الفصل التاسع: العصيان.. والغواية.. والتوبة.. والمغفرة..

الفصل التاسع: العصيان.. والغواية.. والتوبة.. والمغفرة..

الغواية، ضد الرشد لا ضد الضلال:

ولربما أصبح واضحاً:

أولاً: أن غواية آدم (ع) ليست بمعنى الضلالة عن طريق الهدى، وإنما هي ضد الرشد، بمعنى أنه (ع) لم يصل إلى مطلوبه، الذي أراده وسعى إليه.. حيث إنه قد حاد ومال عن هدفه، وغوى عنه.. وبقي في وسط الطريق لأجل مانع، حال بينه وبين مواصلة طريقه، ومن كان كذلك، فإنه لا يكون ضالاً، لأن رعاية الله له واضحة، وسبيل الوصول أيضاً معروف المواصفات، لكن قد حصل مانع له من الوصول، أوجب عجزه عن تحقيق مراده، وخيبته فيما قصد إليه. وهذا هو المراد بكلمة: (غَوَى).

ثانياً: لو كان المقصود بالغواية، الضلال.. لَلَزِم أن يقول: غوى آدم وضل، فعصى. لأن المعصية تنشأ من الضلال، ولا ينشأ الضلال عن المعصية.. العصيان ليس هو التمرد: ثم إنه قد اتضح أيضاً: أن معنى العصيان في قوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾.. ليس هو التمرد على الله، وكسر هيبته، وهتك حجاب عزته.. بل معناه عدم موافقة العمل المأتي به لظاهر كلامه سبحانه الذي جاء على شكل أمر أو نهي.

وبعبارة أخرى: مرة يلاحظ في الأمر حال الآمر وموقعه، وحرمته، وهيبته، وسيادته، ومولويته، فيكون للاستسلام، والعبودية، والسيادة، والموقعية، الدور في الانبعاث، والتحرك لامتثال الأمر، فيقال: لمن لم يتحرك للامتثال: (عصى)، بمعنى تمرد على مولاه، وكسر هيبته، وذلك مثل الأوامر التعبدية، التي لا يعرف المكلف الوجه، ولا المصلحة فيها.. ومرة يكون الانبعاث ناشئاً عن الشعور بأمرين، هما: لزوم حفظ السيادة وإدراك وجود مصلحة في المطلوب.. ومرة لا يكون لحال الآمر أثر في الأمر، فلا يكون سيداً ولا مولى، بل يكون صديقاً، ومخالفة أمره لا توجب كسر مولويته، ولا هتك حرمته، بل هو يستجيب لأمره من موقع اللياقة والمجاملة.. ومرة رابعة يكون إدراك وجود المصلحة هو الداعي والمحرك، كأمر الطبيب للمريض، فالداعي للطاعة هو الإحساس بجدوى المأمور به في الشفاء، وهذا الداعي هو معنى داخل في مضمون متعلق الطلب.. وكذا لو أعطيت السائل الطالب، فإن الإعطاء ليس لأجل امتثال أمره، ولا لحفظ مولويته وسيادته، بل لأن العاطفة تحركت في قلبك.. وإذا قال الببغاء: إفعل. فإن قوله لا يوجب أي تحريك.. فاختلاف الدواعي يوجب الاختلاف في العنوان الذي ينشأ عن المبادرة والامتناع، ولأجل ذلك فإن كلمة: (عَصَى)، يختلف معناها باختلاف هذه الحالات.. فمعصية الله غير معصية الطبيب والصديق، والسائل وغير ذلك. فمعصية الله في أوامره التعبدية معناه كسر هيبته، وهتك حرمته، والجرأة عليه، والتمرد على مولويته. أما معصيته في أوامره الإرشادية، أو الواردة في مقام التخيير، أو لأجل رفع الحظر، وكذلك معصية السائل، والطبيب، والصديق، فلا توجب ذلك.. فمثلاً، لو وصف لك طبيب دواء، لكن طبيباً آخر، قال لك: هذا الدواء يشفيك في شهر، وأنا أصف لك دواء يشفيك في ثلاثة أيام، ولكن بشرط أن تتحمل بعض المضاعفات التي تنشأ عنه، فأخذك بالدواء الذي وصفه الطبيب الثاني، لا يعني أنك عصيت الطبيب الأول، ولا يعني أنك هتكت حرمته، وخرقت هيبته، وليس هذا من العصيان القبيح، لأنك قصدت الحصول على الشفاء مع الأول، ومع الثاني، فأنت فعلت حسناً معهما معاً، ولم تسئ إلى أي منهما.. لكن الأول أراد أن يجنبك المضاعفات الصحية، وأنت اخترت تحملها، وأخذ الدواء الثاني.. فإذا ظهر أن الطبيب الثاني قد أخطأ، أو أنه كذب عليك، فإنه هو الذي يلام. ولا تلام أنت، ولا الطبيب الأول، رغم معصيتك لأمره، مع شدة احترامك وحبك له.. ويصح للطبيب الأول أن يقول لك: لقد عصيتني، فوقعت فيما وقعت فيه، لكنها ليست معصية بمعنى التمرد عليه، وهتك الحرمة.. كما قلنا.

