جواب الرسالة الثانية

وبعد ملاحظة ما ورد في الرسالة السابقة نسجل ملاحظاتنا عليها على النحو التالي:

إنما تربط الآية بالنساء:

قال: (إنما مرتبطة تمام الإرتباط بأوامر الله تعالى ونواهيه للنساء، وهي تربط هذه الأوامر والنواهي بعبارة التطهير، وتجعل عبارة التطهير جزء لا يتجزأ منها، أي من آيات النساء).ونقول: إن كلمة (إنما) وإن جعلت عبارة التطهير جزء لا يتجزأ من آيات النساء، ولكن هذه الجزئية لا تعني توجه التطهير للنساء مباشرة، بل هي جزء منها من حيث إنها تفيد أن التزام النساء بالأوامر والنواهي يوجب إبعاد أي رجس ـ ولو ثانياً وبالعرض ـ عن أهل بيت النبوة الذين هم أناس آخرون قد كان للنساء نوع ارتباط بهم..ولو كان التطهير لخصوص النساء، لوجب أن لا تكون الآية شاملة للنبي (صلى الله عليه وآله)، فضلاً عن علي والحسنين (عليهم السلام)، مع أن ذلك مما أجمعت الأمة على بطلانه.

الله أراد تطهير النساء:

قال: (الله تعالى يريد أن يحصر فكر نساء النبي في سبب نزول هذه الأوامر والنواهي المشددة عليهن، في أن الله أراد بهذه الأوامر تطهيرهن وصونهن، لا إرهاقهن بها، وجعل الحرج عليهن، وتعسير حياتهن، فإنما بلا ريب مرتبطة مع ما قبلها..).ونقول: صحيح: أن كلمة (إنما) تأتي لتحصر فكر السامع في جهة معينة، ولكن المهم هو تحديد هذه الجهة، فمن الذي قال: إن هذه الجهة هي ما ذكره هذا المستدل، فإن ذلك مصادرة على المطلوب، بل هي إفهامهن: أن زوجيتهن للنبي تفرض عليهن مزيداً من الالتزام بالأحكام، لأن ما يفعلنه لا تقتصر آثاره السلبية عليهن، بل تتعداهن إلى التأثير على مقام النبوة، ولذلك يضاعف لهن العذاب ضعفين، كما أنهن لسن كأحد من النساء.فلو لم يكنّ زوجات للنبي (صلى الله عليه وآله)، فلماذا مضاعفة العذاب؟! ولماذا هنّ لسن كأحدٍ من النساء؟!وكون المراد هو ذلك لا ينافي كون (إنما) مرتبطة مع ما قبلها، بل ذلك هو عين الربط والارتباط، كما هو ظاهر.

لستن كأحد من النساء:

وبعد أن ذكر الآيتين، وهما آية: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) وآية التطهير، قال: (ولكنهما والله العالم مرتبطتان تمام الارتباط، ويكون معنى الآيتين سوية: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، والتزمتن بتكليفكن المشدد، واتبعتن أوامر الله تعالى ونواهيه التي شددها عليكن، لأن الله تعالى ـ وباعتباركن من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) ـ أراد لكنّ باتباعكن هذه الأوامر أن تحظين بطهارة أسمى من كل نساء الأمة، وأن تكنّ في سوية أرفع منهن وأعلى..).ونقول:

أولاً: إن هذا التقرير يقتضي أن يأتي في آية التطهير بضمير الإناث، فيقول: منكن ويطهركن.. ويقتضي أيضاً إخراج النبي (صلى الله عليه وآله)، وعلي والحسنين (عليهم السلام)، من مفاد الآية..والقول بأن تذكير الضمائر قد جاء على سبيل التغليب..يجاب عنه بأنه لا ارتباط بين تكليف النساء، والتشديد عليهن، وبين طهارة غيرهن، إلا ما ذكرناه في ثنايا الكتاب وسائر ما أشرنا إليه فيالموارد المختلفة..كما أنه مناف لما ذكره صاحب الرسالة من أن اختصاص التطهير بالنساء مرتبط بالتكليف الموجهة إليهن.

وثانياً: لم نفهم السر في الإتيان بكلمة (من) المفيدة للتبعيض، حيث قال: (وباعتباركن من (أهل البيت) ـ) مع أن الآيات القرآنية قد اعتبرت المخاطبين فيها كل (أهل البيت): فهي تقول: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) لأن من صدرت لهن الأوامر ـ حسب تقريره للآيتين ـ هم المخاطبون بإذهاب الرجس دون زيادة أو نقيصة؟..

