وظاهره حكم وباطنه علم, وظاهره أنيق وباطنه عميق)(2).

وربما يؤيد ذلك أيضاً قوله سبحانه ﴿فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً﴾(3).

وقوله تعالى ﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافاً كثيراً﴾(4).

وقوله تعالى ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(5).

فهذه الآيات تشير إلى أن القرآن له ظهر وبطن وذلك لأن الله سبحانه حيث ينعت الكافرين بأنهم لا يكادون يفقهون حديثاً, لا يريد بذلك أنهم لا يفقهوا نفس الكلام لأن القوم كانوا عرباً والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره بلا شك وإنما أراد بذلك أنهم لا يفهموا مُراده من الخطاب فحضهم على أن يتدبروا في آياته حتى يقفوا على مقصود الله ومراده وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم(6).

ولا يخفى أن الاستدلال بهذه الآيات غير تام جداً فإنها تدعو إلى التدبر في نفس المفاهيم المستفادة من ظاهر الآيات, وكون القرآن عربياً والقوم عرباً لا يكفي في فهم القرآن الكريم من دون التدبر والإمعان فهل يكفي كون القوم عرباً في فهم مغزى قوله سبحانه ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(7).

أو يكفي في فهم قوله سبحانه ﴿وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون﴾(8) أو فهم قوله تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(9).

فالدعوة إلى التدبر لا تدل على أن للقرآن وراء ما تفيده ظواهره بطناً , أضف إلى ذلك أنه يمكن أن يكون الأمر بالتدبر لغاية تطبيق العمل على ما يفهمونه من القرآن فربّ ناصح يدلي بكلام فيه نصيحة للأهل والولد ولكنهم إذا لم يطبقوا عملهم على قول ناصحهم يعود الناصح إليهم, ويقول لماذا لا تتدبرون كلامي؟ لماذا لا تعقلون؟ مشعراً بذلك أنكم ما وصلتم إلى ما أدعوكم إليه وإلا لتركتم أعمالكم القبيحة وصرتم عاملين بما أدعو إليه.

وأما ما روي عن النبي الأكرم (ص) بأن للقرآن بطناً وظهراً فالحديث فيه ذو شجون وحاصله أنه يحتمل وجوهاً على وجه مانعة الخلو.

1- المقصود من البطن هو أن ما ورد في القرآن حول الأقوام والأمم من القصص وما أصابهم من النعم والنقم لا ينحصر في أولئك الأقوام بل هؤلاء مظاهر لكلامه سبحانه وهو يعم غيرهم ممن يأتون في الأجيال القادمة فقوله سبحانه (ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون)(10).

وإن كان وارداً في قوم خاصة لكنها قاعدة كلية مضروبة على الأمم جمعاء.

2- المراد من بطن القرآن هو الاهتداء إلى المصاديق الخفية التي يحتاج الوصول إليها إلى التدبر أو تنصيص من الإمام, ولأجل ذلك نرى أن علياً (ع) يقول في تفسير قوله سبحانه ﴿وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾(11).أنه ما قوتل أهلها منذ نزلت حتى اليوم وفي رواية قال علي (ع): (عذرني الله من طلحة والزبير بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثتُهُ) ثم تلا هذه الآية(12).

3- هناك إحتمال ثالث للبطن وهو حمل الآية على مراتب في مفهومها وسعة معناها واختلاف الناس في الاستفادة منها حسب استعداداتهم وقابلياتهم لاحظ قوله سبحانه ﴿أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار إبتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الأمثال﴾(13).

من التفسير والكل يستفيد منها حسب قابليته يستمد من الظاهر ونظيره آية النور(14) فقد خاض المفسرون في تفسير الآية وتطبيقها على موارد مختلفة وكلّ استفاد من نورها حسب مؤهلاته وكفاءاته.

