القسم الأول: الفصل الرابع: الظهور السياقي بين الأخذ والرد

عود على بدء:

لقد اتضح مما تقدم: أن توجيه الخطاب لـ(أهل البيت) الذين هم أهل الكساء، ليس فيه مخالفة للسياق القرآني، بل هو موافق له، ومنسجم معه. دون أدنى لبسٍ، أو شبهة.ونزيد في توضيح هذا الأمر بالإشارة إلى بعض الخصوصيات، فنقول: ألف: إن السياق إنما يكون دليلاً وحجة في صورة ما لو علم أن المتكلم بصدد بيان موضوع واحد، من مبدأ كلامه إلى نهايته؛ ليكون بعض كلامه قرينة على البعض الآخر. فإذا ورد ما يخالف ذلك، فإنه يكون مخالفاً للظهور السياقي، ويكون فيه ـ أحياناً ـ إخلال بالناحية البلاغية، والبيانية.ب: وربما لا يكون المتكلم بصدد بيان أمر واحدٍ، وإنما هو يذكر أموراً متعددة ومختلفة. ومتخالفة في موضوعاتها وأحكامها، وإن كانت تدخل في نطاق غرض عام وجامع ـ يكون هو الجامع بين متفرقاتها، والمؤلف لمختلفاتها كالدين أو الشريعة مثلاً ـ ففي هذه الحالة لا يكون التعرض للموضوعات المختلفة، لا يكون خلافاً للظهور السياقي، ولا يخل بالناحية البيانية والبلاغية، إلا إذا تعرض لبيان أمر لا يدخل في ذلك الغرض الأقصى، والعام، والجامع، كما هو واضح.ج: إن وحدة السياق لا تلازم وحدة الموضوع والحكم؛ فإن الأسلوب البياني قد يفرض التعرض لبيان بعض الحيثيات، التي لها مساس بما هو محط النظر، وإن اختلفت عنه في طبيعتها وماهيتها.وقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ليس شيء أبعد من عقول الرجال من القرآن؛ إن الآية لتكون أولها في شيء، وآخرها في شيء، وهو كلام متصل يتصرف على وجوه(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام): يا جابر، إن للقرآن بطناً، وللبطن ظهراً، وليس شيء أبعد من عقول الرجال منه: إن الآية لينزل أولها في شيء، وأوسطها في شيء، وآخرها في شيء، وهو كلام متصرف على وجوه(2).ومن اللافت: أن المثال الذي قدمه الأئمة (عليهم السلام) في هذا الصدد هو نفس آية التطهير، التي هي موضع البحث، فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية ينزل أولها في شيء، وأوسطها في شيء، وآخرها في شيء، ثم قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). من ميلاد الجاهلية(3).ولكن ذلك لا يعني: أن لا تكون هناك جامعة كلية وعامة تكون تلك الموضوعات المختلفة كلها داخلة فيها..وبعد ما تقدم نقول: قد ذكرنا في الفصول المتقدمة ما يوضح: أن آية التطهير هي من القسم المذكور في فقرة: (ألف) إذ أن الآيات قد جاءت لتخاطب النبي(صلى الله عليه وآله)، وتطلب منه أن يبلغ زوجاته بعض الأوامر والزواجر، بهدف الحفاظ على البيت النبوي الشريف.ويمكن تطبيق القسم الثاني المذكور في الفقرة (ب) على آية التطهير أيضاً؛ إذا لاحظنا: أن الجامع العام وهو الحفاظ على (أهل البيت) (عليهم السلام)، استدعى إصدار أوامر ونواهي مختلفة للزوجات، مع أن الكلام متصل، وله سياق واحد.