وثالثاً: إن هذا التقرير ليس بأولىمن التقرير الذي ذكرناه، ولاسيما بملاحظة: سياق الآيات، وأن الخطاب في الأساس كان مع النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم التفت وخاطب النساء، ثم عاد ليتم كلامه مع الرسول (صلى الله عليه وآله)..وبملاحظة: أن المهم في نظره هو إبعاد الرجس عن مقام النبوة، حتى لو كان هذا الرجس ينسب إليهم نسبة خفية، حيث يكون بواسطة أناسٍ لهم بهم أدنى ارتباط..وبملاحظة: ما ذكرناه في المعنى اللغوي لكلمة (أهل البيت)، وما ذكرناه من رواية لما جرى في حديث الكساء، وما جرى لأم سلمة وغيرها، وبملاحظة: إنكار زيد بن أرقم لذلك..وكذلك سائر القرائن التي ذكرناها في الكتاب..فإن ذلك كله يؤيد ويؤكد ما قلناه في تفسير الآية الكريمة، فالالتزام بسواه، يستتبع محاذير ذكرناها في كتابنا: (أهل البيت في آية التطهير).

عدم التزام النساء ينافي العصمة:

تحدث عن اللام في (ليذهب)، وأنها تدل على إرادة تشريعية، وأنها تدل على أن ثمة أوامر ونواهي للنساء، إن التزمن بها، فسيؤدي ذلك إلى إبعاد الرجس عن (أهل البيت)، (أو عن جزء من (أهل البيت)، وتطهير هذا الجزء بالأصح).قال: (وهذا يقتضي أنه في حال عدم التزام نساء النبي بهذه الأوامر بالشكل التام، فإن التطهير، تطهير (أهل البيت) لن يتم بالشكل الكامل، وهذا ينفي مفهوم العصمة عن الآية).ونقول:

أولاً: إنه قال: (أو عن جزء من (أهل البيت) ـ.. بالأصح) ونقول له: كيف يكون هذا هو الأصح عنده، مع أن كلامه يقتضي حصر الآية بالأزواج.. وأن لا تشمل علياً والحسنين (عليهم السلام)، بل لا تشمل حتى النبي (صلى الله عليه وآله)..

ثانياً: من أين ثبت له أن هذا هو الأصح، بل هو الخطأ، لأن الله سبحانه جعل التزامهن بالأوامر والنواهي سبباً في إبعاد الرجس عن جميع (أهل البيت)، ولذا جاء بضمير الذكور، مخاطباً به (أهل البيت) (عنكم)، (يطهركم)، (أهل البيت).. ولو كان المقصود بالتطهير هو الجزء من (أهل البيت) لكان ينبغي أن يقول: يطهركن، عنكن، لأنكن من (أهل البيت)..

وثالثاً: قوله: (إن هذا ينفي مفهوم العصمة عن الآية). لا يصح، لأن عدم التزام النساء بالأوامر والزواجر، لا دخل له في عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) والوصي، و(أهل البيت) (عليه السلام) في أنفسهم. وقد أشرنا أن كلامه هذا إنما يتم لو كان المقصود ارتباط التزام الأزواج بطهارة (أهل البيت) (عليهم السلام) على مستوى الذات، وهو باطل، وأما على تقدير الارتباط بالطهارة على مستوى المحيط، فلا ربط لالتزامهن وعدمه بعصمة أصحاب الكساء (عليهم السلام).نعم، تكون مخالفتهن سبباً في إثارة فضول الناس وشائعاتهم حول بيت النبوة، فلا يبقى هذا البيت في سلامة من ألسنة أصحاب الأهواء والأغراض، بل هم سوف ينسبون التقصير ـ زوراً ـ إلى النبي نفسه مثلاً، باتهامه بالتقصير، حتى إنه لم يستطع أن يمنع زوجاته من مخالفة أمر الله سبحانه، مع علمهم بأن ذلك لا يقع تحت اختيار النبي (صلى الله عليه وآله)، بل هو باختيارهن دونه (صلى الله عليه وآله)..

