فهم لغة القرآن

المسألة الأخرى، مسألة فهم القرآن وتلاوته. يتصور البعض ان المقصود من تلاوة القرآن هو قراءة القرآن بهدف الحصول على الثواب من دون فهم أي شيء من معنى الآيات هؤلاء يختمون القرآن على الدوام اما اذا سُئِلوا عما اذا كانوا يفهمون ما يقرأونه فانهم يعجزون عن الاجابة. اِن قراءة القرآن لازمة وضرورية باعتبارها بداية لفهم معاني القرآن لا ان تأتي بهدف الحصول على الثواب.

وفهم معاني القرآن، هو الآخر له خصائصه حيث يتطلب اخذها بنظر الاعتبار. وعند مطالعة الكتب يحصل القارئ على سلسلة. من الأفكار الجديدة التي لم تكن موجودة في ذهنه ابداً. وهنا فان عقل وقوة تفكير القارئ هما فقط اللذان يقومان بالفعالية. وفيما يتعلق بالقرآن، يتوجب مطالعته بهدف التعلم والتعليم. يقول القرآن بهذا الصدد:

﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾، (سورة ص- الآية 29).

للقرآن وظائف من جملتها التعليم ومن هذه الناحية فان مُخاطب القرآن هو العقل حيث يتحدث معه بلغة المنطق والاستدلال. اضافة إلى هذه اللغة يملك القرآن لغة أخرى لايتحدث بها مع العقل بل مع القلب و تسمى هذه اللغة بالاحساس. ومن يريد أن يتعرف على القرآن ويستأنس به يجب ان يكون ملماً بهاتين اللغتين ويستفيد منهما في آن واحد لان فصلهما عن بعضهما يوقع الانسان بالخطأ ويضره.

ان ما نسميه عقلاً، عبارة عن احساس كبير وعميق يتواجد في داخل الانسان ويسمى احياناً ب(احساس الوجود) أي الاحساس بارتباط الانسان بالوجود المطلق.

ومن يعرف لغة القلب ويخاطب الانسان بها، يحركه من اعماق الوجود وفي ذلك الوقت لن يكون الفكر والعقل متأثرين فحسب بل ان جميع وجود الانسان سيكون متأثراً وعلى سبيل المثال ان جميع انواع الموسيقى لها عامل مشترك الا وهو الاحتكاك بعواطف الانسان، فالموسيقى تثير روح الانسان وتدخله في عالم خاص من الاحساس. وبالطبع يتباين نوع الاثارة والاحساس المتولدين، من موسيقى إلى اخرى مثلاً يحتمل ان يكون نوع من الموسيقى مرتبطاً باحساس الشجاعة والبسالة. اذن فهي تتحدث مع الانسان بهذه اللغة. انكم تلاحظون في ساحات الحرب انهم يعزفون الألحان والاناشيد العسكرية ففي بعض الأحيان يكون تأثير هذه الأناشيد او الألحان قوياً إلى درجة يشجع الجندي الذي لايخرج من موضعه خوفاً من العدو، ان يخرج من ذلك الموضع ويتقدم نحو العدو ليحاربه. اما النوع الآخر من الموسيقى فيحتمل ان يكون مختصاً بحس الشهوة ومثل هذه الموسيقى تأخذ بيد الانسان نحو الابتذال والسقوط والانحطاط ويلاحظ ان مثل هذا النوع من الموسيقى له تأثير كبير ويحتمل ان لايكون بمستطاع أي شيء آخر أن يؤثر بهذه الدرجة في تحطيم جدران الكرامة والاخلاق.

وفيما يتعلق بسائر الغرائز والاحاسيس ايضاً، يمكن عند التحدث بهذه اللغة بواسطة الموسيقى او بأية وسيلة أخرى، السيطرة عليها تماماً. ومن اروع غرائز واحاسيس الانسان، الحس الديني وفطرة الاتجاه إلى الله. والقرآن يهتم بهذا الحس العظيم والشريف(1).

القرآن يوصي بتلاوته بلحه لطيف وجميل وهو يتحدث مع فطرة الانسان الالهية بهذه النغمة السماوية(2) ثم انه يستعمل لغتين لوصف نفسه ففي بعض الأحيان يعتبر نفسه كتاب التفكير والمنطق والاستدلال وفي احيان أخرى كتاب الاحساس والحب، وبعبارة أخرى ان القرآن ليس غذاء العقل والفكر فحسب وانما غذاء الروح ايضاً.

