الفصل الثالث: الوصايا الإلهية لآدم (ع).

الفصل الثالث: الوصايا الإلهية لآدم (ع).

إبهام.. ودقة في التحديد:

وفي قوله تعالى لآدم (ع): ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾..

يلاحظ: أنه تعالى قد حدّد للنبي آدم المنهي عنه بواسطة اسم الإشارة، ولكنه لم يذكر له اسم الشجرة ولا صفتها، ولا حالاتها، ولا غير ذلك مما يرتبط بها.

فهو تعالى:

أ - من جهة قد أمعن في تحديد المنهي عنه لآدم (ع)، إلى حد التجسيد الواقعي له، ليصبح أمراً ظاهراً محسوساً، تصح الإشارة الحسية إليه، بقوله: ﴿هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾، والمعرفة الحسية هي الأقوى، والأوضح، والأصرح.. ب - ومن جهة أخرى أبقاه على درجة عالية من الإبهام والغموض، بسبب عدم ذكر الصفة، والاسم لتلك الشجرة، ولا بين له طبيعتها، وخصوصياتها، ومميزاتها، وغير ذلك.. وليست تلك الشجرة من الأمور البسائط، التي يكون نفس حضورها كامناً في الكشف عن حقيقتها.. كما أن الأمر بالنسبة لإبليس قد جاء على هذا النحو كما سيأتي.. وقد ادعى البعض: أن لفظة (هَذِهِ) قد جاءت لتشخيص الشجرة بكل تفاصيلها، وصفاتها.. وهو ادعاء باطل، ويخالف البديهة، لأن الإشارة الحسية تفيد حضور المشار إليه، والاطلاع على ظاهر أمره، ولا تفيد شيئاً في التعريف بباطنه وحالاته، وخصائصه غير الظاهرة، إذا لم يكن من البسائط التي تنال حقائقها بنفس التوجه إليها وإدراكها..

لماذا الإبهام.. ولماذا الدقة؟!

وبعدما تقدم نقول: إن التحديد للشجرة بهذه الطريقة يجعل آدم (ع) أمام احتمالين:

الأول: أن يكون المنهي عنه هو شخص هذا المشار إليه خارجاً، بحيث يكون النهي عن هذه الشجرة إنما هو لخصوصية فيها، لا توجد في غيرها حتى لو كانت متفقة معها بالجنس والحقيقة، بأن كانتا معاً من شجر الرمان، أو الحنطة مثلاً. ففي هذه الحال، لو أكل من غيرها، ولو كان من جنسها، فإنه لا يكون مخالفاً للنهي.

الثاني: أن لا يكون لها أية خصوصية، بل هو يشير إليها بما أنها فرد من جنس بحيث تكون جميع الأشجار التي من فصيلتها منهياً عنها أيضاً، وإنما أشير إليها بخصوصها لمزيد من التأكيد والتحديد لها.. فلا يجوز له - والحال هذه - الأكل من الشجرة المشار إليها، ولا من غيرها إذا كان من فصيلتها.

فإذا كان آدم (ع) أمام هذين الاحتمالين، فإن عليه أن يسعى لترجيح أحدهما.. وقد ورد في الروايات: أن إبليس لعنه الله قد حاول أن يقنعه بأن المنهي عنه هو خصوص هذه الشجرة التي أشير إليها.. أما سائر ما هو من فصيلتها، فلا يشمله النهي.. فقد روي عن الإمام الرضا (ع)، أنه قال للمأمون: (﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾.. وأشار لهما إلى شجرة الحنطة ﴿فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة، ولا مما كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها، وإنما أكلا من غيرها، لما أن وسوس الشيطان إليهما، وقال: ﴿ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة / وإنما ينهاكما أن تقربا غيرها / ولم ينهكما عن الأكل منها / إلا أن تكونا ملكين / أو تكونا من الخالدين﴾ (1).

فهو (ع) يقول: إنه تعالى لم ينههما عن تلك الشجرة وعن غيرها مما كان من جنسها، وإنما نهاهما عنها فقط، وهما لم يقرباها هي، بل أكلا من شجرة غيرها كانت من نفس نوعها.

وهذا معناه: أن النبي آدم (ع) قد افترض أن النهي إنما هو عن شخص تلك الشجرة، لا عنها وعن كل ما يجانسها.

فإذا كان (ع) يخاف من الإقدام على الشجرة التي حددتها الإشارة الحسية له في خطاب النهي، لاحتمال أن يكون لها خصوصية من نوع ما، فبإمكانه أن يأكل من شجرة أخرى من نفس نوعها، ليحقق بذلك الغرض السامي الذي يسعى إليه، وليتحاشى تلك الخصوصية التي أوجبت المنع من تلك التي أشير إليها إشارة حسية.

الإبهام والدقة في تحديد العدو.

