الفصل السادس: أباطيل.. وأقاويل..

الفصل السادس: أباطيل.. وأقاويل..

لا يوجد سوء ظن بالله.

وبعد البيان الذي قدمناه، فإنه لا يبقى محل للتساؤلات التي قد تثار، من أنه كيف يصدق النبي آدم إبليس، مع أن تصديقه له معناه سوء الظن بالله، وترك التسليم له تعالى، واعتقادهما بنصح إبليس، يستلزم الاعتقاد بأن الله قد غشهما، ونجح مخطط إبليس.. نعم، لا يبقى مجال لهذا: فقد قدمنا:

أولاً: إنه ليس ثمة ما يدل على معرفتهما بأن نفس هذا الذي يخاطبهما هو نفس ذلك الذي حذرهما الله منه.. وذلك لإمكان أن يكون إبليس نجح في التخفي عنهما، والظهور بصورة تختلف عن صورته التي كان عليها حين التحذير، كما أشارت إليه بعض الروايات.. بل قد أشرنا إلى أن من المحتمل أن يكون إبليس قد كادهما بأحد جنوده، وربما يؤيد ذلك: أنه لا يوجد في جميع الآيات أي تصريح باسم إبليس، بل التعبير في الجميع، هو بكلمة (الشيطان) - ويصح نسبة فعل ذلك الشيطان إلى إبليس أيضاً، لأنه هو الموجه والمدبر..

ثانياً: إنه إنما يلزم من تصديق إبليس سوء الظن بالله، واعتقاد الغش فيه والعياذ بالله، لو كان الأمر دائراً بين النفي والإثبات، بأن يكون النبي آدم قد ناقض أمر الله تعالى بحرفيته، وبعمق مضمونه.. أما إذا تكونت قناعة تقول: إن النواهي الإلهية قد تكون إلزامية، وقد تكون لأجل التسهيل، والتخفيف.. ثم رجح الاحتمال الثاني بالقسم.. الذي يؤكد على أن النهي الإلهي كان متوجهاً إلى شخص الشجرة.. ثم أيدت ذلك القرينة الكلامية، وهي استخدام اسم الإشارة الذي يحتاج إلى الإشارة الحسية لشخص شجرة محددة، حيث قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾.. ثم ظهر أن للشجرة ارتباطاً بموجودات عالية، وسامية المقام كما سيتضح.. نعم.. إذا اجتمعت كل هذه القرائن، والأحوال، فإن الإقدام على الأكل من سنخ الشجرة، مراعاة للأدب مع الله، بملاحظة ظاهر نهيه من جهة، واحتياطاً لنفسه من أن يكون من المفرطين بدرجات القرب من الله من جهة أخرى، لا يعني أن ثمة اعتقاداً لدى النبي آدم (ع)، بأن الله غاش - والعياذ بالله - وإبليس ناصح...

ثالثاً: إن البيان الذي ذكرناه، والقرائن التي ألمحنا إليها، تشير إلى أن النبي آدم قد فهم من خلال القرائن أن ما يفعله ليس فقط لا يعد مخالفة لأمر الله، بل هو عين الثقة بالله، والطاعة والانقياد له تعالى، بل هو من أعظم مظاهر التضحية والفداء في سبيل رضاه، وأصبح يرى نفسه ملزماً به، منقاداً له..

رابعاً: إنه قد ظهر من البيان الذي قدمناه: أن النبي آدم لم يطع إبليس، ولا صدقه، بل هو قد سعى لفهم مراد الله تعالى.. وأقدم على الأكل من الشجرة عن قناعة تكونت لديه، من خلال وسائل إثبات بيانية، لا عن طاعة عمياء لإبليس.. وقد قلنا: إن القرائن المتقدمة، ومنها الإشارة الحسية لشخص الشجرة والقسم، قد حصرت خيار النبي آدم في خصوص الأكل من الشجرة، ليخرج بذلك من دائرة التفريط في جنب الله والإستخفاف بعظمة الله، وكبريائه، فيما لو تجاهل القسم.. وذلك اعتماداً منه على الوسائل التي يجب عليه أن يتوسل بها، فعدم امتثال النهي عن الشجرة، ليس على سبيل التمرد عليه تعالى، بل على سبيل الفناء في الطاعة له تعالى، التي استحق بها مقام الاصطفاء والاجتباء.. وهذا نظير من نهاه والده عن أمر، لأنه يعلم بأنه يعجز عنه، فظن أنه نهاه شفقة عليه، وأنه لو عمله، فسوف ينال عظيم الرضا منه، فبادر إليه، فظهر له أنه عاجز، وعرف سبب نهي أبيه له، ولكن عجزه هذا أوجب له ضرراً جسدياً مثلاً.. فإذا خاطبه أبوه بما يوافق علمه الواقعي، فإن ذلك لا يجعل الولد عاصياً في الواقع، بل هو مطيع في صورة عاص وهو بار بوالده غاية البر، رغم نهي والده له، ورغم مخالفته هو للنهي..

