الفصل العاشر: الحسد والمحسودون في الروايات.

الفصل العاشر: الحسد والمحسودون في الروايات.

روايات تحتاج إلى إيضاح.

وتبقى أمام القارئ الكريم روايات تحتاج إلى إيضاح، هي التالية:

1. روي عن الإمام أبي الحسن الثالث (ع) قال: الشجرة التي نهى آدم وزوجته أن يأكلا منها، شجرة الحسد. عهد إليهما: أن لا ينظرا إلى من فضّله الله عليه، وعلى خلايقه بعين الحسد، ولم يجد له عزماً (1).

2. عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (ع)، في حديث طويل، قال: فلما أسكن الله عز وجل آدم وزوجته الجنة قال لهما: ﴿ كُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ - يعني شجرة الحنطة - فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾.. فنظرا إلى منزلة محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة عليهم السلام بعدهم، فوجداها أشرف منازل أهل الجنة، فقالا: ربنا لمن هذه المنزلة؟!

فقال الله جل جلاله: إرفعا رؤوسكما إلى ساق العرش.

فرفعا رؤوسهما، فوجدا أسماء محمد، وعلي، وفاطمة، والأئمة عليهم السلام مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الله الجبار جل جلاله، فقالا: يا ربنا، ما أكرم أهل هذه المنزلة عليك، وما أحبهم إليك، وما أشرفهم لديك!!

فقال الله جل جلاله: لولاهم ما خلقتكما. هؤلاء خزنة علمي، وأمنائي على سري، إياكما أن تنظرا إليهم بعين الحسد، وتمنيا منزلتهم عندي، ومحلهم من كرامتي، فتدخلان بذلك في نهيي وعصياني، فتكونا من الظالمين.. قالا: ربنا ومن الظالمون؟!

قال: المدعون لمنزلتهم بغير حق.. إلى أن قال: يا آدم ويا حواء، لا تنظرا إلى أنواري وحججي بعين الحسد، فأهبطكما عن جواري، وأحل بكما هواني، ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا﴾.. إلى قوله: ﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ﴾.. وحملهما على تمني منزلتهم، فنظرا إليهم بعين الحسد، فخذلا حتى أكلا من شجرة الحنطة الخ.. (2).

3. عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت للرضا (ع)، يا ابن رسول الله، أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء، ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من يروي: أنها الحنطة. ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد؟، فقال (ع): كل ذلك حق.

فقلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟!

فقال (ع): يا أبا الصلت، إن شجرة الجنة تحمل أنواعا. وكانت شجرة الحنطة، وفيها عنب، وليست كشجرة الدنيا. وإن آدم لما أكرمه الله تعالى ذكره بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة قال في نفسه: هل خلق الله بشراً أفضل مني؟

فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه: ارفع رأسك يا آدم، وانظر إلى ساق عرشي.. فرفع آدم رأسه، فنظر إلى ساق العرش، فوجد مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين. الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟

فقال عز وجل: هؤلاء من ذريتك، وهم خير منك، ومن جميع خلقي. ولولاهم ما خلقتك، ولا خلقت الجنة والنار، ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد، وتمنى منزلتهم.

فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، فسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما الله تعالى من جنته، وأهبطهما عن جواره إلى الأرض (3).

4. وروى الكليني، بإسناده إلى الزهرى، محمد بن شهاب قال: سئل الإمام السجاد (ع): أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل؟

فقال (ع): ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل، ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل من بغض الدنيا.

وإن لذلك لشعباً كثيرة. وللمعاصي شعباً. فأول ما عصي الله به الكبر. وهي معصية إبليس حين أبى واستكبر، وكان من الكافرين. ثم الحرص، وهي معصية آدم وحواء حين قال الله عز وجل لهما: ﴿كُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾.. الخ.. (4).

وقفات مع الروايات.