ومن جهة: نجد أن الله تعالى قد أمعن في تحديد عدو النبي آدم إلى حد أنه جعله ظاهراً محسوساً، يشار إليه بالإشارة الحسية، التي هي أرقى وأوضح وأصرح أنواع الدلالات، لأنه تعني الحضور الفعلي للمشار إليه، فقال: ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ﴾.. لكنه من جهة ثانية: قد أبقاه على حالة من الإبهام، فلم يذكر له اسمه، ولا صفته، ولا أطلعه على حيله، ومكره وحبائله، بل اكتفى بالإشارة إلى عداوته له، وإلى أنه قد يخرجهما من الجنة.

وسيأتي: إن الإبهام والتحديد قد جاء وفق السنة الإلهية الجارية، التي تريد للمخلوقات أن يتكاملوا باختيارهم، ووفق الهدايات التي أنعم الله بها عليهم، من دون أن يكون ثمة أي حيف أو انتقاص..

إشكال.. وجوابه.

ولعلك تقول: لو لم يكن النبي آدم يعرف إبليس معرفة تامة، واستطاع إبليس أن يتخفى عليه، فكيف عاتبه الله تعالى ولامه على طاعته له، حيث قال: ﴿وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.. ونجيب: إن هذا ليس عتاباً للنبي آدم (ع)، بل هو إعلام له بأن الذي كلمه، وأثار الاحتمالات أمامه كان هو نفس ذلك الذي كان الله قد حذره منه، وأخبره بأنه عدوه.. و.. فهذا النداء ليس لوماً للنبي آدم، بل هو كشف له عن حقيقة الأمر.

مستوى معرفة آدم (ع) بإبليس.

كما أننا حين نقرأ في كتاب الله أن إبليس قد وسوس لآدم، فلا يعني ذلك أن لإبليس تسلط وهيمنة على آدم، وإنما يراد منه أنه قد استطاع أن يوصل الفكرة إلى آدم من طرف خفي، ككونها مغلفة ببعض ما يخفي نواياه الحقيقية من طرحها.. بل إننا نقول: إنه لا دليل على أن آدم (ع) كان قد سمع صوت إبليس، أو عرف طريقة إلقائه للكلام قبل قصة الشجرة، ولا دليل أيضاً على أنه (ع) قد عرف خصوصياته، من حيث خلقه من مارج من نار، وكونه من الجن، ولا اطلع على قدرته على الظهور والاختفاء، وعلى التشكل بأشكال مختلفة، طولاً وعرضاً، وكبراً وصغراً، وبصفة طائر تارة، وبصفة حيوان أو إنسان أخرى.. وغير ذلك.

إبليس يظهر بأي صورة شاء:

وقد أشير إلى هذا الأمر الأخير، وهو قدرة الجن - وإبليس كان من الجن - على الظهور بأي صورة أرادوا، في العديد من الروايات.

فقد روي عن الحارث الأعور قال: بينا أمير المؤمنين (ع) يخطب على المنبر يوم الجمعة، إذ أقبل أفعى من باب الفيل.. إلى أن تقول الرواية: إن علياً (صلوات الله عليه): أخبرهم: أن هذا الأفعى هو من الجن قال: (فأتاني في ذلك، وتمثل في هذا المثال، يريكم فضلي إلخ..) (2).

فلاحظ قوله: (وتمثل في هذا المثال).

وفي رواية أخرى: أنه -اتف- اكلّم النبي، فقال (صلى الله عليه وآله)، له: "إظهَر رحمك الله في صورتك. قال سلمان: فظهر لنا شيخ أذب، أشعر، قد لبس وجهه شعر غليظ الخ.." (3).

وفي حديث آخر: أنه (صلى الله عليه وآله) كان جالساً بالأبطح، وعنده جماعة من أصحابه.. (إذ نظرنا إلى زوبعة قد ارتفعت فأثارت الغبار، وما زالت تدنو والغبار يعلو إلى أن وقفت بحذاء النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم برز منها شخص كان فيها، ثم قال: يا رسول الله.. إلى أن تقول الرواية: فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): فاكشف لنا عن وجهك حتى نراك على هيئتك التي أنت عليها.

قال: فكشف لنا عن صورته، فنظرنا فإذا الشخص عليه شعر كثير، فإذا رأس-ه ط-ويل العينين، عيناه في طول رأسه، صغير الحدقتين الخ..) (4).

وعن الإمام الصادق (ع): "إن إبليس لعنه الله قد طلب من ربه أن: (لا يولد لهم أي لبني آدم ولد إلا ولد لي اثنان، وأراهم، ولا يروني، وأتصور لهم في كل صورة شئت)" (5).

وفي حديث آخر:

أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان جالساً وعنده جني يسأله عن قضايا مشكلة، فأقبل أمير المؤمنين، فتصاغر الجني حتى صار كالعصفور.. الخ (6).

يضاف إلى ما تقدم حديث يقول: إن جنية من أهل نجران تمثلت في مثال أم كلثوم (7) فراجع.

