الفصل الرابع: إبليس.. وآدم (ع).. والشجرة..

الفصل الرابع: إبليس.. وآدم (ع).. والشجرة..

هدف إبليس:

والآيات الكريمة، تعطينا أن هدف إبليس لم يكن هو إغواء آدم (ع)، وجره إلى المعصية.

ويشير إلى ذلك:

أ- أن إبليس كان يعلم: أن آدم (ع) كان من عباد الله المخلصين - بفتح اللام - أي الذين ليس فيهم أي شائبة لغير الله سبحانه.. وقد تأكد هذا الأمر له حين أمره الله بالسجود له، إعظاماً للنبي آدم وتكريماً، وإعزازاً، وإعلاماً بحقيقة جوهره، وأنه خيرة الله، وصفوته من خلقه، فاستكبر إبليس لعنه الله، فاستحق غضب الله، والطرد من ساحات قدسه ورحمته..

ب- إن إبليس كان يعلم أنه غير قادر على إغواء النبي آدم (ع)، فتحول إلى ذريته وأكد على أنه سوف يحتنك هذه الذرية، وسيزين لهم المعاصي، وسيقعد لهم صراط الله المستقيم، ليصدهم عنه، ويردهم إلى التيه والضلال.

﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً﴾ (1).. وقال سبحانه حاكياً قول إبليس لعنه الله: ﴿وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ / إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (2).

فإبليس إنما يتوعد ذرية آدم (ع) بالغواية والإضلال، ولا يجرؤ على التفوه بشيء في حق آدم (ع) نفسه، لأنه يعلم أنه عاجز عن ذلك.. ج - قلنا إن هدف إبليس لم يكن جر آدم (ع) إلى الجرأة على الله، والتمرد عليه ومعصيته، لأنه كان يائساً من أن يتمكن من ذلك, بل كان إبليس يعلم أن بقاء النبي آدم وذريته في الجنة، حيث لا جوع ولا عطش، ولا عري، ولا.. ولا.. سوف يصعِّب عليه الوصول إلى غاياته الخبيثة في الإضلال والإغواء.. ولأجل ذلك فقد كان هدفه الذي أعلنته الآيات الكريمة هو أن يخرج آدم (ع) من الجنة، ليواجه هو وذريته الجوع، والعطش، والعري، والحر، والبرد، والمرض، والصحة، والألم، والموت والحياة، والتعب والراحة، والغضب، والرضى، و.. و.. الخ.. وليحتاج الناس - من ثم - إلى الأمر والنهي، والبعث والزجر، وتكون هناك هداية وغواية، وما إلى ذلك.. فإنه إذا تم له ذلك، فسيكون قادراً على الوسوسة والإغواء، والإضلال لذريته.. ومما يشهد لذلك من الآيات الكريمة: قوله تعالى لآدم (ع): ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾.. وقوله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا﴾.. وقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا﴾.. وقوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾.. وكانت النتائج أيضاً، منسجمة مع ذلك كله، وفق ما أشارت إليه الآيات السابقة وغيرها؛ ومنها قوله تعالى: ﴿فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾.. إذن، فقد ظهر: أن ما فعله إبليس: من تدليتهما بغرور. ووسوسته لهما.

إنما كان لأجل إبداء سوءاتهما، وإخراجهما من الجنة، ومواجهة البلاء، والشقاء، لا ليتجرأ آدم (ع) على الله، ويهتك حجاب العبودية، ويتمرد عليه ويعصيه..

إبليس يتخفَّى:

وتذكر بعض الروايات: أن إبليس لعنه الله قد جاء لآدم (ع) متخفياً بين لحيي مخلوق آخر، قالت الرواية: إنه حية.. ولا عجب في ذلك، فقد كان إبليس من الجن، ولعله لم يكن ممنوعاً من الوصول إلى أمكنة قريبة من تلك الجنة، بل ربما لم يكن ممنوعاً من دخولها أيضاً، ما دام أنها جنة دنيوية، فإن هبوطه السابق، حين امتنع من السجود للنبي آدم (ع)، إنما كان من المقام الذي كان فيه مع الملائكة المقربين، وهو مقام كريم، لا يحق لأمثال هذا الموجود الخبيث المستكبر أن يكون فيه.. كما أن من المحتمل أن يكون الطرد الأول من نفس الجنة، والطرد الثاني تمثل بالمنع من الإقتراب منها وإن كنا نرجح المعنى الأول.. وعلى كل حال، فإن إبليس لعنه الله قد جاء إلى آدم (ع) وكلّمه، فسمع آدم (ع) صوته، ولكنه لم يعرف أنه هو ذلك الذي أخبره الله بعداوته له ولزوجه.

