الذين يخاطبهم القرآن

من جملة المسائل التي يتطلب استنباطها من القرآن عند المعرفة التحليلية، تعيين وتحديد الذين يخاطبهم القرآن. لقد وردت في القرآن عبارات كثيرة مشابهة لعبارات، هدى للمتقين، هدى وبشرى للمؤمنين ولينذر من كان حياً. وهنا يمكن ان نسأل بان الهداية للمتقين غير ضرورية للمتقين لانهم متقون. من جهة أخرى نرى ان القرآن يعرف نفسه هكذا:

﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾(1).(سورة ص - الآية 87 و 88).

اذن فهل هذا الكتاب لجميع العالم أم انه للمؤمنين فقط؟ وفي آية أخرى يخاطب الباري سبحانه وتعالى، النبي قائلاً:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، (سورة الانبياء - الاية 107).

وسنعطي في موضوع (التاريخ في القرآن) توضيحاً مفصلاً عن هذه المسألة، لكن يلزم هنا القول بالاجمال ان القرآن عندما يخاطب جميع افراد العالم في آياته، يريد ان يقول انه ليس ملكاً لقوم او جماعة معينة. و من يتجه نحو القرآن يلاقي النجاة. اما في الآيات التي يصف القرآن نفسه فيها ككتاب هداية للمؤمنين والمتقين، يريد ان يقول من هم الذين سيتوجهون في النهاية نحو القرآن وما هي الفئات التي ستبتعد عنه. والقرآن لايتحدث عن قوم او قبيلة معينة بمثابة محبيه او مؤيديه. لايقول انه ملك لهؤلاء القوم أو أولئك، فالقرآن خلافاً لجميع الأفكار لايؤكد مطلقاً على مصالح طبقة خاصة، على سبيل المثال لايقول انه جاء لضمان مصالح الطبقة الفلانية فقط. وايضاً لايقول ان هدفه الوحيد يتمثل بالدفاع عن الطبقة العاملة او طبقة الفلاحين. وحول نفسه يؤكد بانه كتاب يرمي إلى اقامة العدل. وفيما يتعلق بالانبياء يقول:

﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، (سورة الحديد - الآية 25).

اِذن فالقرآن يريد القسط والعدل للمجتمع الانساني ككل وليس لهذه الطبقة او تلك اولأولئك القوم وتلك القبيلة. وهو خلافاً للأفكار الأخرى مثل النازية لايكسب الناس إلى جانبه من خلال تأكيده على تعصبات هؤلاء، وايضاً خلافاً لبعض الافكار الاخرى مثل الفكر الماركسي لايعتمد على مطامع الناس ولايحركهم عن طريق مصالحهم(2)، لانه مثلما يقيم اصالة لوجدان الانسان العقلي، يقيم له اصالة وجدانية وفطرية ايضاً. ويحرك الناس على اساس فطرة طلب الحق والعدل، ولهذا لاتختص رسالته بطبقة العمال أو الفلاحين او المحرومين والمستضعفين. القرآن يحث الظالم والمظلوم على الرجوع إلى طريق الحق والنبي موسى اوصل بدوره نداء الله إلى بني اسرائيل والى فرعون كذلك وطلب منهم ان يؤمنوا بالله ويسيروا في طريقه. اما النبي محمد فقد عرض رسالة الله على زعماء قريش وعلى ابي ذر وعمار ايضاً. ويورد القرآن نماذج متعددة من انتفاض الفرد على نفسه والعودة من طريق الضلالة والفساد (التوبة). وبالطبع يعلم القرآن ان عودة الذين يعيشون في نعيم ورخاء اصعب بدرجات من عودة المحرومين والمستضعفين.

الفئة الثانية، تسير في طريق العدالة استناداً إلى ضرورة الأمر، بينما الأولى يجب في بادئ الأمر ان تغض النظر عن المصالح الشخصية والطبقية وتدوس باقدامها، ميولها ورغباتها.

يقول القرآن ان المتمسكين به لهم ارواح طاهرة ونقية، وهؤلاء انفتحوا على القرآن انطلاقاً من فطرتهم في طلب الحقيقة والعدل التي هي فطرة كل انسان وليس بدافع من المصالح والميول المادية والدنيوية.


1- هذه الاية من أعجب آيات القرآن، عندما نزلت كان النبي في مكة يتحدث إلى اهالي احدى القرى. وكان من (الباعث على السخرية) ان يقول شخص باطمئنان؛ انكم ستسمعون بعد حين بنبأ الآية. ستسمعون ماذا سيفعل هذا الكتاب في العالم خلال فترة قصيرة.

2- ذلك ان الحق والعدل للمتمسكين في تلك الحالة سيكونان بلا هدف لان تحقق المصالح وارضاء الرغبات سيكونان هدفاً.