ويواجهنا في الروايات المتقدمة مشكلتان، لا بد من حلهما ليمكن الالتزام بمضمونها، وهاتان المشكلتان هما:

1. آدم من الظالمين.

2. كون آدم حاسداً.

فلا بد لنا من النظر في هذين الأمرين، لأن ذلك يفيد في فهم ما ترمي إليه الآيات الكريمة التي تحدثت عن قضية آدم، فنقول:

آدم (ع) من الظالمين:

لقدوصف آدم (ع) في الرواية الثانية بأنه من الظالمين.. ومن الواضح: أن الله سبحانه وتعالى قد قال في آية أخرى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.. (5).

فالآية تفيد أن أي عهد إلهي، سواء أكان عهد نبوة أو عهد إمامة لا يناله الظالمون.. ولأجل ذلك قال: لا ينال عهدي، ولم يقل: لا ينال الإمامة، فإذا كان آدم ظالماً كما ورد في الرواية، فكيف نال عهد النبوة؟ وكان عنده خمسة وعشرون حرفاً من اسم الله الأعظم؟!..

إن ذلك يدل على أن المراد بالظلم هو ظلم النفس، بمعنى محاولة حمل أمور كبيرة عليها، يصعب حملها في العادة.

وقد تقدم: أن هذا الأمر العظيم الذي يدعوه لتحمل المشاق هو أمر يتناسب مع أهدافه كنبي يسعى إلى نيل رضا الله سبحانه، والحصول على درجات القرب منه تعالى.

فالمراد بالظلم إذن هو هذا المعنى، وهو أن يحمّل نفسه المشاق، وليس المراد الظلم للآخرين، المتضمن للتعدي على حرمات الله سبحانه.

الحسد لأهل البيت عليهم السلام.

وقد اتضح مما قدمناه أيضاً: أن آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام قد كان منسجماً مع نفسه، ومع أهدافه السامية - وهذا هو ما يفترض فيه - حين سعى إلى نيل مقامات القرب من الله تعالى، وآثر تحمل أعباء هذا السعي.

وهو قد سعى إلى نيل مقام معنوي أوحدي منحصر بأهله، لا يمكن لأحد أن يصل إليه حتى الأنبياء.. وواضح: أن السعي إلى نيل مقامهم ملازم لإزالة صفة الإختصاص بهم عنهم، لتحل محلها صفة المشاركة، بل إن ذلك ملازم لأن تحل محلها صفة أدنى منها. لأن الرئيس مثلاً إذا أزيل عن مقام الرئاسة ليحل محله رئيس آخر، فإن ذلك معناه زوال صفة الرئاسة عنه، وإن كان لا يزال في مستوى عظيم من الإحترام.. وهذا يشبه في بعض وجوهه تمني زوال الصفة أو النعمة عن المحسود، وانتقالها إلى الحاسد على وجه الاختصاص به.. وهذا ما أشارت إليه الروايات المتقدمة، من أنه (ع) قد تمنى مقام أهل البيت لنفسه، فإنه وإن لم يكن قاصداً لسلب نعمة ذلك المقام عنهم، ولا طالباً له، ولكن يلزمه سلب اختصاص ذلك المقام بهم. فهو قد قصد ما يلزم منه - لو حصل عليه - زوال إحدى الصفات عنهم صلوات الله عليهم، وهي صفة الاختصاص والتفرد لهم.. وإن لم يكن ملتفتاً إلى ذلك، وذلك رغبة منه في الحصول على كل ما يقدر على الوصول إليه من مقامات القرب والرضا.