فذلكة غير موفقة:

وقال: (أنا لا أجد مبرراً لهذا الربط بين إطاعة النساء للأوامر وتطهير أهل الكساء، والذي يعني ـ كما أسلفنا ـ أنه إذا لم تطع كل النساء كل الأوامر ـ وهذا ما قد حصل ـ فإن خللاً سينتج في عصمة أو تطهير أهل الكساء، وهذا ما لا يستسيغه العقل، ثم إنها لا تزر وازرة وزر أخرى)..ثم استدل بزوجتي نوح ولوط، وبابن نوح، ثم تساءل عن الضرر والنفع لـ(أهل البيت) من التزام الزوجات، أو عدم التزامهن، ثم استثنى صورة ما لو كانت الأوامر والنواهي متعلقة بصون شرفهن، فقال: (نعم لو كانت أوامر الله تعالى لزوجات النبي متعلقة فقط بنواحي صون شرفهن وسمعتهن، لكان لذلك الربط المذكور آنفاً مجال للقبول، أو للطرح على الأقل، ولكن عندما تكون التوجيهات الإلهية متعلقة بكل الكمالات الإنسانية الدنيوية والأخروية فيما يتعلق بنواحي الشرف والسمعة، وفيما يتعلق بغير ذلك أيضاً من المسائل التي قد ترفع الإنسان وتضعه، فعندها لا يكون هناك مسوغ للقول بأن هذه الأوامر والنواهي ليست لتطهير نساء النبي ذاتهن، ولكنها لتطهير غيرهن..).نعم، إن هذا القول يصبح ظاهر البطلان، وذلك لما يلي:

أولاً: لأن عدم إطاعتهن لا يحدث خللاً في العصمة الذاتية لأهل الكساء (عليهم الصلاة والسلام)، بل هم معصومون سواء خالف النساء، أم أطاعوا..نعم، إن ذلك يسبب خللاً في النظرة الاجتماعية المبنية على السطحية، وفي الجو العام المحيط بـ(أهل البيت) (عليه السلام)، ويوجب لهم حرجاً، وأذى، ولغطاً..بل إن إبعاد الرجس حتى عن محيط (أهل البيت) يصبح أبلغ وأدل على التصميم الإلهي لحفظ هذا البيت، ورعايته، وعدم السماح بأي خلل يطرأ على واقع الطهارة من حوله، لأنه إذا كان يهتم بحفظه حتى من الرجس العارض له بسبب أناس لهم هذا المستوى من الارتباط الضعيف به، فإن اهتمامه بعصمة أهله الذاتية عن كل رجس تصبح أوضح وأصرح..

ثانياً: وأما أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فهو أيضاً صحيح في نفسه، ولكن لم يدّع أحد أن مخالفة الزوجات للأوامر، واقترافهن للأوزار يجعل النبي و(أهل البيت) (صلوات الله وسلامه عليهم) يتحملون وزر أولئك الزوجات..بل المقصود: أن اقتراف الزوجات للآثام، يفتح أمام المنافقين وأصحاب النفوس المريضة باب الحديث والطعن والتشكيك، ويلحق بأهل هذا البيت أذى وحرجاً..

ثالثاً: إننا لم ندّع: أن اقترافهن الآثام ينقص من مقام النبي (صلى الله عليه وآله)..كما أننا لم ندّع أن التزامهن بالأوامر والزواجر لا يوجب تزكيتهن..ولكننا نقول: إن هذا الإلتزام يفيد أهل بيت النبوة أيضاً مزيداً منالحياة الهادئة والصافية، البعيدة عن المتاعب والشائعات، من قبل الحاقدين والمنافقين..وعدم التزامهن يلحق ضرراً بـ(أهل البيت) (عليهم السلام) بالنحو الذي ذكرناه، لا أن وزر ذنوبهن يلحق (أهل البيت)، فيعاقبون بسببهنّ. فلا معنى لأن يقال: إن المسؤولية فردية، وقد قال تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)..

ورابعاً: إذا جاز أن يكون أمر النساء ونهيهن في شؤون الشرف والسمعة مما يقصد به تطهير غيرهن. جاز أن يكون أمرهن، ونهيهن في غير ذلك من كمالات دنيوية وأخروية أيضاً يقصد به ذلك، إذا كان تأثير ذلك على سمعة ذلك الغير حاصلاً أيضاً.. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن مخالفة النساء للأوامر والنواهي يوجب توهيناً لمقام (أهل البيت)، ورميهم من قبل المنافقين والحاقدين بالعجز، وعدم القدرة حتى على ضبط من يقعون تحت هيمنتهم، ويعيشون في داخل بيوتهم، ثم هو يفسح المجال لهم لإطلاق الشائعات ضد أهل هذا البيت، الذي يفترض فيه أن يعيش في قلوبهم بمستوى من التقديس اللائق به، والذي يمكنه من أن يترك آثاره في تغيير وبناء شخصية الإنسان..وإلا، فلو كان الأمر على خلاف ذلك، فلماذا يأمر الله بتوقير الرسول (صلى الله عليه وآله) وتعزيزه.. وبأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي، وبأن لا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض و.. و.. الخ..