الالتفات والاعتراض:

ولو أننا قبلنا: أن الخطاب لم يكن موجهاً إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا لبيت النبوة والرسالة، بل كان موجهاً للنساء من أول الأمر.فإننا نقول: إن ذلك لا يوجب أن تكون آية التطهير خاصة، بل ولا حتى شاملة للنساء، إذ أن ثمة طريقين آخرين يؤديان إلى تخصيص الآية الكريمة بأصحاب الكساء، ولا يختل السياق القرآني، ولا يلزم التكذيب للرسول (صلى الله عليه وآله) في إصراره المتواصل على خروج النساء عن مفاد الآية. وهذان الطريقان هما:

1 ـ الالتفات:

فإن الالتفات هو من الأساليب البيانية، التي جرى عليها الناس في محاوراتهم.وهو يعطي الكلام جمالاً، ورونقاً، وإشراقاً. وله أيضاً فوائد جليلة لأنه يشد السامع، ويثير انتباهه، ويجعله يتطلع لمعرفة هذا الجديد، وإلى سماع المزيد.وقد استخدم القرآن هذا الأسلوب في كثيرٍ من الموارد، حتى في فاتحة الكتاب، كما تقدم، وكما يكون الالتفات من الغيبة للخطاب كما ورد في سورة الفاتحة، أو عكسه كذلك قد يكون من شخص لآخر كما في قوله تعالى: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ).وحكمة هذا الالتفات في آية التطهير: هو الإشارة إلى أن تأديب الزوجات إنما هو من توابع إذهاب الرجس والدنس عن (أهل البيت)، وإكراماً لهم حتى لا يلحقهم بسببهن وصمة أو عيب(4).

2 ـ الاعتراض:

ولنا أن نعتبر قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ..) جملة اعتراضية، إذا صححنا ورود الاعتراض في آخر الكلام، أو اعتبرنا الآيات سابقاً ولاحقاً كلها ذات وحدة واحدةً، جاءت الجملة الاعتراضية فيما بينها؛ للإشارة إلى حيثيات ودوافع الحكم الوارد في الفقرات السابقة واللاحقة.وهذا الاعتراض ليس فقط قد جاء معقولاً ومقبولاً، بل هو راجح ومطلوب، بل ضروري أيضاً؛ لحكمة ونكتة، وهي بيان هذا الأمر الهام والخطير، أعني أن الإرادة الإلهية قد تعلقت بتطهير (أهل البيت)، ثم هو لبيان الفرق الشاسع بين أهل بيته الحقيقيين، وبين الزوجات اللواتي لا يصح توهم أنهن في مستوى أهل بيت النبوة في العصمة والطهارة.وبعد هذا فإن الجمل الاعتراضية كثيرة في القرآن، وقد قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ)(5).وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)(6).وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً..) إلى أن قال: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)(7).وأمثال ذلك في القرآن ليس بعزيز.

مخالفة السياق لأجل القرينة:

ولنفترض: أن السياق القرآني يؤيد كون الخطاب للنساء، فإن رفع اليد عن الظهور السياقي، الذي هو أضعف الظهورات، لأجل وجود قرينة بل قرائن داخلية وخارجية على خلافه، ليس فيه أي محذور. وقد ظهر وسيظهر وجود قرائن عديدة في الآيات نفسها، ووجود روايات متواترة صحيحة وصريحة تعين (أهل البيت) في من سوى الزوجات، أي في خصوص أهل الكساء، وليس في ذلك أية مخالفة للأسلوب البلاغي والبياني، فقد تعودنا من البلغاء الإشارة إلى العديد من المطالب في كلامهم الذي يوردونه في مقام واحد، وفي سياق واحد، إذا كان له جهة كلية عامة وجامعة.

السياق واختلاف الضمائر:

ومن القرائن الذي ذكرت على أنها توجب رفع اليد عن الظهور السياقي.

اختلاف الضمائر في الآية:

فيلاحظ هنا تذكير الضمير في آية التطهير، في: (عنكم) و (يطهركم)، مع أن الضمائر الواردة في السابق واللاحق هي ضمائر الإناث: (وقرن في بيوتكن) و (لا تبرجن) و (أقمن الصلاة) و (آتين) و (أطعن)، وغير ذلك(8). بل لقد اعتبر البعض هذا دليلاً على عدم إرادة النساء في الآية.واعتبره البعض الآخر: أنه يدل على عدم اختصاص آية التطهير بهن، على خلاف ما ادعاه عكرمة ونسب إلى غيره من اختصاص الآية بالنساء(9).

