القسم الأول: الفصل الأوّل: آراء وأقــوال

أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن الكريم

بداية:

لقد وردت عبارة (أهل البيت) في موارد كثيرة جداً، في كلمات الرسول تعبيراً عن جماعة خاصة يُنسَبون إليه (صلى الله عليه وآله).وقد ذُكرَت لهم أوصاف، وجُعلت لهم منزلة، ولَزمت الأمة تجاههم حقوق ومسؤوليات كثيرة ومتنوعة، كما أنها هامة وخطيرة.وقد ورد الحديث عن هذه الجماعة بالذات في القرآن الكريم أيضاً، في أكثر من مورد، وأكثر من تعبير، وكان التعبير عنهم بـ (أهل البيت) واحداً منها أيضاً.وحيث إن البعض قد ذهب عن عمد، أو غير عمد، يميناً وشمالاً، في تحديد مراد القرآن من خصوص كلمة (أهل البيت)؛ فقد رأينا: أن نبادر إلى بحث هذا الأمر بالذات.ومن الله نستمد العون، وعليه نتوكل.. ونقول: لقد حدد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) المراد من هذه الكلمة: (أهل البيت) في أحد المواضع التي وردت في القرآن الكريم، بصورة لا تقبل الشك ولا التأويل.ولكن ذلك ـ ويا لهول الخطب ـ لم يستطع أن يحسم مادة الخلاف، وذلك لوجود من يريد أن يصرّ على مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله) بصورة صريحة أو مبطنة، في هذا المورد بالذات، لسبب أو لآخر!!.وتفصيل الحديث في ذلك كله، هو فيما يلي من مطالب.

المدخل إلى البحث:

لقد وردت كلمة (أهل البيت) في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:

الأول: في قصة موسى (عليه السلام)، حينما كان طفلاً صغيراً، والتقطه آل فرعون، ليكون لهم عدواً، وحزناً، فلم يقبل الرضاعة من أية امرأة، وتحير آل فرعون في أمره، فجاءت أخته، فقالت لهم: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)(1).وليس في الآية ما يوضح ما قصدته أخت موسى من تعبيرها هذا، فهل أرادت به الساكنين في بيت من البيوت بقطع النظر عن خصوصية القرابة أم لاحظت القرابة وقصدت كل من لهم قرابة بذلك البيت؟ أم بعضهم؟ وهل أرادت خصوص القرابة النسبية؟ أم ما يعم النسبية والسببية؟ أو ما يعمهما مع من ينسب إلى البيت بالولاء؟ أو بالتربية؟ أو ما هو أعم من ذلك أيضاً؟.هذا بالإضافة إلى أن التعبير قد جاء بصيغة التنكير: (أهل بيتٍ) لا بصيغة التعريف: (أهل البيت).

الثاني: في قصة إبراهيم (عليه الصلاة والسلام)، حينما عجبت زوجته من بشارة الملائكة لها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقالت الملائكة لها: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)(2) فاعتبرت زوجة إبراهيم من جملة (أهل البيت) لأنها وقعت في الآية مورداً للخطاب. ونقول: إن ذلك لا يصلح دليلاً على أن الزوجة تكون من (أهل البيت) في كل مورد أطلقت فيه هذه الكلمة، حتى فيما لا يكون هناك قرينة صالحة لتعيين المقصود.وذلك لأن توجيه الخطاب في الآية الآنفة الذكر لزوجة إبراهيم يصلح قرينة على دخولها في المراد من كلمة (أهل البيت). ولكنه لا يصلح دليلاً على أن كلمة (أهل البيت) موضوعة لما يعم الزوجة، بحيث لابد أن يتبادر ذلك إلى الذهن بمجرد سماع هذه الكلمة، ومن دون أية قرينة. وسيأتي المزيد من الحديث حول هذه الآية إن شاء الله تعالى.الثالث: قوله تعالى: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً).فقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قد وقع بين الآيات التي تخاطب زوجات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بل هو جزء إحدى هذه الآيات؛ فأوجب ذلك الشبهة لدى البعض في المراد بآية التطهير، واتخذه البعض الآخر مبرراً لإثارة بعض الشكوك حول المفاد الحقيقي للآية الشريفة، كما سنرى. ونحن قبل كل شيء نعرض هنا أقوال وآراء الناس في المراد بكلمة (أهل البيت) في الآية المباركة، فنقول:

الأقوال والاجتهادات:

إن مراجعة كلمات المفسرين وغيرهم تعطينا: أن هناك أقوالاً عديدة حول المراد بـ(أهل البيت) في الآية الكريمة وهي التالية:

1 ـ ما ادعاه عكرمة(3)، وكان ينادي به في الأسواق، ويدعو الناس إلى المباهلة فيه، وهو: أن المراد بـ (أهل البيت) في آية التطهير خصوص نساء النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا يشمل غيرهن. وقد نسب هذا القول إلى ابن عباس أيضاً، برواية عكرمة، وسعيد بن جبير عنه(4) ونسب أيضاً إلى مقاتل(5).وإلى عطاء، والكلبي، وسعيد بن جبير(6). وعروة بن الزبير، الذي ادعى أيضاً: أن الآية نزلت في بيت عائشة(7).