لو كان المقصود النساء، فلا ترابط:

قوله: (قد لا يبقى عنده أدنى شك في ارتباط (عبارة التطهير) بما قبلها ـ وبعدها أيضاً ـ من الآيات الكريمة) ثم عاد فكرر ما ادعاه سابقاً وأجبنا عنه..ونقول: إن ما ذكرناه في معناها لا يفسخ هذا الارتباط، بل هو يرسخه ويؤكده.. ولكن لو كان المقصود هو خصوص النساء لوقع هذا الفسخ، باعتبار أن تخصيص الآية بهن يجعل الحديث مع جميع (أهل البيت) (عليهم السلام) بصيغة المذكر أمراً شاذاً وخروجاً على السياق، وهو نص على تطهير أناس بفعلٍ لا يتطهرون به، حسب زعم هذا القائل: انطلاقاً من قاعدة: لا تزر وازرة وزر أخرى.. التي زعم أن القول بتطهير (أهل البيت) من غير الزوجات يناقضها وينافيها..لا مشكلة في الإطلاقات المجازية:

قوله: (ليس هناك أي مشكلة في أن يكون استعمال الأهل للزوجة مجازياً..) استناداً إلى أن معظم أفعال وأسماء اللغة العربية عبارة عن مجاز..نقول فيه:

أولاً: نحن أيضاً لا يهمنا كثيراً أن تكون كلمة (أهل) قد استعملت في الزوجة مجازاً أو غير مجاز، بل الذي قلناه: إن عبارة (أهل البيت) لاتشمل الزوجة في الآية الشريفة وذلك لقول زيد بن أرقم، ولحديث الكساء، وللقرائن العديدة في الآية نفسها، وللرواية عن أحمد بن حنبل..أما كلمة (أهل الرجل) فيراد بها الزوجة مجازاً ـ كما صرح به من ذكرناهم من أهل اللغة.

ثانياً: إن قبوله بالمجازية يحتم عليه العثور على قرينة لذلك المجاز.. إذ أن كثرة المجاز وقلته لا تفيد في تعيين المعنى في المورد إلا بما يفيد هذا التعيين.

الأهل في القرآن يراد بها الزوجة:

ثم قال: (ثم إن القرآن الكريم تستعمل فيه كلمة الأهل للدلالة على الزوجة بشكل كبير، وإليك بعض الآيات الكريمة الخ..).ونقول:

أولاً: قد تقدم الجواب عن ذلك، وأن الاستعمال أعم من الحقيقة، فإذا ثبت الاستعمال المجازي، الذي يظهر المراد فيه بواسطة القرائن، فلا يعني ذلك إرادة نفس هذا المعنى المجازي في الموارد الأخرى التي لا قرينة فيها، بل القرينة على خلاف ذلك هي الأظهر، كما هو الحال فيما نحن فيه..

ثانياً: لو سلمنا ذلك، فإنه لا يفيد في إدخال الزوجات في مفاد آية التطهير، لأن كلمة (أهل البيت) هي غير كلمة (أهل) فالأولى لا تشملالزوجة في هذه الآية لأدلة وقرائن كثيرة ذكرناها في الكتاب بخلاف الثانية..بل يكفينا شاهداً على ذلك بعض طرق حديث أهل الكساء، وشهادة زيد بن أرقم..

ثالثاً: إن بعض الآيات التي استشهد بها، ليس فيها دلالة على إرادة الزوجة من كلمة (الأهل).وذلك مثل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): (فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ)(1).. بل قد يناقش البعض حتى في قصة موسى (عليه السلام) حيث يصعب إثبات إرادة الزوجة، بصورة قطعية، إلا من خلال الروايات. بل قد يناقش حتى في دلالة الآيات، التي تحدثت عن أهل لوط (عليه السلام) واستثنت زوجته، على اعتبار أنه ليس بالضرورة أن يكون الاستثناء في تلك الآيات متصلاً، فإن الاستثناء المنقطع أيضاً ليس بعزيز..والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته، محمد وآله الطيبين الطاهرين.. واللعنة الدائمة على أعدائهم ومنكري فضائلهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين..


1- سورة الذاريات الآية26.