خامساً: إن إبليس لم يطلب من النبي آدم (ع) وزوجه ترك التسليم لأمر الله تعالى، والتمرد عليه، بل دعاهما لتحمل المشاق في سبيل رضاه تعالى.. وقد كان يهدف إلى أن إيقاع النبي آدم بالبلاء الدنيوي كالجوع، والعري، والحر، والبرد، وغير ذلك. تماماً كما جرى للنبي أيوب، ولم يكن يريد أن يضله، لأن إبليس يعلم أنه لو طلب من النبي آدم (ع) التمرد على الله تعالى، فسوف لن يطيعه (ع).. وقد انقلب السحر على الساحر، فبدلاً من أن ينحط مقام النبي آدم ويتعب، فإن الله تعالى قد جمعه إليه، ورفع درجته، وأغدق عظيم ألطافه عليه..

نجاح مخطط إبليس.

وأما الحديث عن أن مخطط إبليس قد نجح، حيث خالف النبي آدم النهي المتوجه إليه.. فهو غير صحيح، فإن ما جرى إنما كان نجاحاً للنبي آدم كأعظم ما يكون النجاح، حتى استحق مقام الإجتباء الإلهي.. ولعلك تقول: كيف يكون النبي آدم (ع) هو الناجح؟!.. ونحن نرى:

1. أنه (ع) قد أهبط من الجنة: (اهْبِطَا)، و(اهْبِطُواْ)..

2. أنه قد عوتب من قبل الله على أكله من الشجرة، قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾..

3. أنه عوتب على إطاعة إبليس: ﴿وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.. ونقول في الجواب:

أولاً: لو كان ما عمله النبي آدم (ع) أمراً مرجوحاً، لم يستحق جائزة عليه، بحيث يمنحه الله تعالى مقام الاجتباء والاصطفاء مباشرة، والذي ذكر في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾.. وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ﴾.. (1).

ثانياً: إن ما جرى للنبي آدم من هبوط، إنما هو من آثار سعيه لنيل أعلى مقامات الرضا والكرامة الإلهية، وأن يكون مع الأنوار التي رآها عند العرش، ولم يكن يعلم أنه عاجز عن الوصول إليها، وأن لسعيه هذا آثاراً طبيعية، وقد حصلت له فعلاً، وهذا نظير من يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فإن من الطبيعي أن تتورم قدماه، وأن تصبح له ثفنات من أثر السجود، وغير ذلك.. كما نأن من يسافر إلى الحج مشياً على الأقدام، فمن الطبيعي أن يأخذ منه التعب أي مأخذ، وأن تتشقق قدماه.. ولا يعني ذلك أنه مخطئ فيما فعل، بل هو مطيع لله تعالى، عابد له، يستحق المثوبة.

وحين ابتلي النبي آدم بآثار طاعته، كان الله هو الذي تولى إزالة تلك الآثار، وجمعه إليه على سبيل الاجتباء، ورفع درجته، وشرَّفه، وكرَّمه، وأعلى مقامه..

ثالثاً: إن قوله تعالى: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾.. إنما هو إعلام لهما بحقيقة ما جرى لهما، وأن سببه هو الأكل من تلك الشجرة، إذ ليس ثمة ما يدل النبي آدم على أن الأكل من الشجرة كان هو السبب فيما عرض لهما من حالات الجوع، والعري، والحر، والبرد، وغير ذلك مما يعرض لأهل الدنيا.. ولعل الحيرة أخذتهما بعد أن كان لديهما وعد إلهي يقول: ﴿إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى / وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾.. كما أنه قد قال للنبي آدم: ﴿اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾.. فلماذا يخرجهما منها؟.. ولماذا يحصل لهما جوع، وعري؟! و.. ؟!

فأراد الله تعالى أن يعرِّفهما: أن الأكل من الشجرة هو الذي جعلهما غير قادرين على البقاء في الجنة تكويناً، وأن ما يجري عليهما من جوع، وعري، وحر، وبرد.. إنما هو نتيجة أكلهما منها.

فكلام الله تعالى لهما: ليس عتاباً، بل هو تطمين إلى أن الله لا يزال معهما يرعاهما، ويلطف بهما، وأن ما جرى لهما لم يوجب بعدهما عنه، بل هو قد أوجب قربهما منه، ولذلك اجتباهما، وجمعهما إليه على سبيل الاصطفاء..