ولا دلالة في الآيات على أن آدم (ع) كان قد سمع صوت هذا العدو قبل هذا الوقت، أو اطلع على سائر خصوصياته، ومنها قدرته على التشكل بأشكال مختلفة.

الله يريد إظهار عظمة آدم (ع).

ولربما يكون السبب في أنه تعالى لم يرد أن يعرّف آدم (ع) بأكثر من ذلك، هو أنه يريد أن يظهر حقيقته وفضله، واستحقاقه لمقام النبوة الكريم والعظيم. فلم يطلعه على غيبه، بل تركه يواجه الأمور بقدراته الذاتية - تماماً كما كان الحال بالنسبة لموسى والخضر عليهما السلام، حيث لم يعرف الله تعالى موسى(ع) بالكنز الذي تحت الجدار، ولا بالملِك الذي يأخذ كل سفينة غصباً، ولا بمعاملة ذلك الغلام المجرم لأبويه.. إنه تعالى لم يعرّف موسى (ع) بذلك، تمهيداً لإظهار حقيقته واستحقاقه لمقام النبوة وأن يكون من أولي العزم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

هذا بالإضافة إلى ما قدمناه من أن السنة الإلهية قد قضت وجرت بأن يفسح المجال لوسائل الهداية الأخرى، لتؤدي دورها، لكي لا ينتهي الأمر بنوع من الظلم والجبر، حتى لأعدى أعداء الله من الفراعنة والجبارين، والمجرمين..

مهمات إبليس:

لقد كان إبليس يحتاج، لكي يوقع النبي آدم في ما يريد أن يوقعه به، إلى إقناعه بعدة أمور:

الأول: أن النهي ليس دائماً لأجل وجود مفسدة في المنهي عنه.

الثاني: أنه يوجد مصلحة في هذه الشجرة المنهي عنها.

الثالث: أن هذه المصلحة تهم النبي آدم بالذات، أكثر من أي شخص آخر.

الرابع: أن يثبت له: أن نهي الله عن تلك الشجرة، ليس تحريمياً، ولا إلزامياً.

الخامس: أن يثبت له: أنه ليس نهياً تنزيهياً أيضاً، بمعنى أنه يريد أن يبعده عما لا يليق به.

السادس: أن يقنعه: أن النهي ليس لأجل أنه يريد أن يعرفه أنه لا يستحق هذا المقام الذي يوصل إليه المنهي عنه، وليس أهلاً له.

السابع: عليه أن يقنعه أن النهي نهي تسهيل، وتخفيف، ومحبة، ورضى.

الثامن: أن يثبت له: أن الفائدة التي في الشجرة والتي تعود إليك تنسجم مع غاياته العظمى، وداخلة في صميمها، وليست من الفوائد الثانوية التي يمكن تأجيلها. أو الاستغناء عنها..

حوار افتراضي.

ولتبسيط الأمور وتوضيحها فإن لنا أن نفترض أن الحوار بين إبليس والنبي آدم (ع)، قد جاء على النحو التالي:

قال إبليس لآدم (ع): لماذا أنت في الجنة؟، وما هي اهتماماتك وطموحاتك؟

فيجيبه النبي آدم (ع): إن الجنة هي المحل المناسب الذي يحقق له طموحاته، ويوصله إلى أهدافه، حيث يتفرغ فيها لعبادة ربه، ونيل منازل القرب والزلفى منه، وليس فيها ما يصرفه عن ذلك، ولا يحتاج إلى التفكير حتى في أبسط الأشياء، ولو في الحصول على شربة ماء، فضلاً عن أن يسعى لتحصيلها، أو حفظها، فجهده إذن متحمض في عبادة ربه، وفي الاجتهاد في الوصول إليه.. وذلك لأن: إهتمامات النبي آدم (ع) وطموحاته، ليست هي الحصول على الملذات والشهوات، كالطعام والشراب، وما إلى ذلك.

فيقول له إبليس: إنه إذا كان هذا هو هدفه، فلماذا لا يأكل من هذه الشجرة؟فيخبره آدم (ع) بأن ربه سبحانه قد نهاه عن الاقتراب من تلك الشجرة، فضلاً عن الأكل منها..

المبرر المعقول والمقبول.