ولأجل ذلك يبادر الطبيب الأول مرة أخرى إلى معالجة السلبيات التي لحقت بك، من موقع المحبة، واللطف، والعطف.. وعلى حد تعبير العلامة الطباطبائي رحمه الله: إن استعمال عصى في خصوص الأوامر المولوية إنما هو طريقة الشرع، وإلا فإن الإستعمال اللغوي لا يقتصر على ذلك، بل يراد به مطلق عدم الانفعال بالأمر والنهي، سواء أكان الأمر والنهي مولويين، أو إرشاديين، حيث لا يكون ثمة عنوان السيادة ملحوظاً في نشوء الأمر والنهي.. سواء أكان هناك سيادة بالفعل، كالإرشادات الإلهية التي تهدف إلى إلفات الناس إلى بعض المنافع أو المضار في بعض الموارد، أو لم تكن هناك سيادة ومولوية وعبودية، كما في أوامر ونواهي الأطباء (1).

توبة آدم (ع).

وبعد، فإن الله تعالى، قد قال: إنه هو الذي تاب على النبي آدم، ولكنه لم يصرح بتوبة النبي آدم (ع). وحتى لو كانت هناك توبة من النبي آدم، فإن هذه التوبة لا تعني الإقلاع عن المعصية، عن ندم، وتصميم على عدم العود.

بل هي هنا بمعنى الالتجاء إلى الله سبحانه، القادر على مد يد العون، فإن المشكلات التي يواجهها قد أكدت حاجته إلى التسديد والرعاية الربانية.

فمن الطبيعي أن يعود النبي آدم (ع) إلى ربه الرحيم، وأن يخشع، ويخضع له، ويطلب منه، وهو الغني الكريم، والرؤوف الرحيم، أن يعود عليه بالإحسان، والفضل، والهداية.

فاستجاب الله سبحانه له، وأمده بالرزق، وبالدواء، وفتح له أبواب الرحمة والهداية إلى كل ما يفيد في سد الخلل، ورفع النقص، ودفع العجز.

وقد كان ذلك كله قبل أمر الله تعالى له بالهبوط، وأما لو كان المراد بالتوبة هو ما يقولونه، فلا معنى لعقوبة النبي آدم بإهباطه من الجنة، لأن الله قد صرح بأنه قد تاب عليه، وأنه قد أعطاه الهداية أيضاً.. قبل إهباطه، فإهباطه بعد أن تاب الله عليه، يعطينا أن المراد، بالتوبة هو ما قلناه.. وليس ما قالوه.

التوبة عند العلامة الطباطبائي رحمه الله.

وقد استدل العلامة الطباطبائي رحمه الله على أن التوبة ليست عن ذنب بما ملخصه: أن التوبة هي الرجوع من العبد، فإذا تاب عليه مولاه، فإن الذنب يصبح كلا ذنب، فيتعامل معه، وكأن شيئاً لم يكن. مع أن آدم (ع) لم يرجع إلى الجنة، فما معنى القول بأن الله قد تاب عليه، وعادت الأمور إلى حالتها الأولى، وكأن شيئاً لم يكن؟!.. فذلك يدل على أن التوبة ليست عن معصية، وعلى أن الخروج من الجنة لم يكن عقوبة له، بل كان أمراً تكوينياً، كاستتباع السم للقتل، والنار للإحراق (2).

ونقول: إن ذلك لا يكفي دليلاً، إذ قد يكون هناك توبة عن ذنب ما، ثم لا ترجع الأمور إلى حالها الأول، وذلك بسبب أن للمعصية نفسها آثاراً تكوينية، كشرب الخمر الذي يحدث قروحاً في المعدة، أو أمراضاً أخرى، فإن التوبة منه، وقبول هذه التوبة من الله إنما يعني مجرد رفع العقوبة، ولا يعني لزوم أن يشفيه الله سبحانه من تلك القروح أو الاختلالات، أو الأمراض التي نشأت عن شرب الخمر.

ولأجل ذلك نقول: إن ما ذكرناه هو الأقرب إلى القبول.

المغفرة.

ولا بأس بأن يطلق على هذا الستر المطلوب من قبل النبي آدم وزوجه بإلحاح، وبحرص: أنه مغفرة، فالمغفرة، في عمق معناها، هي الستر.. ثم لا بأس بأن يتوجه النبي آدم (ع) بطلب تلك المغفرة، وذلك الستر الشامل، إلى الله تعالى الغني القادر على كل شيء.

وإن من تجليات قدرته تعالى أن يسخر مخلوقاته كلها - كل بحسب ما يناسبه - في سبيل سد كل خلل، ورفع كل نقص، وأن يساعد آدم على إنجاز هذا المهم الذي سيرافقه ويرافق ذريته إلى أن تقوم الساعة. وهذه المساعدة على انجاز هذا المهم على أتم وجه.. إنما تأتي من منطلق حبه له، ورحمته تعالى به: ﴿تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا﴾.. ومن أهم مفردات هذه المعونة، الهداية الإلهية المنسجمة مع كل نواميس الكون وسننه التي أودعها سبحانه فيه، وهو الأعلم بدقائق صنعه، وهو بديع السموات والأرض. الرحمن الرحيم، ولأجل ذلك نجد الله تعالى يقول: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾.


1- راجع: تفسير الميزان ج1 ص 137 و 138.

2- راجع: تفسير الميزان ج1 ص136.