جنس الشجرة أم شخصها؟

وقد يقال: إنه لو كان النبي آدم (ع) لا يعرف: هل أن متعلق النهي هو شخص الشجرة؟ أم جنسها؟!، فكيف صح احتجاج الله عليه وعتابه له بقوله: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾؟!.. فإن هذا يدل على أن الشجرة كانت معروفة ومشخصة لهما بجميع صفاتها وخصوصياتها.. ونقول: إن الجواب قد اتضح مما ذكرناه آنفاً، وهو: أن هذا ليس احتجاجاً ولا عتاباً، ولا لوماً، بل هو بيان لأمر قد أبهم على النبي آدم وحواء عليهما السلام، يراد به تعريفهما بحقيقة ما جرى لهما وبأسبابه، وأن ماجرى لا يعني أن الله قد تخلى عن وعوده لهما، أو أنه عاتب عليهما، أو أنهما قد أبعدا عن مقامهما، وأهبطا إلى الأرض على سبيل العقوبة، بل إن ما جرى إنما هو نتيجة طبيعية للسعي الذي بذله النبي آدم للحصول على مرضاة الله، وقد كان يجب عليه أن يسعى، ليكون مستحقاً لمقام النبوة والخلافة في أرض الله تعالى، ولكن هناك آثار لا بد له من مواجهتها، وتحملها، والصبر عليها..

لماذا لا يحتاط النبي آدم (ع)؟

ويبقى سؤال، وهو: أنه إذا كان النبي آدم أمام احتمالين:

أحدهما: أن يكون المنهي عنه هو شخص الشجرة..

الثاني: أن يكون المنهي عنه هو سنخها.

فقد كان عليه أن يحتاط، ويتحفظ، لا أن يبادر إلى مخالفة النهي الإلهي.. ونقول في الجواب:

إن الاحتياط ها هنا خلاف الاحتياط، لأن النهي عن الشجرة إنما جاء بواسطة الإشارة الحسية إلى شجرة بعينها، مع وجود مثيلات لها، بالإضافة إلى القَسَم الذي واجه النبي آدم، ونقل عهدة أي خطأ ليصبح في ساحة القدس الإلهية، ليكون تعالى هو المتولي، وهو الضامن، والكافل.. هذا بالإضافة إلى ما رآه من ارتباط لتلك الشجرة بموجودات شريفة، وعالية، يذكو لديه الطموح للوصول إلى منازلها، كما أشارت إليه الروايات.. فالنبي آدم قد عمل بما يفرضه عليه إيمانه، وجلال وعظمة الله في قلبه وإجلاله لأسماء الله الحسنى الواردة في القسم، وما يفرضه عليه الأخذ بالحجج والوسائل البيانية المتوفرة لديه..وهذا ما يدعو إلى أن ينيله الله المزيد من الرحمة، والمحبة، وأن يصطفيه ويجتبيه إليه.. وليس في كلام إبليس ما يتناقض مع مفاد ذلك النهي بحسب الظاهر، الذي لا بد للنبي آدم من التعامل على أساسه، بل إن إبليس قد أكد له مفاده، وذكَّره به، وإنما خاطب النبي آدم (ع) بما هو خارج دائرة النهي، وهو خصوصية في هذا النوع من الشجرة، وهي أن أكله منها سوف يوصله إلى أنوار آل محمد التي شاهدها حول العرش، وعرَّفه أن الوصول إلى ذلك، دونه مشقات ومتاعب لم يرد الله أن يكلفه بها على سبيل الحتم والجزم.. وقد جاءت المقاسمة لتمثل التجاء الطرفين إلى الله، لجعل الأمر في ضمانته وكفالته سبحانه وتعالى، ليتولى هو قصاص من يكذب، أو يغش.

وكان لا بد للنبي آدم أن يسعى لنيل تلك المقامات لشدة تعلقه بالله ومحبته له، ولم يكن النبي آدم (ع) مكلفاً بالواقع، بل بما تؤدي إليه الوسائل والدلالات الظاهرية.. كما أنه لم يكن يعلم أنه غير قادر على الوصول إلى تلك المواقع العالية لهم عليهم السلام.. ولكن الله قد خاطب النبي آدم بحسب علمه تعالى بواقع الأمور، فعبَّر بالغواية التي هي ضد الرشد، وعبَّر بالمعصية التي هي مجرد عدم مطابقة الفعل لصورة الأمر.


1- الآية 33 من سورة آل عمران.