وكان لا بد لإبليس أن يقدم حلاً مقبولاً، ومبرراً معقولاً لهذه المعضلة التي تواجهه.. وأن يفسح المجال أمام آدم (ع)، ويقنعه بالإقدام على مخالفة النهي.. ويمكن أن يكون هذا المبرر هو أحد أمرين:

أولهما: ادعاء أن نهي الله سبحانه له، إنما كان عن شخص الشجرة، لا عن جنسها. فلعل تلك الشجرة المشار إليها كانت مبغوضة لسبب يختص بها، ولا يتعداها إلى مثيلاتها.. ومن هنا يلاحظ: أن إبليس قد اختار هذا الحل بالذات، وآثر أن يذكر الشجرة أيضاً بواسطة اسم الإشارة المعين لشخصها، فقال: ﴿عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾.. إشعاراً منه بأن شخصها هو المنهي عنه، أما جنسها، فلا دليل على أنه مشمول للنهي أيضاً.. وبعبارة أخرى: إن قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ يحتمل أمرين: وهما النهي عن شخص المشار إليه، والآخر النهي عن سنخه، ولا شيء يدل على أن الثاني هو المتعين.. بل قد يقال: إن النهي عن الشخص هو الأقرب بقرينة التعبير باسم الإشارة الذي يشار به للشخص المعين والحاضر، ويحتاج إلى التعيين الحسي باليد ونحوها.. فلا مانع إذن من أن يأكل من شجرة أخرى تماثل الشجرة المشار إليها، وليس في ذلك مخالفة للنهي، لأن النهي قد تعلق بتلك فقط، لا بهذه.

وقد حاول إبليس التأكيد على رجحان أحد الاحتمالين للنبي آدم بأمرين:

أحدهما: إعادة التعبير باسم الإشارة ليؤكد أن المقصود هو شخص ذلك المشار إليه..

والثاني: القسم: ﴿وَقَاسَمَهُمَا﴾.. وعلى كل حال، فقد روي هذا المعنى عن الإمام الرضا (ع) (3) حسبما تقدم.

الآية لا تنافي هذه الرواية.

وهناك من يقول: إن قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ﴾.. ينافي الرواية المروية عن الإمام الرضا (ع)، فلا بد من طرح الرواية.. ووجه المنافاة، أن قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ﴾.. إنما يقصد به الشجرة المنهي عنها، وهي المعهودة بين النبي آدم وإبليس، وهي التي أكل منها النبي آدم وحواء، لا أنهما أكلا من غيرها، كما هو صريح الرواية.. والجواب: إن هذا لا يصح، وذلك لأن الآية قد عبرت بكلمة (الشَّجَرَةَ)، ولم توضح هل المراد بها أيضاً شخصها؟ أو المراد سنخها؟

بل قد يقال: إن قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾.. وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾.. ظاهر في إرادة شخصها، لمكان الإشارة الحسية، وذلك يعد قرينة للنبي آدم على المطلوب، فإذا أكل من غيرها، فلا يعد مخالفاً للأمر، كما ذكرته رواية الإمام الرضا (ع)، وبذلك تكون الرواية منسجمة مع الآية تمام الانسجام.. بل قد يستأنس لذلك بأنه تعالى قال: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ﴾.. ولم يقل: تلك الشجرة، ليفسح المجال لاحتمال كون الأكل من جنس الشجرة، وكما ذكرته الرواية عن الإمام الرضا (ع).. وبذلك يتضح الجواب أيضاً على السؤال عن السبب الملزم للنبي آدم لترجيح أحد الاحتمالين، فإن الجواب هو أن الملزم له هو القرينة التي ذكرناها..

التقية في رواية ابن الجهم.

وقد يقال: إن رواية ابن الجهم المروية عن الإمام الرضا (ع)، واردة مورد التقية، لأنها موافقة لمقالة المعتزلة، من حيث تضمنها لفقرة تقول: إنه يجوز أن يقع من الأنبياء صغائر موهوبة قبل نزول الوحي عليهم.. ونقول:

أولاً: إنه ليس بالضرورة أن تكون جميع فقرات الرواية صالحة للاعتماد، وقد ذكر علماؤنا أن لكل فقرة من الرواية حكمها، ولا تطرح الرواية كلها لأجل خلل في بعض فقراتها.