وحاصل القول في التفسير الإشاري إنما يفهمه المفسر من المعاني الدقيقة أن كان لها صلة بالظاهر فهو مقبول سواء سمي تفسيراً على حسب الظاهر أو تفسيراً إشارياً , وعلى كل تقدير فالمفسر على حجة من ربه في حمل الآية على ما أدركه, وأما إذا كان مقطوع الصلة عن الظاهر المتبادر إلى الأذهان فلا يصح له حمل القرآن عليه إلا إذا حصل له القطع بأنه المراد وعندئذ يكون القطع حجة له وإن كان مخالفاً للواقع.

ولإيضاح الحال نأتي بأمثلة:

يخاطب سبحانه أُم المسيح بقوله ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾(15) فلو قال أحد أنه سبحانه هيأ مقدمات الولادة ومؤخراتها لأم المسيح حتى الرطب في غير فصله من الشجرة اليابسة ومع ذلك أمرها بأن تهز بجذع النخلة مع أن في وسع المولى سبحانه أن يرزقها الرطب بلا حاجة إلى الهز فما هذا إلا لتفهيم مريم أنها مسؤولة في حياتها عن معاشها وأنه سبحانه لو هيأ كل المقدمات فلا تغني عن سعيها وحركتها ولو بالهز بجذع النخلة.

وروي أنه بعدما نزل قوله سبحانه ﴿اليوم أكملت لكم ينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ فرح الصحابة وبكى بعضهم فقال: الآية تنعي إلينا برحلة النبي(16) والنماذج الواضحة لهذا النوع من التفسير الإشاري ما يذكره المفسرون حول الآيتين: آية الرعد وآية النور ترى أن المعاني المذكورة في كتب التفاسير تختلف وضوحاً وخفاءً وبساطة وعلوّاً والكل يسند المعاني إلى اللفظ وبينها وبين لفظ الآية صلة ولعل الأمر بالتدبر في القرآن يعود أيضاً لهذا النوع من التفسير الذي لا يصل إليه المفسر إلا بعد الإمعان وهذا ما يقال فيه (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء).

نعم هناك تفاسير بأسم التفسير الإشاري لا يصح إسنادها إلى الله كتفسير ﴿الْمُ﴾ بأن الألف إشارة إلى الله واللام إلى جبرئيل والميم إلى محمد فإنه أشبه بالتفسير بالرأي إلا إذا كان هناك نص من المعصوم.

ولو صح هذا التفسير فيمكن تفسيره بوجوه كثيرة بأن يقال الألف إشارة إلى إلف الوحدانية واللام لام اللطف والميم إشارة إلى المُلك, فمعنى الكلمة مَنْ وحّدني تلطّفت له فجزيته بالمُلك الأعلى.وأسوأ من ذلك تفسير قوله سبحانه ﴿الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ بأن يقال الجار ذي القربى هو القلب والجار الجُنُب هو الطبيعة والصاحب بالجنب هو العقل المقتدى بالشريعة وابن السبيل هو الجوارح المطيعة لله.

فمثل هذا النوع من التفسير يلتحق بتفاسير الباطنية التي سوف نبحث عنها في المستقبل, وخلاصة الكلام أن ما يهتدي إليه المفسر بعد التفكر والتأمل في نفس الآية ومفرداتها وسياقها ويستظهر منه معنى أخلاقياً أو اجتماعياً أو سياسياً نافعاً بحال المجتمع إذا كان له صلة بالظاهر غير منقطع عنه فهو تفسير مقبول.

في غير هذه الصورة يكون مردوداً ولعل كون القرآن كتاب القرون والأجيال لا تنقضي عجائبه يلازم قبول هذا النوع من التفسير الإشاري, ولأجل ذلك لم يزل كتاب الله طرياً في غضون الأجيال لم يندرس ولم يطرأ عليه الإندراس بل هو طري ما دامت السماوات والأرض ولازم ذلك وجود معارف وحقائق في القرآن يهتدي إليها الإنسان بالتعمق في دلالاته اللفظية المطابقية والتضمنية والإلتزامية وإن كان السلف في العصور الماضية غافلين عن هذه المعاني, ولعله إلى ذلك يشير الصادق (ع) في جواب من سأله: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟بقوله (لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان , ولا لناس دون ناس وهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة)(17). وعموماً إن إيقاف هذا الباب في وجه المفسرين يوجب وقف الحركة العلمية في فهم الكتاب العزيز وبالتالي يكون القرآن كسائر الكتب محدود المعنى ومقصور المراد لا يحتاج إلى تداوم البحث وتضافره.