وهذا نظير ما لو كان هناك موقع جميل على رأس جبل، يحاول إنسان أن يصل إليه ويكون فيه، مع عدم التفاته إلى أن حلوله فيه يستلزم إزالة غيره عنه. فهو لم يتمن زوال النعمة عن شخص، ليكون ذلك حسداً محرماً، بل تمنى الوصول إلى المقام الأوحدي العظيم، من دون التفات إلى أن أحداً قد بلغ إلى هذا المقام، واحتل تلك المنزلة.. وهذا ما يفسر لنا التعبير بالحرص الوارد في الرواية المتقدمة المروية عن الإمام زين العابدين (ع)، وقد صرحت بأن الحرص من آدم (ع) كان هو السبب فيما جرى لآدم وزوجته صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا وآله.. وخلاصة القول: إن النبي آدم (ع) قد رأى موجودات عالية بلغت مقامات عظيمة من القرب، والكرامة الإلهية، فتمنى أن يكون معهم، وبدأ يسعى في هذا السبيل، ولكنه لم يكن يملك ما يمكنه من تحقيق أهدافه.. وقد كان تمنيه وسعيه هذا، يشبه الحسد، من حيث إن هذا المقام منحصر بتلك الموجودات، فتمني الكون معهم معناه أن لا يكون ذلك الموقع منحصراً بهم، لأن الحسد القبيح هو تمني زوال النعمة عن الشخص حتى لو لم تصل تلك النعمة إلى المتمني.. ولكن هناك مرتبة من الحسد ليست قبيحة، وهي ما لو تمنى أمراً لنفسه، ولم يتمنَّ زواله عن أحد، لكن قد يلزم من تمنيه هذا زوال صفة التفرد والإنحصار بالغير، وهذا كما لو كان إنسان في قرية، يحمل شهادة الدكتوراه، فهذا امتياز له وليس لأحد سواه، فإذا تمنى أحد أن يصبح مثله، فإن ذلك يزيل صفة التفرد عنه، وهي صفة لها قيمتها بنظر الناس، وإن لم يلتفت هو إلى ذلك، فأصبح هذا التمني بمثابة الحسد من جهة، وهو غبطة من جهة أخرى.. والنبي آدم (ع) كان يريد مقامات الزلفى عند الله، ولذلك طلب صفة الملائكية، والتخلص من الشهوات والغرائز، وطلب الخلود في طاعة الله، وطلب الملك الذي ييسر له مختلف أنواع القربات، لقد طلب الصفاء، والخلوص, بأقصى الدرجات، وأفضل الحالات، وآثر أن يتحمل أعظم المصائب، من أجل التخلص من الدنيا، ومن أجل الوصول إلى أشرف الغايات وأسماها، وأعزها وأغلاها..

الحسد المنهي عنه.

وقد نهى الله النبي آدم عن الحسد، ولكن لا شك في أن هذا النهي منصرف إلى المراتب القبيحة منه، وهي تمني زوال النعمة عن الآخرين، ولم يخطر في باله إلا أن التمني لمقام تلك الأنوار هو أمر سائغ، بل واجب، لأنه يعبر عن حبه لله تعالى، وسعيه في رضاه، ولم يتمن زوال صفة الأوحدية والتفرد عنهم (6)، ولعله لم يلتفت إلى أن صفة الأوحدية هذه ثابتة لهم عليهم السلام من الأساس، ولعل هذا هو مراد الإمام الرضا (ع) حين قال: "إن آدم لم يأكل، ولم يقرب نفس الشجرة، وإنما أكل من جنسها".. فلما بذل المحاولة تبين له الأمر على حقيقته، وحصلت له الآثار التكوينية، التي لا مجال للتخلص منها، فهو كما لو شرب إنسان دواء مسهِّلاً، وهو لا يعلم، فإنه لا بد أن يترك أثره عليه، وجهله بحقيقته لا يجعله في مأمن من حصول ذلك الأثر.

