الفصل السابع: هبات وعوائد إلهية..

الفصل السابع: هبات وعوائد إلهية..

الإنتظار المر:

والذي يثير الانتباه جيداً هنا: أن الله سبحانه حين ابتلي آدم (ع) بالأكل من الشجرة، وظهرت عليه عوارض البشرية، التي لا تتناسب مع الحياة في تلك الجنة.. أصبحت اللحظات الحرجة تمر عليه ببطء شديد، وتثاقل مرهق وقاس، ويتعاظم لديه الشعور بالضيق، وأصبح يتلهف للخروج مما هو فيه بأية صورة، وأصبح يحس باللحظات التي تمر، وكأن كل لحظة دهراً.. وصح التعبير من أجل ذلك بكلمة (ثُمَّ)، الدالة على التراخي، في قوله: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾..

الجائزة الكبرى للناجحين:

نعم، في هذه اللحظات بالذات شملته الرحمة الإلهية العارمة، حتى قبل أن يتفوه (ع) بأي كلمة - كما هو ظاهر السياق القرآني. وحباه جل وعلا بوسام الشرف والاستحقاق، وأعطاه جائزة سنية قبل أن يهبطه إلى الأرض، حين أناله مقام الاجتباء الإلهي.. المتمثل بعوده عليه بالألطاف والرحمات، والمواهب الجليلة. فقد قال تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى / ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى / قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾.. والجائزة إنما تعطى للناجح المميَّز الذي أنجز عملاً مرضياً، وخطيراً، ولا تعطى لمن عصى وتمرد، أو لمن فشل وسقط في امتحان الجدارة.. وذلك كله يشير إلى: أن لهذا العصيان الذي ذكر في الآية الكريمة: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾.. معنى لا يتضارب مع إعطاء الجائزة على نفس هذا العصيان بالذات، وكانت الجائزة هي الاجتباء، والاصطفاء الإلهي له (ع)..

معنى الاجتباء.

والاجتباء كما قاله الراغب هو:

(الجمع على طريق الاصطفاء).. وقال أيضاً: (اجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي، ليتحصل منه أنواع من النعم، بلا سعي من العبد. وذلك للأنبياء، وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء).. (1).

وليتأمل المتأمل هنا كيف جاء التعبير في الآية المباركة بكلمة (اجْتَبَاهُ)، وكأنها تريد أن تلمح إلى ما كان يعاني منه آدم (ع) من توزع مضنٍ، وانتشار وامتداد من موقع الحاجة والعجز، والضعف، في مختلف جهات حياته، فأصبح يجوع، ويعرى، ويمرض، ويعاني من الحر والبرد، ويضعف ويقوى، و.. أصبح بحاجة إلى من يساعده على جمع ذلك الشتات، ولملمة ذلك الانتشار، وسد هاتيكم الثغرات، وتقوية ضعفه، ورفع عجزه بما يناسب ذلك كله، وبما يتطلبه من تهيئة حاجات ومرافق، وما يفرضه من هدايات ودلالات.

كما أن بعض الأعلام قد ألمح إلى أن المراد: أن الله قد اجتبى آدم (ع)، أي جمعه إليه سبحانه (2) وسلك به إلى نفسه، لا يشاركه فيه غيره، بما أعطاه من هدايات تيسّر له ذلك، من حيث أنه تعالى هو الرحيم بعباده، العائد عليهم بألطافه وعناياته.. وخلاصة القول: إن النبي آدم (ع) قد بادر إلى التضحية الحسية والواقعية بكل ما لديه في سبيل الوصول إلى مقامات جليلة وعظيمة عند الله، وقد ظهرت آثار هذه التضحية في البلاء الذي واجهه.. وبذلك يكون قد أثبت خلوصه، وكونه صفوة الله، فاستحق أن يجمعه الله إليه، وأن يصطفيه لنفسه، وأن يمنحه وسام الإجتباء لنجاحه في الإمتحان.. الذي لا ينجح فيه إلا صفوة الخلق.. فما صنعه الله له، ليس مجرد معونة لمن احتاج إلى المعونة، بل الموضوع موضوع مكافأة، وإعلان لمقام الاجتباء الرفيع، الذي يحتاج إلى أسباب كامنة في ذات الشخص المجتبى..

النبي آدم (ع) يتلقى الكلمات.

وقد حدثنا الله سبحانه: أنه سبحانه في غمرة هذا الحدث، وبعد الهبوط مباشرة، قد أعطى عبده آدم (ع)، كلمات تعقبتها التوبة عليه مباشرة، قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.. ولبيان ذلك نقول: إن هذه الآية قد ألمحت إلى الأمور التالية:

1. دلالات قوله تعالى ﴿فَتَلَقَّى﴾: إن الله سبحانه لم يترك آدم (ع) يواجه المصاعب وحده، بل أمده مباشرة وبدون إمهال بأسباب الخلاص مما هو فيه. وكان آدم (ع) ينتظر هذه الأسباب، ويهيء نفسه لها - كما تشير إليه كلمة ﴿فَتَلَقَّى﴾ - التي جاءت بفاء التفريع، التي تفيد التعقيب من دون مهلة.