يؤكد القرآن بدرجة كبيرة على موسيقيته الخاصة، تلك الموسيقي التي تؤثر اكثر من أية موسيقى أخرى في اثارة احاسيس الانسان العميقة والنبيلة، ويأمر المؤمنين ان يقضوا بعض الليل في تلاوة القرآن ويقرأوا القرآن في صلاتهم عند توجههم إلى الله. يقول القرآن مخاطباً النبي (ص):

﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾، (سورة المزمل - الآيات 1 ? 4).

والترتيل، يعني قراءة القرآن لكن ليس بسرعة بحيث لايتم فهم الكلمات، او ببطء، بحيث تنعدم الصلة بين العبارات. يقول إقرأوا القرآن بتأن مع فهم الآيات ويقول في الآيات اللاحقة:

﴿فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، (سورة المزمل - الآية 20).

لقد كانت موسيقى القرآن عند المسلمين، تحث على النشاط واكتساب القدرة الروحية والاخلاص والصفاء الباطني، وان نداء القرآن السماوي جعل في اقل مدة من اناس شبه الجزيرة العربية المتوحشين، مؤمنين صامدين استطاعوا ان يتحدوا اكبر قوى عصرهم ويقضوا عليها. وكان المسلمون لاينظرون إلى القرآن ككتاب دراسي وتعليمي فقط بل كغذاء روحي ومصدر لكسب القوة وازدياد الايمان. كانوا في الليل يقرأون القرآن باخلاص(3) ويبتهلون إلى الله، وكانوا في النهار يشنون مثل الاسود هجماتهم على العدو فالقرآن كان يتوقع هذا الشيء من المؤمنين، ويقول في آية مخاطباً النبي:

﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾، (سورة الفرقان - الآية 52).

وحياة النبي، مصداق لهذا الكلام. انه انتفض وحده من دون حماية ماسكاً القرآن بيده، لكن هذا القرآن اصبح كل شيء له، كان يُعدّ له الجنود والاسلحة والقوة ويجبر العدو ان يخضع ويستسلم له وكان كذلك يجر افراد العدو نحو النبي ويجبرهم على الاستسلام له، وبذلك كان يُنفذ وعود الله الصادقة.

عندما يصف القرآن لغته، بلغة القلب فهو يقصد بهذا الكلام، ذلك القلب الذي يعتزم صقله وتنقيته واثارته بآياته. هذه اللغة هي غير لغة الموسيقى التي تغذي الشهوات الانسانية احياناً وغير لغة الألحان العسكرية والأناشيد الحربية التي تعزف لتقوية روح البسالة بل هي تلك اللغة التي تصنع من الاعراب البدو، مجاهدين قيل في حقهم: حملوا بصائرهم على اسيافهم. هولاء كانوا لايفكرون بالمسائل الفردية والمصالح الشخصية. ومع انهم لم يكونوا معصومين ويقعون في الأخطاء، كانوا من جملة الذين يطلق عليهم الكلام التالي، (قائم الليل وصائم النهار). كانوا في جميع اللحظات على ارتباط مع الوجود حيث كانوا يؤدون الفرائض الدينية في الليل ويجاهدون في النهار(4).

ويؤكد القرآن على خاصيته هذه وهي انه كتاب القلب والروح، كتاب يثير الارواح ويبكي العيون ويرجّف القلوب. هذا الأمر ينطبق على اهل الكتاب ايضاً:

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾، (سورة القصص - الآية 52 ? 53).

ويؤكد ايضاً في آية أخرى ان بعض اهل الكتاب، أي المسيحيين هم أقرب إلى المسلمين من اليهود والمشركين(5). ثم يصف النصارى الذين يؤمنون حال سماعهم القرآن بقوله:

﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، (سورة المائدة - الآية 83).

وفي مكان آخر، هكذا يصف المؤمنين عندما يتحدث عنهم بالذات:

﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾، (سورة الزمر- الآية 23).

يبين القرآن في هذه الآيات الأخرى انه ليس كتاباً علميا وتحليليا فحسب بل انه في نفس الوقت الذي يستخدم فيه المنطق والاستدلال، يتحدث مع احاسيس واذواق ولطائف ارواح البشر ويجعلها تتأثر.


1- قيلت اشياء كثيرة في مشارق الارض ومغاربها حول هذا الحس الديني ونورد باختصار اقوال اثنين من المفكرين العالميين، تتعلق الاولى منها بالعالم (انشتاين) الذي يتناول المذهب في احدى مقالاته ويقول؛ كانت هناك ثلاثة انواع من المذاهب في العالم هي:

1- مذهب الخوف: أي مذهب جماعة اعتنقت المذهب على اثر مخاوفها من الطبيعة والمحيط.

2- مذهب الاخلاق: هدفه مذهبي ويستند إلى المصالح الاخلاقية.