فالنهي الإلهي نهي عن تحمل المشقات والمتاعب، التي كان الله يعلم أنها ستنتهي به إلى هذه النتيجة، وهو نهي إرفاقي، ناشئ عن العلم بأمور خافية على النبي آدم، وعن العلم الواقعي بعدم تمكن النبي آدم من الوصول إلى ما يطمح إليه.. ولكن مبادرة النبي آدم وسعيه يكشف عن خلوص جوهره، وصفاء عنصره، وعن حسنه الفاعلي، وإن لم يستطع في مقام الفعل أن يحقق ما ينويه، وأن يصل إلى ما يطمح إليه.. وقد قلنا: إن النبي آدم كان عارفاً بالله، شاكاً في مقولة إبليس، رغم وجود مؤيدات لصحة ما يدَّعيه، وهو ما يشاهده النبي آدم من ارتباط لتلك الشجرة المنهي عنها بتلك الأنوار العالية ومن كون المنهي عنه شخص شجرة بعينها، بحسب دلالة اسم الإشارة، وبما يشير إليه وجود مثيلات لها، إذ لو لم يكن المقصود هو شخص المشار إليه، فلماذا كانت الإشارة الحسية، مع وجود نظائر لتلك الشجرة هناك؟!.. وحين أكل من الشجرة، فإن خطاب الله سبحانه له (ع)، قد جاء وفق علمه تعالى بالواقع.. فالنبي آدم مخالف لصورة النهي، ويسمى هذا عصياناً، وهو أيضاً قد فعل خلاف الرشد الذي هو مقابل (الغي)، (أي ما لا يوصله إلى مطلوبه بحسب علمه تعالى)، وهذا ما يصحح خطابه بقوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾.. ويصحح قوله: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.. وهذا الخطاب منه تعالى، خطاب محبة وحنان، ورأفة، ورحمة، وليس خطاب انتقاص، وغضب وإبعاد، لأن الله يعلم حقيقة نوايا النبي آدم، وأن ما جرى له إنما هو أمر تكويني لا خيار له فيه، وليس نتيجة غضب، ولا هو عقوبة إلهية.. ولذلك اصطفاه الله، واجتباه، وتاب عليه، وهداه.. وقد اعترف النبي آدم بأنه قد حمَّل نفسه ما لا تطيق، ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾.. وعرف أن ما أراد أن يصل إليه هو مما يشبه الحسد، أو هو من جنسه، وإن لم يكن حسداً قبيحاً، ولكنه وإن لم يكن آثماً بارتكابه، بسبب عدم القصد له، لعدم علمه بأسرار الواقع، وبحقائق تلك الأنوار، وبمقاماتها الأوحدية، ولكن لا ضير في أن يذكِّره الله تعالى بأن نهيه له عن الأكل من الشجرة كان سببه هو هذه الأمور التي انكشفت للنبي آدم بعد هذه المتاعب والمصائب.. ولعل ما ورد في الرواية الأخرى من التعبير بالحرص، قد أوضح المقصود، وهو أن النبي آدم (ع) قد دفعه حرصه على الوصول إلى ذلك المقام العظيم، إلى بذل محاولات للوصول إليه، رغم أنه لم يكن يملك الاستعداد الكافي له من حيث ملكاته، وإمكاناته. ولم يكن يريد أن تزول أية نعمة عن غيره، وإن كان لازم سعيه هذا - لو نجح - زوال تفردهم واختصاصهم عليهم السلام بها.. فقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾.. يريد به: أنكما لن تصلا إليها، وسوف تفشلان في محاولاتكما، لأنكما لستما في مستوى أولئك الصفوة، وهم النبي وأهل بيته، وسينكشف ضعفكما وقصوركما.. فالحسد الذي تحدثت عنه الروايات ليس رذيلة، بل هو فضيلة للنبي آدم (ع)، لأنه يعبر عن مدى حرصه على منازل الكرامة الإلهية، ولم يكن (ع) يقصد إزالة غيره عن ذلك المقام. وإن كان وصوله إليه يزيل صفة الانحصار بهم، وهي ميزة وكرامة لهم.. فالنبي آدم (ع) قاصد لمقام الرضا الإلهي، لا لأجل الحلول في مقام وموقع الغضب الإلهي، وقد نال النبي آدم بحرصه هذا وبتضحياته تلك، مقام الإجتباء الإلهي.

السؤال ما قبل الأخير.