ثانياً: إنه صلوات الله وسلامه عليه قد قرر في الفقرة التي استدللنا بها معنى صحيحاً، ينسجم مع آيات القرآن، ولم يأت بأمر تعبدي، ولا قرر حقيقة تضر بموضوع العصمة، وليس ما قاله في هذه الفقرة متضمناً لارتكاب النبي آدم (ع) لصغيرة موهوبة، أو غير موهوبة.. بل هو (ع) قد أورد احتمالات لا تأباها الآية، وهذه الاحتمالات تخرج النبي آدم (ع) من دائرة المخالفة إلى دائرة العمل بظهور الكلام الملقى إليه منه تعالى.

ثالثاً: من الذي قال: إن هذا المورد من موارد التقية؟!، فإن المعتزلة ما كانوا يعاقبون، ولا يلاحقون خصومهم، ولا يخيفونهم، إذا قالوا بعصمة الأنبياء المطلقة.

رابعاً: لنفترض: أن في الرواية تقية بالفعل، فلتكن هذه التقية في خصوص الفقرة التي صرحت بتجويز الصغائر الموهوبة على الأنبياء قبل نبوتهم.. دون سواها.

خامساً: قد يقال: لعل الفقرة التي توافق المعتزلة، من كلام علي بن محمد الجهم، لا من كلام الإمام، لأنها كلام مستأنف لا يرتبط بما قبله، فلعل ابن الجهم قد تابع الكلام من عند نفسه، وقرَّره وفق مذهبه الذي يرتأيه.. على أن من الواضح: أن رواية مطولة قد أشير فيها إلى عدة قضايا وخصوصيات، تحتاج لضبطها إلى مزيد من الانتباه.. مع ملاحظة أن رواة هذه الرواية ممن لا يعرف عنهم كبير اهتمام بالتدقيق في نقل الكلام وفي الحفاظ على عين الألفاظ المنقولة، ولاسيما من أناس قد يهمهم تأييد نحلة أهل الاعتزال، المؤيدة من الخليفة المأمون، ويهمهم أيضاً أن يأتي التأييد على لسان الإمام الرضا (ع) بالذات.. خصوصاً مع كون ذلك الراوي، وهو علي بن محمد بن الجهم، ممن لا يرى للإمام حرمة، بل كان معلناً بالعداء والنصب لأهل البيت عليهم السلام، فضلاً عن غيره من رواتها الذين يضعفهم علماء الرجال، مثل حمدان بن سليمان النيسابوري، أو تميم القرشي، وإن كان يمكن توثيق هذا الأخير..

اجتهاد النبي آدم (ع).

إن هناك من يريد أن يقول: إن النبي آدم قد اجتهد فأخطأ، وللمجتهد أجر واحد، وكان أجره هو الاجتباء الإلهي الذي حصل عليه.. واجتهاده (ع) يتمثل في ترجيحه كون المنهي عنه هو شخص الشجرة لا سنخها، وقد أخطأ في ترجيحه هذا، ثم أكل منها بعد وسوسة الشيطان له، وبعد تصديقه في قسمه، كما بينته رواية الإمام الرضا (ع).. وهذا هو نفس ما يقوله المعتزلة من اجتهاد النبي آدم في المراد من الشجرة، وفي استجابته لتدليس إبليس.. ونقول: إننا نعود فنكرر رفضنا لهذا الكلام، وذلك للأمور التالية:

أولاً: إن النبي آدم (ع) لم يجتهد، بل أخذ بالظهورات الواجب عليه الأخذ بها، إذ إن هناك إشارة حسية إلى شخص شجرة بعينها، وليس ثمة ما يدل على إرادة ما عداها، فلم يكن هناك أي مانع من الأكل مما يسانخها، وليس هذا من قبيل الاجتهاد، بل هو أخذ بظاهر الكلام..

ثانياً: إن النبي آدم لم يخطئ في التطبيق أيضاً، بل عمل أولاً بمقتضى ما حملته له قوالب الألفاظ من أوامر أو نواهي إلهية.. وطبقها هو حرفياً.. وترجيحه لأحد الاحتمالين، إنما هو بالاستناد إلى الحجج، والدلائل، والوسائل التي جعلها الله تعالى له، والتي لو لم يأخذ بها، لكان مؤاخذاً عند الله، ولربما استحق الحرمان من بعض الحقوق، ومن هذه الوسائل والدلائل: القسم، ومنها الإشارة الحسية، فإذا كان هناك خطأ في الترجيح، فليس هو خطأ النبي آدم، وإنما هو خطأ الوسيلة المطالب بالعمل بها.. تماماً كما تخطئ البينة في إثبات الحق لفلان من الناس، وفي حرمانه منه.