الصورة الثانية:

التفسير بالعقل أي بالرأي المسبق:

المراد من هذه الصورة هو إخضاع الآيات للعقائد التي اعتنقها المفسر في مدرسته الكلامية ونجد هذا اللون من التفسير بالعقل غالباً في تفاسير المعتزلة والأشاعرة والخوارج والباطنية فإن لهؤلاء عقائد خاصة في مجالات مختلفة زعموها حقائق راهنة على ضوء الاستدلال. وفي مجال التفسير حملوا الآيات على معتقدهم وإن كان ظاهر الآية يأباه ولا يتحمله غير أن هذا النمط من التفسير بالرأي والعقل يختلف حسب بعد المعنى عن مدلول الآية فربما يكون التأويل بعيداً عن الآية ولكن تتحملها الآية بتصرف يسير وربما يكون المعنى بعيداً عن الآية غاية البُعد بحيث لا تتحمله الآية حتى بالتصرف الكثير فضلاً عن اليسير, ونحن نأتي على كل واحد من القسمين بأمثلة:

القسم الأول تأويلات الكشاف:

عبارة عن التأويلات الموجودة في تفسير الكشّاف لعلاّمة المعتزلة والتأويلات التي ارتكبها الرازي علاّمة الأشاعرة في مجال العقائد وإليك البيان:

الشفاعة حطّ الذنوب أو رفع الدرجة إن الشفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وأنفرد بها بل كانت فكرة رائجة بين جميع أمم العالم من قبل, وخاصة بين الوثنين واليهود, صحيح أن الإسلام قد طرحها مهذبة من الخرافات وما نسج حولها من الأوهام. ومن يقف على آراء اليهود والوثنين في أمر الشفاعة يجد أن الشفاعة الدارجة بينهم كانت مبنية على رجائهم لشفاعة انبيائهمم وأوثانهم في حط الذنوب وغفران آثامهم ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ويرتكبون الذنوب تعويلاً على ذلك الرجاء فالآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها بشرائط خاصة كلها راجعة إلى الشفاعة بهذا المعنى فلو نفيت فالمنفي هو هذا المعنى ولو قبلت فالمقبول هو هذا المعنى.

إن الآيات الواردة في مجال الشفاعة على سبعة أنواع لا يصح تفسيرها إلا بتفسير بعضها ببعض وتمييز القسم المردود منها من المقبول.

ومع ذلك نرى أن المعتزلة يخصون آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العُصاة ويرتكبون التأويل في موردها وما هذا إلا للموقف الذي اتخذوه في حق العُصاة ومقترفي الذنوب في أبحاثهم الكلامية فقالوا بخلود أهل العصيان في النار إذا ماتوا بلا توبة.

قال القاضي عبد الجبار: إن شفاعة الفسّاق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا يتنزل منزلة الشافع لمن قتل ولد الغير وترصد للآخر حتى يقتله فكما أن ذلك يقبح, فكذلك هاهنا(18).

وما ذكره القاضي يعرب عن غفلته عن شروط الشفاعة فإن بعض الذنوب الكبيرة تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه كما تقطع الأوامر الروحية بالنبي الأكرم فأمثال هؤلاء العصاة محرومون من الشفاعة وقد وردت في الروايات الإسلامية شروط الشفاعة وحرمان طوائف منها.وعلى كل تقدير فما ذكره اجتهاد في مقابل نصوص الآيات واخضاع لها لمدرسته الفكرية.

يقول الزمخشري في تفسير قوله سبحانه ﴿وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة﴾ قال ﴿ولا خلةحتى يسامحكم اخلاّؤكم به وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لن تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات لأن الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غيره﴾(19).