وبعد.. فإن هناك من يقول: لو كان الاستدلال بالآيات على صدور الذنب متعسراً، بل متعذراً، ولم يكن الأكل من الشجرة خلاف الأولى، لكان ينبغي على الله تعالى أن يأمر النبي آدم بالأكل من الشجرة، لا أن ينهاه عنها.. وإن كان إبليس قد حقق طموحات النبي آدم الإلهية، حينما أطاعه وخالف نهي الله، لوجب أن يستحق إبليس كل تقدير، وليس الطرد والإبعاد!!

ونقول في الجواب:

أولاً: إن إبليس كان يسعى لإيقاع النبي آدم (ع) في المشكلة، ولم يكن يدري أنه سيكون لذلك نتيجة يتمنى أن لا تكون، بل هي تأتي في سياق معاكس لما يسعى لوضع آدم فيه.. وكأن هذا نظير ما جرى لفرعون، فإنه جاء بالسحرة، ليتغلب بهم على النبي موسى (ع)، فكانت النتيجة هي إيمان السحرة، وخيبة فرعون فيما خطط له.

ثانياً: إن الله يعلم: أن النبي آدم لا يملك القدرات التي تمكنه من نيل مقامات أهل البيت عليهم السلام، وقد أمره بما يعلم أنه قادر عليه، لكنه لم يمنعه من أن يفكر ويسعى لتلك المقامات، ليثبت بذلك حسنه الفاعلي.. أي أنه تعالى قد أمره بما يطيق، وبين له الحد الذي يطيقه، وهو أن لا يصل إلى تلك الشجرة، وبين له أيضاً: أن التفكير في تلك الشجرة معناه: أن يحمل نفسه أموراً صعبة، ويتعرض لمشاق هائلة.. ولم يمنعه منها منعاً مولوياً تترتب عليه العقوبة، بل نهاه نهياً إشفاقياً، ولو كان يعلم منه القدرة على الوصول لكان أمره له أمر جزم وحتم، ولم يعذره بالتخلف عن تلك الغاية، فالمانع من الأمر هو علم الله بعجز النبي آدم.. ولكن على النبي آدم أن يظهر شدة حرصه على نيل تلك المقامات، وأن يعرض نفسه لأعظم البلاءات، لينال بذلك الجائزة الكبرى، وهو مقام الإجتباء والاصطفاء.. ولم يتمن النبي آدم زوال النعمة عن أحد، ليكون قد مارس الحسد المذموم.. فاتضح: أن الله تعالى إنما لم يأمر النبي آدم لآجل عدم توفر القدرة على الامتثال.. وكان على النبي آدم أن يسعى لنيل ذلك المقام، ولا منافاة بين الأمرين.

آخر سؤال.

وقد يقال: إن كل هذا التعب، إنما هو بسبب الإجمال في البيان الإلهي، فلماذا لم ينصب الله تعالى للنبي آدم قرينة تدله على مراده، ليجنبه الوقوع في هذا الذي وقع فيه؟!.. وإذا لم ينصب له قرينة على مراده، فلماذا لم يعمل النبي آدم بالاحتياط الذي هو سبيل النجاة؟!.. ويمكن أن يجاب عن ذلك:

أولاً: إن الإجمال قد يكون مقصوداً، إذ ربما يكون الهدف الإلهي هو إبراز استحقاق آدم لمقام النبوة والخلافة في الأرض، وهو ما كان موضع ترديد لدى الملائكة، حيث اعتقدوا: أنهم وحدهم هم القادرون على إيصال هذا الكون إلى كماله ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ (7).. فأراد الله سبحانه أن يكون النهي الإلهي لآدم (ع)، وارداً في سياق الإمتحان والإختبار له صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا وآله.. لكي يظهر الله سبحانه - بصورة عملية - للملأ الأعلى أهلية آدم لما أهله تبارك وتعالى له، إذ في مثل هذه المواقع تتجلّي طموحات وأهداف آدم السامية وتظهر ملكاته، وخصائصه الإيمانية بأبهى صورة، وأصدق وأتم تعبير.. ولا تبقى مجرد توقعات، أو أخبار يستند القبول والتصديق بها إلى الإيمان بالغيب، وتكون هي مجرد سبيل للتعبد والإنقياد..