توجيهات لا تجدي:

وقد دافع القائلون بشمول الآية للنساء، واختصاص الخطاب فيها بهن، بوجوه:

الأول: التغليب:

قالوا: إن الضمير المذكور قد ورد في الآية على سبيل التغليب، للمذكر على المؤنث(10).ونقول: إن هذا غير تام.

أولاً: لأن التغليب إنما يصار إليه، حيث يحرز عدم الخصوصية لأي من الطرفين أو الأطراف في نظر المتكلم، وحيث يعلم بأنه يريد شمول الحكم للجميع، مع عدم وجود قرينة على الخلاف.وفي مورد البحث: ليس فقط لا نحرز أنه يريد شمول الحكم، بل هناك العديد من القرائن والشواهد على التمييز فيما بين الأطراف.ويكفي في ذلك ما ذكرناه من روايات صحيحة وصريحة في انحصار المراد من (أهل البيت) في أصحاب الكساء، مع تصريح طائفة كبيرة منها بخروج الزوجات عنهم(11).

ثانياً: قال العلامة المجلسي: (إن مخاطبة الزوجات مشوبة بالمعاتبة والتأنيب، والتهديد، ومخاطبة (أهل البيت) محلاّة بأنواع التلطف، والمبالغة في الإكرام. ولا يخفى بعد إمعان النظر المباينة التامة في السياق بينها وبين ما قبلها، وما بعدها)(12).

ثالثاً: قد تقدم ما يفيد وجود إشكال في أصل صدق عنوان: (أهل البيت) على الزوجات، حتى مع افتراض أن يكون المراد بالبيت هو بيت السكنى، مع أنه افتراض باطل كما اتضح في الفصول السابقة.

رابعاً: لو فرضنا أن المراد هو بيت السكنى، فإننا نقول ـ كما يتضح من ملاحظة بعض روايات حديث الكساء ـ إن المراد به خصوص البيت الذي جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه أهل الكساء، حيث نزلت الآية الشريفة فيهم. وتكون الألف واللام هنا في كلمة: (البيت) للعهد الخارجي. وإلا فإن بيت الزهراء وعلي، كان غير بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، الذي تسكنه أم سلمة أو غيرها.. ويعزز هذا التوجه التنويع في التعبير حيث قال تعالى مخاطباً للنساء: (بيوتكن). ولكنه عبر هنا فقط بقوله: (أهل البيت).

خامساً: وأخيراً..قد تقدم: أن السياق يؤيد ويؤكد كون المراد بـ (أهل البيت) خصوص أهل الكساء. ولا حاجة إلى دعوى التغليب، ولا إلى غيرها.

تنبيه واحتراز:

إن محط النظر في الرد والقبول إنما هو التغليب بالنسبة إلى زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) وانضمامهن إلى أهل الكساء وعدمه. أما تغليب الذكور على الإناث بالنسبة إلى أهل الكساء أنفسهم، لكون فاطمة (عليها السلام) فيهم، فلا إشكال في كونه حاصلاً، ومراداً له تعالى، حسبما صرحت به الروايات المتواترة.

الثاني: عموم لفظ (أهل البيت):

الوجه الآخر الذي ذكروه دفاعاً عن قولهم بشمول الآية للزوجات، وتوجيه اختلاف الضمائر تذكيراً وتأنيثاً، هو: أن لفظ (البيت) كلي، يطلق على الجمع(13). ونقول:

1 ـ إن بعض ما ذكرناه في الإجابة على الوجه السابق آت هنا.

2 ـ إن كون لفظ (البيت) كلياً لا يصح بحسب مصطلح أهل العلم.

3 ـ إن القرينة القطعية قد دلت على أن النساء لسن مرادات له تعالى في آية التطهير.