ثم يتحدث عن مذهب آخر يسميه ب(مذهب الوجود). هذا التعبير يشبه تعبيرنا حول القلب. يعتقد انشتاين ان هذا المذهب يريد في الواقع ان يقول؛ يحصل الانسان على حالة معنوية وروحية اذا ما خرج وتحرر من نطاق نفسه المحدود والمحاط بالآمال والاحلام الحقيرة والصغيرة والمنفصل عن الآخرين والتحرر كذلك من عالم الوجود الطبيعي الذي يشكل حصاراً حوله. وفي ذلك الوقت يبدأ النظر إلى مجموع الوجود ويرى الوجود حقيقة واحدة ويرى بوضوح الروائع وانماط العظمة القابعة خلف الظواهر و يتذكر حقارته وتفاهته ثم يرغب في الاتصال بمجموع الوجود. وتعبير انشتاين هذا يذكرنا برواية همام الذي سأل امير المؤمنين(ع) عن صفات المؤمن فاعطاه الامام اجابة قصيرة ومقنعة حيث قال: يا هُمام اِتق الله واحسن ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (نهج البلاغة - الخطبة 183)، غير ان هُماماً لم يقتنع بهذه الاجابة وطلب توضيحات أخرى مثلاً سأل عن الحياة والعبادة وكيفية قضاء الأيام والليالي وآداب المعاشرة و? الخ. لذلك تطرق الامام إلى صفات المؤمن ورسم 130 خطاً من خطوط وجوه المتقين ومن جملة ما قال: لولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر ارواحهم في ابدانهم طرفة عين.

وهذه هي نفس الحالة التي يشير اليها انشتاين قائلاً: ان الانسان المذهبي يعتبر وجوده نوعاً من السجن المحاصر لانه يريد ان يطير في قفص الجسم ويرى الوجود كله ككتلة واحدة. هذه الحقيقة قد تجلت بشكل اوسع وافضل في كلمات امير المؤمنين(ع). وبرأي الامام علي (ع) كأن المؤمن جمع كل الوجود في جسمه المادي، ولهذا السبب يغادر قالبه ويحرر روحه. يقال ان هُماماً عندما انهى الامام حديثه، اطلق صرخة من اعماقه وفرغ القالب.

وفي مجال حس الانسان المعنوي يسرد الشاعر اقبال لاهوري حديثاً شيقاً فهو يقول؛ ليس هناك أي سر ولغز في هذا الكلام وهو ان الدعاء يعتبر وسيلة الاشراق النفسي والعمل الحياتي والطبيعي وبواسطته تكشف جزيرة شخصيتنا الصغيرة، موقعها في مجموع اكبر من الحياة. وهناك عبارة لوليام جيمز بهذا الصدد؛ دافع الدعاء هو نتيجة ضرورية لهذا الأمر وهو ان اعمق الارادات الاختيارية والعملية لكل شخص يعتبر نوعاً من الارادات الاجتماعية ومع ذلك فان الانسان يستطيع ان يجد مصائبه الكاملة في عالم افكاره فقط وان اكثر الناس يرجعون في قلوبهم اليه سواء باستمرار او عن طريق الصدفة واحقر فرد على وجه الكرة الارضية يحس بهذا التصور السامي، انه شخص حقيقي وذوقيمة. يحتمل ان يكون هناك تباين بين الناس من حيث درجات التأثر. وهذا التصور يشكل لبعض الناس دون غيرهم الجزء الهام من الوعي الذاتي مثل هؤلاء الناس يحتمل ان يكونوا اكثر الناس التزاماً بالدين، لكنني على ثقة من ان الذين يدّعون افتقارهم الكلي لذلك، لايخدعون الا انفسهم ذلك انهم يلتزمون بالدين إلى حد ما.

2- كان الائمة (ع) يقرأون القرآن بصوت متناغم. بحيث ان المارّة الذين كانوا يسمعون ذلك الصوت، كانوا يتوقفون دون اختيار وينهمكون بالبكاء.

3- قال الامام زين العابدين (ع) في دعاء علّمه ليُقرأ بعد ختم القرآن? واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً.

4- يذكر امير المؤمنين (ع) في الخطبة 193 المعروفة بخطبة المتقين من نهج البلاغة، صفات المتقين. وبعد ان يتطرق إلى تصرفاتهم واقوالهم يصف بعض حالات هؤلاء في الليل. اما الليل فصافون اقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا. يحزنون به انفسهم ويستشيرون به دواء دائهم. فاذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعا، وتطلعت نفوسهم اليها شوقاً، وظنوا انها نصب اعينهم، اذا مروا بآية فيها تخويف اصغوا اليها بمسامع قلوبهم وظنوا أنها زفير جهنم وشهيقها.

5- لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا انا نصارى.(سورة المائدة - الآية 82).