كما أنه لم يقل: فألقى إليه كلمات، بل قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾.. لأن التعبير بالتلقي يؤكد على هذا الانتظار من قبل النبي آدم (ع) لتلك الكلمات، مع استعداد وتهيؤ لاستقبالها، بما يليق بها ويناسبها، من وعي، وسمو روحي، وعرفان، لأنها كلمات شريفة وعالية، لا بد أن تتوفر فيه القابلية لنيلها، والوصول إليها، وإدراك ما يمكنه إدراكه، من حقائقها وحالاتها.. ويكون نفس وصولها إليه، وحلولها في قلبه ووعيه، وروحه، سبباً في رفع مشكلاته، وقضاء حوائجه، لأنه يصبح مستحقاً لذلك بنفس هذا النيل لتلك الكلمات.. فالتلقي إذن ملازم لفهم تلك الأسماء الدالة على حقائق تلك الموجودات الشريفة، والأسماء التي تشير إلى أصل وجودها، وتساعد على رسم صورة لها في وعيه.. ولأجل ذلك نقول: إنه إذا قال القائل: تلقيت فلاناً، فمعنى ذلك: أنه قد استعد وتهيأ، ليلاقيه بما يناسب حاله ومقامه..

2. التلقي للكلمات كان: ﴿مِن رَّبِّهِ﴾.. ويلاحظ: أن هذه الكلمات قد تلقاها آدم (ع) من موقع الربوبية التي توحي بالرعاية والتنشئة الحريصة على مصلحته، والمهتمة بحفظه. على وفق الحكمة، والتدبير الصحيح، وتحت رعاية عين العلم الثاقبة والنافذة إلى الأعماق، والمحيطة بأسرار كل هذا الوجود، ومن هنا نجده تعالى يقول: ﴿مِن رَّبِّهِ﴾.. ولم يقل من الله.. ولا بد أن تكون الكلمات المذكورة كلمات عظيمة، كما ربما تلمح إليه كلمة التلقي.

وكما يشير إليه تنوين التنكير الذي جيء به - في ما يظهر - لإفادة التعظيم.

بالإضافة إلى كونها آتية إليه من جانب العزة الإلهية، والفيض الربوبي، الذي ينتظره، وهو في أمس الحاجة إليه، بعد أن حدث له ما حدث..

3. عظمة الكلمات التي تلقاها آدم (ع):

ثم جاءت التوبة عليه بعد تلقيه تلك الكلمات مباشرة، كما ألمح إليه التعبير بالفاء في قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾، مما يعني أن هذا التلقي الكريم لتلك الكلمات، ووضعها في موقعها اللائق بها، وإدراك النبي آدم لمعانيها قد نتج عنه أن أصبح النبي آدم مؤهلاً للتوبة عليه، ولتلقي الرحمات الإلهية.. ولعل هذا التلقي للكلمات هو الذي نتج عنه الإجتباء، أو هو نفسه الإجتباء، أو ملازم له.. فإن الآية قد جعلت توبة الله على النبي آدم نتيجة للإجتباء تارة، ولتلقي الكلمات أخرى.. مما يعني أنهما أمران متلازمان على أقل تقدير، فإن الإجتباء مستلزم لرفع مستوى النبي آدم، وتقريبه إليه سبحانه، وجمعه شتاته، واصطفائه، وهذا ملازم لمزيد من الرقي في الوعي والرسوخ في الإيمان، وغير ذلك له (ع).. ووعي تلك الكلمات هو الذي يجسد ذلك الرقي الذي ينتج عنه عودة الله سبحانه على آدم (ع) بلطفه وعونه ورعايته، ولهذا فإن الله لم يقل: دعا آدم ربه، فتاب عليه، بل قال: إن نفس تلقي النبي آدم للكلمات استتبع عود الله عليه..

الكلمات ليست مجرد قراءة دعاء:

وإن عظمة هذه الكلمات، ثم تفريع التوبة على تلقيها يشير إلى أن دورها في حياة آدم (ع)، من حيث كونها "كلمات"، تدخل في دائرة التلفظ المستتبع للتوبة.

وذلك يشير إلى أنها كانت مادة أساسية ومحورية في دعائه (ع).. فهي إذن ليست مجرد قراءة دعاء، حتى لو كان هذا الدعاء هو: (لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فاغفر لي، وأنت خير الغافرين.لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فارحمني، وأنت خير الراحمين. لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فاغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم) (3).