2 ـ وقال آخرون: المراد أصحاب الكساء، وهم: النبي (صلى الله عليه وآله)، وعلي، وفاطمة، والحسنان (عليهم السلام)، بالإضافة إلى زوجات النبي (صلى الله عليه وآله). وبعضهم ذكر الزوجات، وأصحاب الكساء باستثناء النبي، كما عن الفخر الرازي، والخطيب، كما ذكره القسطلاني على البخاري(8).

3 ـ وقيل المراد: النبي وحده(9).4

4 ـ وقيل: المراد بنو هاشم، ولا يشمل النساء(10).

5 ـ وقيل: المراد بهم من ناسبه (صلى الله عليه وآله) إلى جده الأدنى.

6 ـ وقيل: من اجتمع معه في رحم.

7 ـ وقيل: من اتصل به بسبب أو بنسب(11).

8 ـ وقال أبو حيان: (لما كان أهل البيت يشملهن وآباءهن، غلب المذكر على المؤنث)(12).

9 ـ وقيل: المراد: النساء، وجميع بني هاشم الذين حرموا الصدقة(13).

10 ـ وقيل: هم علي وفاطمة، والحسنان (عليهم السلام).

ونصّت بعض الروايات والأقوال على دخول النبي فيهم(14).ونسب هذا القول إلى أنس بن مالك، وواثلة بن الأسقع(15)، وأبي سعيد الخدري وعائشة، وأم سلمة(16)، وأصر عليه الطحاوي، والكنجي الشافعي، والذهبي، والقمي(17)، وهو قول مجاهد، وقتادة، والكلبي(18) بل هو قول الجمهور(19). وأكثر المفسرين(20).بل قال البعض: أجمع المفسرون، وروى الجمهور(21): أن الآية نزلت في أهل الكساء.وقالوا: إن مقصود مدّعي إجماع المفسرين: أنهم أجمعوا على شمول الآية لآل البيت، وهم أصحاب الكساء، أما الزوجات فالخلاف في دخولهن موجود.أو المراد إجماع من يعتد بقوله في مقام النزول وشبهه. وليس عكرمة ومقاتل من هؤلاء، لأن هذا يرجع إلى الإخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أو عمن يعتد بقوله من الصحابة. وعكرمة ومقاتل متهمان بالكذب(22).وقد أضافت بعض الروايات الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)(23). وقد ادّعى البعض إجماع الإمامية على شمول آية التطهير لجميع الأئمة (عليهم السلام)(24).

الأقوال في مؤداها النهائي!

وإذا أمعنا النظر في الأقوال الآنفة الذكر نجد أنها تدور حول عناصر ثلاثة:

الأول: دخول الزوجات في المراد من كلمة (أهل البيت) إما باستقلالهن. أو مع أصحاب الكساء، أو مع سائر بني هاشم، أو مع ما هو أوسع، أو أضيق من ذلك.

الثاني: دخول من عدا أصحاب الكساء من أقارب النبي (صلى الله عليه وآله) من بني هاشم، الذين حرموا الصدقة، ولهم مع النبي (صلى الله عليه وآله) قرابة نسبية. وقد يضيف البعض إليهم الزوجات والنبي (صلى الله عليه وآله) مع إصرار بعض آخر على نفيهن.

الثالث: الاختصاص بأهل الكساء، وتضيف إليهم طائفة بقية الأئمة الاثني عشر المعصومين (عليهم السلام)، استناداً إلى روايات عديدة تصرح بذلك.والأدلة كلها تعود في حقيقتها إلى نفي أو إثبات هذه العناصر، وإن اختلفت ـ جزئياً ـ في ما ترمي إلى إثباته..

غاية الأمر: أن ما ذكره البعض من أن المعني في آية التطهير هو خصوص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ والذي يتراءى للنظر: أنه زائد على العناصر الثلاثة المتقدمة ـ لم نجد من تصدى للاستدلال له. ولم نتمكن ـ رغم تتبعنا لهذا الأمر ـ من الوقوف على من التزم به وتبناه، ولذا فلا نرى حاجة للتعرض له نفياً أو إثباتاً في بحثنا هذا.ولسوف نقتصر هنا على ما له ارتباط مباشر بالعناصر الثلاثة الآنفة الذكر، فإلى ما يلي من مطالب..


1- سورة القصص، آية12.

2- سورة هود، آية73.