4 ـ إن هذا التوجيه لا يجدي، فإن الظاهر هو: أن المراد بـ (البيت) ـ كما ألمحنا إليه ـ ليس هو بيت السكنى وإلا فإن القضية قد حدثت في بيت أم سلمة، أو عائشة، أو زينب، فلماذا منعها من الدخول تحت الكساء، ولم يرض باعتبارها من (أهل البيت)؟! فالمقصود هو بيت النبوة.

وقد قلنا: إنه تعالى حين تحدث في نفس الآية عن بيت سكنى الأزواج، قد جاء بلفظ الجمع، مضافاً إليهن، فقال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)(14) ثم قال بعدها: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ)(15).ولكنه في آية التطهير قد جاء بلفظ (البيت) محلى بألف ولام العهد. فلو كان المراد به بيت سكنى الأزواج، لكان المناسب الإتيان بلفظ الجمع، كسابقه ولاحقه، لا الإفراد بلام العهد.أضف إلى ما تقدم: أنه قد كان لعلي (عليه السلام) بيته الذي يسكن فيه، وهو غير بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلو كان المراد بيت السكنى، فإن دخول علي وفاطمة والحسنين (عليهم السلام) يحتاج إلى إثبات، مع أن دخولهم في مدلول الآية لا ريب فيه. ولو سلمنا: أن المراد هو بيت السكنى فقد تقدم جوابه قبل صفحتين في الإيراد الرابع على القول بالتغليب. فراجع..وأما إرادة العشيرة من كلمة (البيت) فقد قلنا أكثر من مرة: إنه لا يصح لأن العباس وعقيلاً وأبناءهما وغيرهم ليسوا من (أهل البيت) بلا ريب مع أنهم عشيرة الرسول، والعباس أقرب نسباً إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من علي (عليه السلام).

احتمالات لها ما يبررها:

قد يقال: يستفاد من نسبة البيوت إلى الزوجات، لا إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أن في نسبتها إليه شرفاً عظيماً، ولا يريد الله أن يخص النساء بهذا الشرف.هذا بالإضافة إلى أنه تعالى قد أراد أن يظهر التمايز فيما بين الزوجات، وبين (أهل البيت) النبوي الحقيقيين، وهم أهل الكساء (عليهم السلام)، فلا يتصور أحد: أنهن وأولئك بمنزلة واحدة بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله). بل أهل بيته منه وإليه. وليس كذلك زوجاته اللواتي لم يرض حتى بنسبة البيت الذي هنّ ساكنات فيه إلى رسوله (صلى الله عليه وآله).

الثالث: لفظ (أهل) مذكَّر:

وقد يقال أيضاً: إن التذكير للضمير إنما هو باعتبار لفظ (أهل)، وقد قال الله سبحانه: في قصة الملكين لزوجة إبراهيم: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)(16).وقال تعالى: (قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا)(17) والقائل هو موسى لامرأته.وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته. فيقول: هم بخير(18).ونقول: إن ذلك لا يصح لعدة أمور، هي التالية:

1 ـ إن لفظ الأهل يذكر ويؤنث، كما نص عليه الزمخشري في تفسير آية: (هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا)(19).. فكان الأولى هنا الجري على سياق الآيات، وإيراد الضمير مؤنثاً أيضاً.

2 ـ إن اللفظ قد يكون مفرداً ومعناه مثنى وقد يكون معناه جمعاً.. وتارة يلاحظ المعنى وأخرى يلاحظ اللفظ، وقد جمعها الشاعر في كلمة (كلا)، حيث راعى لفظها تارة، ومعناها أخرى، حين قال في وصف جوادين يتسابقان: كلاهما حين جدّ الجري بينهما قـد أقلعا وكِـلا أنفيهمـا رابـيوالأمر ها هنا كذلك، فإن لفظ (الأهل) في الآية مفرد، وإن كان معناه الجمع، فهل الأولى مراعاة ذلك أيضاً؟ فلماذا إذاً أتى بضمير الجمع، وقال: عنكم، ويطهركم، ولم يراع جهة الإفراد، فيرجع الضمير إليه كذلك؟!.