وأنت خبير بأن الآية تريد نفي الشفاعة بالمعنى الدارج بين اليهود والوثنيين لأجل أنهم كفار وانقطاع صلتهم عن الله سبحانه ولأجل ذلك يثبته القرآن في حق غيرهم مع إذنه سبحانه, ويقول في الآية التالية ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ وأما ان حقيقة الشفاعة زيادة الفضل لا حط الذنوب فهو تحميل العقيدة على الآية فلو استدل القائل بها على نفي الشفاعة بتاتاً لكان أولى من استدلاله على نفي الشفاعة عن الكفار لأجل أن الشفاعة بمعنى زيادة الفضل لا حط الذنوب وهؤلاء لا يستحقون الثواب فضلاً عن زيادته.

ب: هل مرتكب الكبيرة يستحق المغفرة أو لا؟

إتفقت المعتزلة على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار إذا مات بلا توبة(20), وفي ضوء ذلك إلتجأوا إلى تأويل كثير من الآيات الظاهرة في خلافه نذكر منها آيتين:

الأولى يقول سبحانه ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(21).

فالآية ظاهرة في أن مغفرة الرب تشمل الناس في حال كونهم ظالمين ومن المعلوم أن الآية راجعة إلى غير صورة التوبة وإلا لا يصح توصيفهم, فلو أخذنا بظاهر الآية فهو يدل على عدم خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة لرجاء شمول مغفرة الرب له ولما كان ظاهر الآية مخالفاً للأصل الكلامي عند صاحب الكشّاف حاول تأويل الآية بقوله (وفيه أوجه):

1- أن يريد السيئات المكفّرة لمجتنب الكبائر.

2- أو الكبائر بشرط التوبة.

3- أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال)(22).

ومن الواضح أن كل واحد من الاحتمالات مخالف لظاهر الآية أو صريحها.

الثانية: لقوله سبحانه ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾(23).

والآية واردة في حق غير التائب لأن الشرك مغفور بالتوبة أيضاً فيعود معنى الآية أن الله سبحانه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن مات بلا توبة فتكون نتيجة ذلك عدم الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبائر في النار.

ولما كان مفاد الآية مخالفاً للمدرسة الكلامية للمعتزلة حاول صاحب الكشّاف تأويل الآية فقال: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين بقوله تعالى ﴿لِمَن يَشَاء﴾ كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب نظير قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء.. تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله(24).

ولا يخفى أن ما ذكره خلاف ظاهر الآية ساقته إليه مدرسته الكلامية فنزّل الأولى مورد عدم التوبة والثانية موردها حتى تتفق الآية ومعتقده, مع أنه لا دلالة في الآية على تقييد الثانية بالتوبة, لأنه تفكيك بين الجملتين بلا دليل بل هما ناظرتان إلى صورة واحدة وهي صورة عدم اقترانهما بالتوبة فلا يغفر الشرك لعظم الذنب وغفر ما دونه.


1- الكافي/ج2/ص238.

2- النساء/78.

3- النساء/82.

4- محمد/ص24.

5- التفسير والمفسرون ,نقلاً عن الموافقات/ج3 ص/382 383.

6- الحديد/3.

7- المؤمنون/91.

8- الأنبياء/22.

9- النحل /112 و113.

10- التوبة/12.

11- البرهان في تفسير القرآن /ج1/ص105.

12- الرعد/17.

13- سورة النور /35.

14- مريم/25.

15- تفسير الآلوسي ج6 /ص60.

16- البحار ج92/باب فضل القرآن/الحديث 8,نقلاً عن عيون أخبار الرضا عن أبيه موسى الكاظم(ع).

17- شرح الأصول الخمسة/ص 688.

18- الكشّاف ج 1/ص 291.في تفسير الآية رقم 254 من سورة البقرة.

19- لاحظ أوائل المقالات ص 14.وشرح الأصول الخكسة ص 659.

20- الرعد/6.

21- الكشّاف ج/2 ص 159.

22- النساء /48.

23- الكشّاف ج 1/ص 201, في تفسير الآية المذكورة.

24- الأنعام /102و103.