ثانياً: إن الإجمال في البيان قد يكون هدفاً بذاته، من حيث إنه يسهم بصورة قوية في إثارة أجواء فكرية، وفي طرح تساؤلات، وقضايا تتوفر بذلك المبررات لطرحها، والتداول والتفكير فيها.. فيكون هذا الموقف بالنسبة لآدم ولجميع البشر، من موارد الإغراء بالعلم لا بالجهل، كما هو ظاهر.. ولأجل ذلك اعتمدت البيانات القرآنية لكثير من القضايا هذا النهج بالذات، خصوصاً القضايا الإعتقادية.

وهذا المورد بالذات بما تضمنه من تعابير، وإشارات وإلماحات مثيرة، هو أحد أهم الشواهد على ما نقول..

ثالثاً: لقد قلنا أكثر من مرة: إنه قد كانت هناك قرائن على إرادة نوع الشجرة، لا شخصها وهي:

1. نفس ملاحظة عدم وجود فرق بين تلك الشجرة، وما سواها مما هو من نفس جنسها..

2. الإشارة الحسية لشجرة بعينها، فإن هذا وذاك، يجعل البيان كافياً في حد نفسه، وافياً بالحاجة، مزيلاً للجهل المنهي عنه في مرحلة الظاهر الذي هو الحجة الإلهية، والمعيار في المثوبة والمؤاخذة..

3. ثم جاء القسم ليزيد من اليقين، وليصل بالأمر إلى حد الحتم والجزم.. ولكن لا يجب في البيان إزالة الاحتمالات العقلية، واقتلاعها من جذورها، بل قد لا يكون ذلك صحيحاً في بعض الأحيان، فإن الله تعالى قد جعل الشجرة غاية لما يمكن أن يكون في وسع النبي آدم أن يقوم به.. ثم يأتي إبليس، فيعمل على تحريض النبي آدم على الاندفاع باتجاه أمور لم يكن له القدرة على تحملها، ولا طاقة له بها، مستعيناً على استبعاد تلك القرينة، التي تحدد طاقة النبي آدم، و تنهيها بالشجرة فقط، فيزيل هذا التحديد، ويبطل أثره، بالاعتماد على ما قام به من مقاسمة آدم: أنه له من الناصحين.. ومن الواضح: أنه لا يجب على المتكلم والآمر والناهي أكثر من إلقاء الكلام إلى المتلقي بما له من ظواهر، ولو بواسطة القرائن.. ولا يجب عليه حفظ تلك القرائن من أن تمتد إليها أيدي العابثين والمبطلين، بل يجب على المبطلين أنفسهم أن أن لا يفعلوا ذلك، حتى إذا ما فعلوه استحقوا العقاب بسبب تعديهم على الحدود.. وبذلك يتضح: أنه ليس المورد من قبيل الخطاب بالمجمل، كما أنه ليس من موارد العمل بالاحتياط، وفقاً لما شرحناه من لزوم تصدي النبي آدم لهذا الأمر..

كلمة أخيرة:

وفي الختام.. نقول: إننا لا نريد أن نطلب من القارىء الكريم أن يعلن أنه قد انتهى إلى درجة اليقين بأن ما ذكرناه هو صريح الآيات المباركة، الذي لا محيص عنه.. فإن القرائن، والدلائل، والشواهد المتضافرة، تأخذ بأيدي بعضها البعض، لتعطي ظهوراً قوياً للآيات فيما نقول.. وقد ظهر أن ذلك هو ما ينسجم مع المفاهيم والقواعد العقلية، ومع الثوابت واليقينيات من مذهب أهل البيت (ع)، الذين هم صفوة الخلق وسفينة نوح، التي من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى.. ولكننا نريد من القارئ الكريم أمرين:

أحدهما: أن يكون لديه اليقين كل اليقين بعصمة الأنبياء عن كل خطل وزلل، قبل بعثتهم، وبعدها.. حتى لو لم يتمكن من اكتشاف التأويل الصحيح لهذه الآية ومثيلاتها.. فليرد علمها إلى الراسخين في العلم صلوات الله عليهم.. وذلك لأن هذه العصمة ثابتة بالدلالة العقلية القاطعة التي لا مجال لأي شبهة فيها.