3 ـ إن كلمة (أهل) في آية التطهير تابعة لكلمة (عنكم)، والتابع لا يؤثر في المتبوع لا تذكيراً ولا تأنيثاً.والقول: بأن كلمة عنكم أيضاً تابعة لـ(أهلٍ) آخر منتزع من النساء.لا يصح، إذ لو صح لاقتضى أن تكون الضمائر السابقة في الآية أيضاً بالتذكير، مع أنها كلها قد جاءت بالتأنيث. فما هو وجه العدول في ذيل الآية إلى التذكير؟!(20).

4 ـ أما بالنسبة لآية: (رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)، فإنما يقصد بها الذكور، وهم أهل بيت إبراهيم، ودخول المرأة فيهم ربما يكون للتغليب والتجوز، فالقياس عليه في غير محله. لأن التغليب مع قيام القرينة عليه مما لا ينكره أحد.وهكذا الحال بالنسبة لقوله تعالى: (قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا).وكذا يقال بالنسبة لقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك يريد زوجته، فيقول: هم بخير. فإنه مما قامت القرينة على تعيين المراد منه. ومع وجود القرينة، لا يوجد إشكال، ولا هو محل كلام أو جدال.

5 ـ هذا بالإضافة إلى وجود فرق في الاستعمال: بين أهل الرجل وأهل بيت الرجل، فإن إطلاق كلمة (أهل) على الزوجة، لا يلزم منه صحة إطلاق كلمة (أهل البيت) عليها.وقد تقدم في روايات حديث الكساء، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نفى أن تكون أم سلمة من (أهل البيت)، ولكنه قرر: أنها من أهله.

6 ـ بل ربما يكون دخول زوجة إبراهيم في (أهل البيت) في قوله تعالى: (رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)، من جهة أنها كانت ابنة عم إبراهيم (عليه السلام)(21). فهي داخلة في (أهل البيت) من جهة النسب لا من حيث كونها زوجة. ولا أقل من الشك في ذلك.

هجوم مضاد: لا مجال لمخالفة السياق:

وبعد أن استدل البعض بالدلالة السياقية على إرادة زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) من الآية، ولم ير في اختلاف الضمائر الموجودة في الآية الشريفة أيّ محذور، قال: (فذِكْر حال الآخرين بجملة معترضة، بلا قرينة ولا رعاية نكتة، ومن غير تنبيه على انقطاع كلام سابق وافتتاح كلام جديد، مخالف لوظيفة البلاغة التي هي أقصى الغاية في كلام الله تعالى، فينبغي أن يعتقد تنزهه عن تلك المخالفة)(22).ونقول: إن هذا الكلام صحيح في حد نفسه، ولكن قد ظهر أن المناسبة موجودة. وهي أن الله تعالى قد أمر ونهى نساء النبي، من أجل الحفاظ على بيت النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه، وإبعاد العيب عنه (صلى الله عليه وآله) وعن الخمسة أصحاب الكساء (عليهم السلام) وذلك تشريفاً له (صلى الله عليه وآله) ولهم وتكريماً، وإعلاءً لشأنهم (عليهم الصلاة والسلام)، ولأجل أن مصلحة الإسلام والدعوة تقتضي ذلك، وتفرضه.أما القرينة الصارفة عن هذا الظهور، فهي الروايات الصحيحة والصريحة المتقدمة، بالإضافة إلى قرائن أخرى تأتي إن شاء الله تعالى.هذا كله، عدا عن أنه لا مخالفة للسياق في الآية حسبما أوضحناه، فلا نعيد.