ثالثاً: إن مقولة: إذا أصاب المجتهد فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، ليس لها أصل، وإنما هي من روايات غير الشيعة، وقد تحدثنا عن ذلك في كتابنا (مأساة الزهراء) وغيره..

رابعاً: قول المعتزلة إن النبي آدم (ع) قد اجتهد وأخطأ في التطبيق، معناه أن النبي آدم لم يذنب، لكي يهبه الله عقوبة ذنبه.

والقول بأنه قد ارتكب ذنباً صغيراً موهوباً، معناه أنه لم يجتهد، بل هو قد تعمد الجرأة على الله وهتك حرمته.. فلماذا يهبه الله، ولماذا يعفو عنه؟!

وكونه موهوباً معناه ثبوت العقوبة، ثم العفو عنها، فما معنى قولهم بثبوت المثوبة على ذنب صغير إلى حد نيل درجة الإجتباء والاصطفاء؟!.. وكيف يمكن الجمع بين الاجتهاد، وبين كونه ذنباً؟!، ثم الجمع بين كونه قد وهبت عقوبته، وبين إعطاء المثوبة عليه؟!.

خامساً: إن الاجتهاد الذي مارسه النبي آدم إنما هو في تعيين المنهي عنه، فإذا أخطأ في معرفة المراد، فلماذا يعاقب؟!.. وموضع وسوسة الشيطان هو بيان سر النهي، وقد سد الطريق على النبي آدم بالقسم الذي كان النبي آدم مكلفاً بالعمل بمقتضاه، فأين الخطأ من النبي آدم؟! وأين الاجتهاد؟!.. وأين الذنب؟!.. وأين هبة عقوبته؟!..

قيمة رواية ابن الجهم.

ثم إن البعض يطرح سؤالاً هو: مَنْ مِنْ علمائنا الأبرار تمسك برواية ابن الجهم عن الإمام الرضا (ع)، لتفسير القرآن الكريم؟!.. وكيف يمكن التمسك بها لصرف القرآن عن ظاهره، مع الاعتراف بضعف سندها؟!.. ونقول: إنه بغض النظر عن أن ضعف سند الرواية لا يعني أنها مكذوبة، لا بد من ملاحظة ما يلي:

أولاً: إن هذه الرواية ليست هي المستند لصرف القرآن عن ظاهره، بل المراد بالآية القرآنية، ظاهر من خلال ظواهر كلماتها، وسياقها، وغير ذلك من اعتبارات، وإنما أوردنا الرواية المشار إليها للتأييد والاستيناس، والتأكيد على الظهور، لا للاستدلال، وصرف الظاهر عن ظهوره إلى معنى غريب عن مسار الكلام..

ثانياً: إن عدم تمسك علمائنا الأبرار بهذه الرواية لا يعني سقوطها، وفساد الاستدلال بمضمونها، أو عدم صحة الاستشهاد أو الاستئناس والتأييد بها..

رواية أخرى تطرح حلاً آخر للإشكال.

بل لقد روي: أن إبليس لعنه الله قد ادعى للنبي آدم (ع): أن الله تعالى قد أحلّ له الأكل من الشجرة، بعد أن كان قد نهاه عنها، وجعل علامة صحة قوله هذا: أن الملائكة الموكلين بها سوف لا يمنعونه من الاقتراب منها.. مع أن سبب عدم منعهم له ليس هو الإحلال بعد المنع، وإنما هو لأنهم لا يمنعون من يملك عقلاً واختياراً (4).

الجمع بين الروايتين.

ويمكن أن يقال: إنه لايوجد مشكلة بين الروايتين، فإن الرواية الثانية قد تكون ناظرة إلى النهي والمنع عن جنس الشجرة، وأن الملائكة لا يمنعون من الإقدام على الأكل من شجرة أخرى مشابهة للمنهي عنها، بحجة: أنها قد أحلت له، من حيث إنه لا يوجد نهي عنها، بعد أن حرمت عليه الشجرة الخاصة، وإن كانت مجانسة لها.

وعلى كل حال، فإن الرواية عن الإمام الرضا (ع)، وكذلك هذه الرواية، إنما نسوقهما للتأييد والاستئناس، لا للاستدلال، وقد أوضحنا أن رواية ابن الجهم ظاهرة الإنسجام مع السياق البياني للآيات.