3- راجع جامع البيان ج22 ص7 والدر المنثور ج5 ص198 عنه وعن ابن مردويه، وفتح القدير ج4 ص278 و279 والتبيان ج8 ص308 وسير أعلام النبلاء ج8 ص208 وتفسير القرآن العظيم ج3 ص483 والتفسير الحديث ج8 ص268 و263 عنه وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص206 والميزان ج16 ص310 ومجمع البيان ج8 ص356 وأسباب النزول ص204 والمواهب اللدنية ج2 ص122 ونور الأبصار ص110 والصواعق المحرقة ص141 ولباب التأويل للخازن ج3 ص366 وإسعاف الراغبين، «بهامش نور الأبصار» ص108 وأحكام القرآن ج5 ص230 وتاريخ الإسلام للذهبي (عهد معاوية) ص133 ومرقاة الوصول ص106 والجامع لأحكام القرآن ج14 ص182.

4- الدر المنثور ج5 ص198 عن ابن ابي حاتم، وابن عساكر، وابن مردويه، وفتح القدير ج4 ص278 و279 وتاريخ الإسلام للذهبي (عهد معاوية) ص133 وتفسير القرآن العظيم ج3 ص483 وسير أعلام النبلاء ج2 ص221 و208 وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 والمواهب اللدنية ج2 ص122 وأسباب النزول ص302 ونور الأبصار ص110 والصواعق المحرقة ص141 ولباب التأويل ج3 ص466 وإسعاف الراغبين «مطبوع بهامش نور الأبصار» ص108 ومرقاة الوصول ص106 والجامع لأحكام القرآن ج41 ص182.

5- فتح القدير ج4 ص278 وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص206 ونور الأبصار ص110 ولباب التأويل ج3 ص466 وإسعاف الراغبين «بهامش نور الأبصار» ص108.

6- فتح القدير ج4 ص278 وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص206 عن ابن جبير والجامع لأحكام القرآن ج14 ص182 عن عطاء.

7- الدر المنثور ج5 ص198 عن ابن سعد، وراجع فتح القدير ج4 ص279 ومرقاة الوصول ص10 وراجع تفسير الميزان ج16 ص310.

8- راجع في ذلك كلاً أو بعضاً: السنن الكبرى ج2 ص150 وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 و209 والمواهب اللدنية ج2 ص123 وفتح القدير ج4 ص280 وإسعاف الراغبين مطبوع بهامش نور الأبصار» ص108 ومرقاة الوصول ص107 و108 والجامع لأحكام القرآن ج14 ص183 وكلام ابن روزبهان موجود في دلائل الصدق ج2 ص94 وراجع نظرية الإمامة ص181 و182 عن التحفة الاثني عشرية ص202.

9- راجع: الصواعق المحرقة ص141.

10- راجع فتح القدير ج4 ص280 والجامع لأحكام القرآن ج4 ص183 عن الثعلبي، وزيد بن أرقم وتفسير الميزان ج16 ص310 ولباب التأويل للخازن ج3 ص466 وإسعاف الراغبين «مطبوع بهامش نور الأبصار» ص108 وفي ص107 قال: «وفي رواية: أنه أدرج معهم بقية بناته، وأقاربه، وأزواجه».

11- المواهب اللدنية ج3 ص127.

12- تهذيب تاريخ دمشق ج4 ص209.

13- راجع تهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 والتسهيل لعلوم التنزيل ج3 ص137 وإسعاف الراغبين «مطبوع بهامش نور الأبصار» ص108 والصواعق المحرقة ص141.

14- راجع ينابيع المودة ص294 والصواعق المحرقة ص141 والمواهب اللدنية ج2 ص123 وفتح القدير ج4 ص279 وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 وإسعاف الراغبين ص108 وتفسير القمي ج2 ص193 و194 والكشاف ج3 ص538 ومشكل الآثار ج1 ص332 و339 والمعتصر من المختصر ج2 ص266 و267 وغير ذلك مما سيأتي.

15- مجمع البيان ج8 ص356.

16- تهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 وراجع: مجمع البيان ج8 ص356 وإسعاف الراغبين ص108 عن الخدري وغير ذلك.

17- راجع: مشكل الآثار ج1 ص332 ـ 339 وكفاية الطالب ص54 وخلاصة عبقات الأنوار ج2 ص67 و371 وتاريخ الإسلام للذهبي (عهد الخلفاء الراشدين) ص44 وتفسير القمي ج2 ص193 و194.

18- فتح القدير ج4 ص279 وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 والجامع لأحكام القرآن ج14 ص182 عن فرقة منهم الكلبي، وإسعاف الراغبين ص108 عن جماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة.

19- تهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 وفتح القدبر ج4 ص279. وراجع: المواهب اللدنية ج2 ص123.

20- ينابيع المودة ص294 وراجع: الصواعق المحرقة ص141.

21- نهج الحق ص173 وراجع المطبوع ضمن إحقاق الحق ج2 ص502.

22- راجع إحقاق الحق للتستري تعليقات آية الله المرعشي ج2 هامش ص502 وراجع نفس إحقاق الحق للتستري ج2 ص565 ودلائل الصدق ج2 ص95.

23- راجع هذه الروايات في كتاب آية التطهير في أحاديث الفريقين للأبطحي ج1 و2 وكتاب سليم بن قيس ص150.

24- راجع هامش كتاب جوامع الجامع ص372.