لا، ليس المقصود بها خصوص هذا الدعاء، بل هي كلمات أخرى تحتاج إلى تعليم.. وهي كلمات لها شرف ومقام كريم عند الله، تحتاج إلى استعداد وتهيؤ لاستقبالها ولتلقيها.

أما مجرد التجاء المحتاج والمنكوب إلى الله سبحانه، والاعتراف أمامه بالقصور، وبالتقصير، وطلب العون، والستر، والمغفرة منه، كما تضمنته فقرات هذا الدعاء، فلا يحتاج إلى التعليم الإلهي، إذ إن ذلك هو ما تسوق إليه طبيعة الإنسان العارف بالله، الواقف أمام جلاله وعظمته، المدرك لمدى عجزه في مقابل قدرته تعالى، وضعفه مقابل قوته تعالى، وفقره وحاجته أمام غناه وكرمه سبحانه.. فليس هذا الدعاء إلا ذلك الخطاب المألوف، والواقعي، والطبيعي جداً، ولا يحتاج إلى تعليم. وليس هو بالأمر المغفول عنه، بل ينساق إليه المحتاج إلى الله في مواقع الشدة، خصوصاً من هو مثل النبي آدم (ع)، في معرفته بالله سبحانه، بفطرته وسجيته.. وذلك كله يجعلنا لا نقتنع بقول من يقول: إن الكلمات هي خصوص هذا الدعاء، بل لا بد أن يكون معه أيضاً - أو بالاستقلال عنه، ما هو أعظم وأهم وهي - أسماء أهل البيت عليهم السلام، وهم محمد، وعلي، وفاطمة، والحسنان صلوات الله عليهم أجمعين، ليكونوا شفعاءه ووسيلته، كما دلت عليه الروايات الشريفة، فراجع (4).

وهذه الأسماء هي التي كان الله قد علمه إياها، في وقت سابق وذلك حينما أمر الملائكة بالسجود له، وأراد تعالى أن يظهر لهم عظمة آدم، وأنه لابد أن يوصل الكون إلى كماله من خلال معرفة خاصة تتناسب مع حقيقة تلك الموجودات العالية.. وليس للملائكة مثل هذه القدرات - نعم لقد علمه الله هذه الأسماء - ثم عرضهم على الملائكة، ورأى أنوارهم وشاهد مقاماتهم، وعرف أنهم هم الشفعاء الكرماء، الذين لا بد أن ينتظر مساعدتهم، فتهيأ واستعد لاستقبال الكلمات الدالة على عظيم شأنهم من ربه تبارك وتعالى..

4. العلامة الطباطبائي رحمه الله، يؤيد ويؤكد: هذا.. وقد ذكر العلامة الطباطبائي (قده) هنا، ما يؤيد ويؤكد على ما نقول. وهو أن الملائكة قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ / وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا﴾.. (5).

فهذا يعني: أنه تعالى قد أقام الحجة على الملائكة بتعليمه لآدم (ع) هذه الأسماء، مما يعني أنها أسماء من شأنها حل كل المشكلات، وإزالة كل آثار الظلم والمعاصي، ودواء كل داء، وإصلاح كل فاسد، فأسكتهم بذلك، وأقام الحجة عليهم.

وذلك معناه: أنها أسماء موجودات عالية، لا يتم كمال المستكمل إلا ببركاتها، وهي كما دلت عليه الأخبار أسماء أهل البيت (ع).

أما قول بعضهم إن الكلمات هي قول آدم (ع): ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.. فقد رده العلامة الطباطبائي (قده):

أولاً: بأن آيات سورة البقرة قد دلت على أن التوبة وقعت بعد الهبوط إلى الأرض. وهذه الكلمات قد صدرت من آدم (ع) قبل الهبوط كما في سورة الأعراف.

ثانياً: بل الظاهر هو أن قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾.. تذلل وخضوع قبال ندائه تعالى، وليس دعاء بالكلمات المتلقات (6).

ثم ذكر أخيراً.. أنه تعالى حين يعود إلى آدم (ع) ليستنقذه بلطفه، ويمده بعونه، ويقوي ضعفه، ويرفع عجزه، فإنما يفعل ذلك من حيث هو تواب كثير العودة إلى عباده، لمساعدتهم، وسد الخلل الذي يعانون منه، وإن عودته هذه إليهم إنما هي من موقع رحيميته بهم، التي يحتاجونها، لتقوي ضعفهم، ولتسدّ الخلل، وترفع النقص..


1- المفردات في غريب القرآن ص87 و88.

2- تفسير الميزان ج14 ص 223.

3- الكافي وتفسير الميزان ج1 ص147 و148 عنه وعن الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم.

4- المصدر السابق.

5- الآيتان 30 و31 من سورة البقرة.

6- راجع: تفسير المنير ج1 ص148 و149 وراجع ص133 و134.