وأما الرواية الأخرى فان أمكن الجمع بينها وبين رواية الإمام الرضا (ع)، فبها.. وإلا، فإننا نكل علمها إلى أهلها.. إن صح صدورها عنهم عليهم السلام.

عود على بدء.

قلنا فيما تقدم: إن إبليس قد اعتمد في محاولاته إقناع النبي آدم بالأكل من الشجرة، على مجموعة ادعاءات:

منها: ادعاء أن في هذا الجنس من الأشجار خصوصيات مهمة، لو حصل عليها آدم (ع)، فإنه يحقق أقصى ما يتمناه.

ومنها: ادعاء أن الله سبحانه لم ينه آدم (ع) عن الشجرة من أجل أنه يراه لا يستحق هذه المقامات السامية.

ومنها: ادعاء أن نهيه له ليس نهي تحريم ومنع، ولا يكشف عن مبغوضية منه تعالى للمنهي عنه، كما أنه ليس نهي تنزيه.. ومنها: أن يدعي له أخيراً أن هذا النهي لا يدل على وجود مضرة في المنهي عنه، بل هو نهي تخفيف ورفق، من حيث أن الأكل من الشجرة وإن كان يوصله إلى ما يتمناه، ولكنه يكلفه غالياً، وغالياً جداً.

أمثلة للتوضيح:

ويمكن تقريب هذا الأمر بالأمثلة التالية: إن سياق هذا النهي سياق نهي والد لولده عن الهجرة إلى بعض البلاد لطلب الرزق.. مع أنه يحصل على ما يكفيه من دون هجرة، فيقول له أبوه: إن بقاءك لا يضر بحالك، ولا ينقص من سعادتك، لأنك تحصل على ما يكفيك، فسفرك وإن كان يفيد في تحصيل أموال أكثر، ولكنه محفوف بالمخاطر، وفيه متاعب ومشقات كبيرة وسهر ليالي، وتحميل للنفس ما يرهقها.. وهذا معناه أنه لا ينهى ولده عن السفر لأجل أن في السفر مفسدة، أو لأجل أنه ليس أهلاً لتلك الأموال التي يمكن أن يحصل عليها، وليس نهيه له نهياً تحريمياً، ولا هو تنزيهي، بل هو إشفاقي، تسهيلي.. تماماً على حد قوله تعالى: ﴿طه / مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾.. (5).

ومثال آخر نسوقه هنا هو: لو أن إنساناً كان وجهه على درجة مقبولة، من الجمال.. ولكنه لم يقتنع بذلك فأراد أن يزيد بهاء وجمالاً بواسطة إجراء عملية جراحية تجميلية.

فقد ينهاه أبوه عن ذلك، لأن التكاليف باهظة، ولأنه يعرض نفسه بذلك إلى آلام الجراحة، وإلى مرارة الأدوية، ووخز الإبر، والقعود عن العمل أياماً.. ولكنه لو أقدم على ذلك، فسيحصل على نسبة جمالية كان يتمناها، ولا يرفض أبوه حصولها له، كما أن الله سبحانه يسهل له الأمور، ويعفيه من الوضوء، وينقله إلى التيمم، ويقبل منه الصلاة من جلوس، ولا يلزمه بإزالة دم الجروح والقروح في حالات معينة، وما إلى ذلك.. والحال بالنسبة لآدم (ع) النبي الكامل، الذي يسعى للحصول على المزيد من الكمالات والقربات هو ذاك، فإنه إذا بلغ درجة الكمال، وهي درجة المئة مثلاًً - وأراد أن ينال الدرجات التي بعدها، ورأى أن ذلك في حدود الميسور المقدور، فسوف يحمل نفسه أعظم المشاق في سبيل ذلك. ولن يرضى بالجمود والركود، بل سيكون حاله حال النبي إبراهيم (ع) الذي بلغ اليقين في إيمانه، أراد أن يحصل على درجات أعلى وأعلى، فيصل مثلاً إلى درجة علم اليقين، وعين اليقين، وذلك هو قوله تعالى: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾.. (6).


1- الآية 62 من سورة الإسراء.

2- الآيتين 39 و 40 من سورة الحجر.

3- راجع: تفسير البرهان ج3 ص46 وج1 ص83 والبحار ج11 ص164 عن عيون أخبار الرضا.

4- راجع: تفسير الإمام العسكري ص222 و223 وتفسير البرهان ج1 ص80 والبحار ج11 ص190 و191 ومستدرك الوسائل ج2 ص286.

5- الآيتين1 و2 من سورة طه.

6- الآية 260 من سورة البقرة.