التطهير، وإرادة النساء:

وبعد.. فإنه إذا كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، مشمولاً لآية التطهير كما يقول به جمهور العلماء والمحققين، وكما نصت عليه الروايات المتقدمة لحديث الكساء.وفرضنا: أن الخطاب في الآية متوجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً ـ تغليباً كما سبق وادعاه البعض ـ فإن الأمر يصبح أكثر إشكالاً.وذلك لأن الخطاب السابق واللاحق إن كان متوجهاً إلى النبي أيضاً ولزوجاته، فإنه يلزم أن يكون (صلى الله عليه وآله) مأموراً بالقرار بالبيت، وعدم التبرج، وهو ممن يضاعف له العذاب ضعفين، ويؤتيه الله أجره مرتين، وهو واضح الفساد.مع ملاحظة: أن الضمائر السابقة واللاحقة خاصة بالإناث.وإن كان (صلى الله عليه وآله) ليس مشمولاً للخطاب السابق واللاحق، لزم اختلاف السياق، وكون الله تعالى قد كان يخاطب جماعة، ثم غيّر أسلوب خطابه من ضمير الإناث إلى الذكور؛ للتبدل الحاصل في من يخاطبهم..أضف إلى ما تقدم: أن إذهاب الرجس والتطهير للنساء إنما هو بالمباشرة، لأنه إنما يحصل بامتثالهن ما صدر إليهن من أوامر وزواجر. أما تطهير النبي (صلى الله عليه وآله) فهو بنحوٍ آخر، أي ثانياً وبالعرض أي بواسطة عدم العيب له بسبب نسائه؛ لأن الطهر له ليس بواسطة المذكور في الآيات من عدم التبرج والقرار في البيوت الخ، ليكون طهراً بالمباشرة بسبب ذلك.فيكون قد استعمل التطهير، وإذهاب الرجس في نحوين مختلفين تمام الاختلاف، من دون جامع ظاهر بينهما ولا يصح ذلك على نحو الاستقلال، كما يقوله كثيرون..وحتى لو كان المراد هو تطهير النبي (صلى الله عليه وآله) بالمباشرة عن الأرجاس التي تناسبه كرجل، فإنه يرد عليه: أن ذلك لم يذكر في الآيات؛ فاستعمال التطهير وإذهاب الرجس المذكور في الآيات بالنسبة إلى النساء وفي أمور أخرى لم تذكر بالنسبة للنبي أيضاً مما لا يساعد عليه الكلام، ولا يمكن فهمه ولا تفهيمه لأحد.

ترتيب القرآن والدلالة السياقية:

وقد نجد البعض يحاول أن يورد على القول؛ بأن سياق الآيات يوجب القول بأن زوجاته (صلى الله عليه وآله) هن المرادات في آية التطهير.بأن القرآن قد نزل تدريجاً، ولم يترتب في الجمع حسب ترتيبه في النزول. وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يعين المواضع التي ينبغي أن توضع فيها الآيات النازلة، فيقول: ضعوا هذه الآية في سورة كذا، وضعوا تلك في سورة كذا. فقد يكون الرسول وضع آية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ..). في هذا الموضع من آيات الخطاب لنساء النبي (صلى الله عليه وآله)، من أجل صيانة القرآن عن أن تناله يد الخيانة، بالتصرف والتحريف. إذ لو لم يفعل الرسول ذلك لوجد الآخرون أنفسهم أمام إحراجات كبيرة فيما يختص بأمر الإمامة، وموقعها، وخصائصها، من الطهارة والعصمة، حينما يواجهون النص القرآني الصريح في هذا المجال.وعلى هذا فالسياق لا يكافئ الأدلة الصحيحة والصريحة عند تعارضهما، لعدم الوثوق حينئذٍ بنزول الآية في ذلك السياق. بل لابد من ترك فحوى السياق ـ لو سلم ظهورها فيما زعموا ـ والاستسلام لحكم تلك الأدلة القاطعة. وذلك لا ينافي البلاغة، ولا يخل بالإعجاز(23).أو قد يكون عثمان أو غيره قد جعل آية التطهير في هذا الموضع، ظناً منه أن نساء النبي (صلى الله عليه وآله) هن المعنيات بها، واجتهاداً في الترتيب.ومن المعلوم: أنه قد وقع اختلاف كثير في ترتيب المصاحف، حتى اصطلح الناس على مصحف عثمان، وقد رووا: أنهم حين جمعوا القرآن فقدوا آية من سورة الأحزاب، فوجدوها عند خزيمة بن ثابت(24).بل من الممكن أن يكونوا قد وضعوا آية التطهير في سياق مخاطبة النساء؛ لبعض مصالحهم الدنيوية. وقد ظهر من الأخبار عدم ارتباطها بقصتهن، فالاعتماد في هذا الباب على النظم والترتيب في غاية البطلان(25).وربما يجدون في قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، على انسجامها واتصالها، لو قدر ارتفاع آية التطهير من بين جملها، ما يؤيد ذلك(26).أضف إلى ذلك: وجود أخبار تدل على سقوط آيات كثيرة، حتى من سورة الأحزاب التي هي مورد البحث، فلعله قد سقط من قبل الآية وبعدها آيات لو ثبتت لم يفت الربط الظاهري بينها(27).ونقول: إننا وإن كنا نوافق على أن القرآن ليس مرتباً على حسب النزول، إلا أننا لا نستطيع قبول سائر ما ذكروه هنا. وذلك للأسباب التالية:

1 ـ إن ما دلّ على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان هو الذي يعين مواضع الآيات، لا يدل على أنه (صلى الله عليه وآله) قد تصرف حتى في أجزاء الآية الواحدة، كما هو الحال هنا؛ لأن آية التطهير جزء من آية، وليست آية مستقلة، وهل يعقل أن يكون (صلى الله عليه وآله) قد لفق بين جزء آية وجزء آية أخرى؟! إن نظير ذلك لم يُنقَل إلينا ولا ادعاه أحد. ومجرد الاحتمال لا يكفي.

2 ـ ما ذكروه من أن من الممكن أن يكون التحريف قد نال القرآن بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لا يصح، فإن سور القرآن وآياته كانت معروفة بأسمائها ومحفوظة ومكتوبة لدى العشرات من الصحابة منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، الذي كان قد وظّف كُتّاباً يكتبون القرآن، ويعملون على حفظه وضبطه بإشراف مباشر منه (صلى الله عليه وآله).

3 ـ إن تصرف النبي (صلى الله عليه وآله) في القرآن إن كان بالشكل الذي يوجب حجب دلالة آية عن معناها المقصود فهو غير معقول، لأن ذلك بذاته يكون تحريفاً للقرآن وتضييعاً للحق، ويجعل الناس معذورين بالمخالفة، ويكون لهم الحجة بعد الرسل.وإن كان لم يوجب ذلك، فلا مجال ولا مبرر للتصرف المذكور، ولا يصح ما قصد إليه من صيانة القرآن من التحريف، ويبقى المحذور الكبير المقتضي للتحريف قائماً بالفعل. إلا أن يقال: لا ريب في أن هذا الجزء من الآية الذي يصرح بتطهير (أهل البيت) (عليهم السلام) قد نزل مستقلاً في مناسبة قضية الكساء. ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) قد وضع هذه الفقرة في ضمن آيات خطاب النساء بأمر من الله سبحانه وتعالى، من أجل تشريف أهل الكساء، وتفهيم الزوجات وغيرهن أنهن لسن في مستوى هذه الصفوة المطهرة، وهذا الكلام لا محذور فيه كما هو ظاهر..

4 ـ ولو سلمنا اختصاص الآية بالزوجات فمعنى ذلك أن يكون تصريح النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث الكساء باختصاص الآية بأهل الكساء غير سديد فكيف ونحن نجده (صلى الله عليه وآله)، يصرّ في أكثر من مرة ـ على الظاهر ـ على خروج نسائه عن مفاد الآية الشريفة؟!

5 ـ لقد أثبتنا في كتابنا (حقائق هامة حول القرآن الكريم) ـ بصورة قاطعة ـ: أن القرآن سليم من أي تحريف أو تبديل فيه، وتحدثنا أيضاً عن ترتيب القرآن ونزوله. وغير ذلك من بحوث، فليراجعه من أراد.


1- هذا المضمون موجود في البحار ج89 ص95 وراجع الوسائل ج18 ص142 و150 وتفسير العياشي ج1 ص12 والمحاسن للبرقي ص300.

