العبوديّة

وفيما يلي نحاول أن نشرح بعض مفردات هذه العناصر:

والعبودية لله هي الأساس في علاقة الإنسان بالله تعالى وبالكون والمجتمع. وهي التي تحدد مركز الإنسان في الكون والمجتمع. وقد أعطى الإسلام العبودية موقعاً مركزياً في حياة الإنسان وتفكيره ومواقفه.

فهي تنعكس انعكاساً مباشراً وواضحاً، وتتحكم في سلوك الإنسان وعلاقاته ومواقفه وتصوراته، كما تنعكس على مشاعره وعواطفه، وحالة "العجب" في الإنسان من الحالات التي تتأثّر بالعبودية سلباً وإيجاباً بصورة مباشرة.

فإذا استقرت علاقة الإنسان بالله على أساس العبودية وما تستتبع من الانكسار والتضرع والتذلل بين يدي الله فسوف لا يملكه العجب ولا يكبر لديه الأنا وتغلب عليه صفة العبودية حتى تكون الصفة البارزة في كلّ تحركاته وتصرفاته.

ولقد كانت صفة العبودية بارزة في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى في طريقة جلوسه وكلامه، وكان يكره أن يتميز عن الآخرين في مجلس أو حركة فعابت عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأة كانت مشهورة بسوء الأدب هذه الخصلة، وقالت له (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ شيء فيك حسن إلاّ إنك تجلس مجلس العبيد، فقال لها (صلى الله عليه وآله وسلم) بعفوية وبساطة "ومن أعبَد منّي؟".

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

"ولقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فيكون فيه التصاوير، فيقول: يا فلان! غيبيه عنّي، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن النظر. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده?"(1).

ويحضرني من الشعر في صفة بعض المقاتلين:

سمة العبيد من الخشوع عليهم * للهِ إن ضمتهم الأسحار

فإذا ترجلت الضحى شهدت لهم * بيض النواصي أنهم أحرار

وواضح أن للعبيد سمة متميزة واضحة في حركتهم وسكونهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم وكلامهم وسكونهم.

يحكى عن بعض العارفين الزهاد المشهورين أنه كان قبل أن يتوب من أهل الترف والبذخ، وكانت له ليالٍ حمراء عامرة بالشرب والطرب، فمرّ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) على داره ذات يوم ولفت نظره ضجة الغناء والطرب والسكر، فسأل عن صاحب البيت، فأجابته أمة من خادمات البيت، فسألها الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): هو حرّ أم عبد؟ فلم تفهم الخادمة مغزى كلام الإمام (عليه السلام) وقالت: كيف يكون عبداً وهو يملك المئات من العبيد والإماء.

فقال لها الإمام: أجل، لو كان عبداً لم يفعل هكذا، وذهب لشأنه فسمع الرجل الحوار الذي جرى بين الإمام والخادمة، وفهم مغزى كلام الإمام، فأسرع في طلب الإمام وخشي أن لا يدركه، فخرج حافياً حتى لحق بالإمام وتاب على يديه، فعرف بالحافي بعد ذلك، واشتهر أمره وذكره في العارفين والزاهدين.

والذي يقرأ سمات الشخصية الإسلامية في النصوص الإسلامية يجد أن صفة العبودية هي الصفة المحورية في الشخصية الإسلامية.

يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في صفة المتقين:

"عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم. فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونه، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة?، أمّا الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض".

ويقول: "لقد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم: فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وقصداً في غنى، وخشوعاً في عبادة، وتحملاً في فاقة، وصبراً في شدّة، وطلباً في حلال، ونشاطاً في هدى وتحرجاً عن طمع?"(2).


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 160.

2- سفينة البحار486: 1.