الثاني: أن يفسح المجال لاعتبار ما ذكرناه في تفسير الآيات الشريفة، التي تحكي لنا قصة آدم (ع)، أمراً محتملاً وقريباً جداّ في معنى الآيات.. وأن الجزم واليقين بخلافه، متعسر، بل متعذر، إلى الحد الذي يجعل الاستدلال بالآيات المذكورة على صدور الذنب.. بل حتى على صدور خلاف الأولى من النبي آدم (ع)، حتى قبل تشريع الشرائع أمراً غير مقبول، وبعيداً عن الإنصاف العلمي - ليس فقط لفقده المبررات المعقولة والمقبولة، بل لوجود موانع كثيرة في نفس هذه الآيات، التي رأينا بوضوح كيف أنها - فضلاً عن الروايات - تبطل تصريحاً، وتلويحاً في كثير من فصولها وتعابيرها أي استنتاج من هذا القبيل، وتبعده عن دائرة الصحة، أو احتمالها.. ولكن قبولنا الافتراضي هذا، ليس معناه القبول باحتمال صدور المعصية من النبي آدم (ع).

بل هو يعني - فقط - لزوم الاعتراف بالعجز عن فهم المعنى العميق، والمغزى الدقيق للآيات المباركات، وأن على الإنسان العاقل في مثل هذه الحالة أن يرجع علمها إلى أهلها؛ فإنما يعرف القرآن من خوطب به.

أما احتمال صدور المعصية فعلاً، بل صدور خلاف الأولى منه (ع) مع التفاته إلى أولوية المتروك، فقد قلنا: إنه أمر مرفوض جملة وتفصيلاً، وذلك لوجود المانع العقلي، واليقيني الجازم بعدمه. ولضرورة الاعتقاد الجازم والأكيد بنزاهة الأنبياء والأئمة الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) عن كل معصية، ونقص، وإخلال.

وليكن هذا البحث المقتضب هو إحدى الخطوات في الاتجاه الصحيح في فهم آيات القرآن الكريم، وإدراك مراميها، وتلمّس دقائقها ومعانيها.

ومن الله نستمد القوة والعون، ونطلب منه الهداية والرشاد، والتوفيق والسداد، إنه ولي كل نعمة، وقاضي كل حاجة، ومنتهى كل رغبة.

والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.


1- نور الثقلين تفسير ج3 ص402 عن العياشي والبرهان تفسير ج2 ص6.

2- نور الثقلين ج2 ص12 وراجع ج1 ص67 و68 عن معاني الأخبار والبرهان تفسير ج1 ص82 و83.

3- نور الثقلين تفسير ج1 ص60 عن عيون أخبار الرضا والبرهان تفسير ج1 ص83 و84.

4- نور الثقلين تفسير ج1 ص60 عن أصول الكافي والبرهان تفسير ج1 ص81.

5- الآية 124 من سورة البقرة.

6- وهذا هو المقصود بقوله ×: «وإياكما أن تنظرا إليهم بعين الحسد، وتمنيا أي ان تتمنيا منزلتهم عندي»، فإن المراد الذي فهماه، بحسب الظاهر: هو النهي عم التمني المؤدي إلى زوالهم ^ عن منزلتهم، وحلولهما هما في تلك المنزلة. ولكن حين لا يكون الأمر كذلك، فإن التمني للوصول إلى ما وصلوا إليه يصير عين الكمال، وغاية في الحسن..

7- الآية 30 من سورة البقرة.