2- راجع: وسائل الشيعة ج18 ص150 وتفسير العياشي ج1 ص11.

3- تفسير العياشي ج1 ص17 والبحار ج89 ص110.

4- راجع: نفحات اللاهوت ص85، ودلائل الصدق ج2 ص72.

5- سورة يوسف الآية28 و29.

6- سورة الواقعة الآية 76.

7- سورة لقمان الآية13ـ 16.

وليراجع حول الالتزام بالاستطراد والاعتراض: تفسير القمي ج2 ص193 / 194 والكلمة الغراء (مطبوع مع الفصول المهمة) ص213 / 214 ونهج الحق (هامش) ص174.

8- راجع: التسهيل لعلوم التنزيل ج3 ص137 والكلمة الغراء (مطبوع مع الفصول المهمة) ص213 / 214 والتبيان ج8 ص38 والمواهب اللدنية ج2 ص123 عن زيد بن علي وكذا في البحار ج35 ص207 والبرهان (تفسير) ج3 ص319 ونفحات اللاهوت ص85 وهامش نهج الحق ص174 وتفسير القمي ج2 ص193 / 194 وفتح القدير ج4 ص279 ومشكل الآثار ج1 ص338 و339 والمعتصر من المختصر ج2 ص267 والصراط المستقيم ج1 ص185 ونوادر الأصول ص266 وإحقاق الحق للتستري ج2 ص566 والميزان (تفسير) ج16 ص310 وأضواء على متشابهات القرآن ج2 ص117 والأصول العامة للفقه المقارن ص158.

وجوامع الجامع ص372 تعليقات السيد محمد علي القاضي (في الهامش) ونظرية الإمامة ص182 عن المناظرات للكاظمي ص9 وراجع أيضاً: الجامع لأحكام القرآن ج14 ص182 / 183 والصواعق المحرقة ص141 وينابيع المودة ص294.

9- الفصل الأول، فقرة: الآراء والاجتهادات.

10- راجع: المواهب اللدنية ج2 ص123 وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 والسنن الكبرى ج2 ص150 وراجع: التبيان ج8 ص308 / 309 والتفسير الكبير ج25 ص209 وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج22 ص10 والجامع لأحكام القرآن ج14 ص183 وكلام ابن روزبهان ضمن كتاب دلائل الصدق ج2 ص64 وضمن إحقاق الحق ج2 ص564.

11- التبيان ج8 ص308 / 309.

12- البحار ج35 ص235.

13- راجع: نظرية الإمامة ص182 وراجع: مختصر التحفة الاثني عشرية ص151.

14- سورة الأحزاب الآية 33.

15- سورة الأحزاب الآية 34.

16- سورة هود الآية 73.

17- سورة القصص الآية 29.

18- راجع: فتح القدير ج4 ص279 ونوادر الأصول ص266 والجامع لأحكام القرآن ج14 ص183 ومختصر التحفة الاثني عشرية ص150 ونظرية الإمامة ص182 عن التحفة الاثني عشرية.

19- الآية في سورة النساء/75. وكلام الزمخشري في الكشاف ج1 ص535.

20- ذكر الأجوبة الثلاثة المتقدمة السيد محمد علي القاضي في حاشيته على جوامع الجامع ص372.

21- راجع قصص الأنبياء للنجار ص100.

22- مختصر التحفة الاثني عشرية ص149.

23- راجع: الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء (مطبوع مع الفصول المهمة) ص213 / 214 وراجع: الصراط المستقيم ج1 ص185. والميزان (تفسير) ج16 ص312. وراجع: الأصول العامة للفقه المقارن ص158.

24- راجع: إحقاق الحق للتستري ج2 ص570 والبحار ج35 ص234 وراجع أيضاً: الميزان (تفسير) ج16 ص234 ولكن كلامه مطلق هنا.

25- البحار ج35 ص234.

26- الميزان (تفسير) ج16 ص312.

27- البحار ج35 ص234.