وأمثال ذلك كثير لا مجال لاستقصائه.. وهو يدل ما على ما ذكرناه من قدرة الجن - وإبليس منهم - على الظهور بأية صورة أرادوا..

البيان المتجانس.

وعلى كل حال: فإن الخطاب الإلهي للنبي آدم (ع) قد جاء في غاية الوضوح، وغاية في الإبهام، بالنسبة لإبليس، وبالنسبة للشجرة على حد سواء.. كما أنه قد أشار إلى الشجرة بكلمة هذه، وإلى إبليس بكلمة هذا، ولكنه بعد أن جرى ما جرى، قد جاء الخطاب معاكساً في منهجه للخطاب الأول، حيث قال: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾.. (8) فأبعد الشجرة عن ساحة الحضور، وأشار إليها بكلمة تلك، كما أنه أبعد إبليس عن ساحة الحضور، وصار يتحدث عنه بصيفة الغائب، ووصفه بالشيطان، ليشير إلى صفاته الذميمة التي يوحي بها هذا الوصف، فقال: ﴿وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.. (9).

لماذا الإبهام؟

ويبقى السؤال يلح بطلب الإجابة، وهو: أنه لماذا لا يكون البيان الإلهي للنبي آدم، واضحاً وصريحاً؟.. وما هي الحكمة في هذا الإبهام؟ سواء بالنسبة إلى الشجرة، أو بالنسبة لإبليس.. ونجيب باختصار: إن السياسة البيانية الإلهية ترتكز إلى أمر واقعي وهام، وهو أن الله تعالى قد زود النبي آدم بهدايات من شأنها أن تصونه من مكر إبليس، وهي هدايات عقلية، وفطرية، وشرعية، وإلهامية، وغيرها.. والنبي آدم هو خيرة الله تعالى وصفوته. فلا بد أن تكون هذه الهداية شديدة الحضور والتأثير في حياته (ع).. ولكن من الواضح: أنه تعالى يريد أن يحفظ للفطرة دورها، وللعقل دوره، في الهداية، والرعاية، والتدبير، والحركة في الحياة، فلا يتدخل في شؤونها، ولا ينوب عنها فيما هو من وظائفها، إلا في المواضع التي لا يجد سبيلاً للاهتداء إليها.. كما هو الحال في الأمور الغيبية، فإن الله سبحانه يفتح باب الهداية إلى ذلك الغيب، ويكشفه له بالمقدار الذي لا يضر بدور الفطرة والعقل والإلهام، وغيرهما من وسائل الهداية.. وقد كشف سبحانه للنبي آدم عن الشجرة، وعن إبليس، وعن عداوته له، وبقيت جوانب أخرى غامضة لا بد أن يحيلها إلى الهدايات العقلية أو الفطرية لكي تكشفها له، ولتمارس دورها وفقاً للضابطة، وللناموس الطبيعي الذي أراد له أن يكون المهيمن على الحياة، وهكذا كان.. وقد أعطى الله تعالى لتلك الهدايات كل القوة، وكل الصلاحيات، وكل الاعتبار. وإن كانت لا تستطيع أن تنفذ إلى بواطن الأمور، بل تبقى في دائرة الظاهر.. إن إبليس حتى وهو أبعد مخلوقات الله، عن رحمة الله، لا بد أن يعامله الله بعدله، القاضي بإفساح المجال له ليختار، وليفعل ما يختار، فلا مجال لإجراء الأمور عليه بالقهر والجبر، بل حاله حال أي مكلف آخر.. ولأجل ذلك لم يكن ليتعامل معه بطريقة الغيب، التي تؤدي إلى عجزه عن التصرف، وتأخذ عليه السبيل، ولأجل ذلك كان مقتضى العدل هو الاقتصار على دلالة النبي آدم عليه، وإعلامه بعدوانيته، وبنواياه.. وأما سائر الأمور فإنه أوكلها إلى سائر الهدايات، لأن التحرك من موقع الغيب فيها معناه إخراجها عن دائرة الاختيار، وهو على خلاف السنة الإلهية الجارية في المخلوقات برهم وفاجرهم.. ولأجل ذلك لم يكن يحق للأنبياء والأوصياء أن يتعاملوا مع الناس، إلا بالعلوم العادية المتيسرة لكل أحد، فلا يحق لهم أن يعاملوهم بعلم الشاهدية على الأعمال، أو بعلم الغيب الذي يظهرهم الله عليه، لأن في ذلك نوعاً من الظلم والقهر للناس، لأنه يتوسل بأمور ليس لهم سبيل إليها، وهي خارجة عن دائرة اختيارهم..

طموحات النبي آدم (ع).

وبعد، فإن آدم (ع) هو ذلك الإنسان الإلهي، الذي خلقه الله تعالى من تراب - وفي التراب المزيد من الخير والعطاء والزيادة - وقد أراد تعالى لآدم (ع) أن يكون ذلك الإنسان الكامل، الخالص، والصفوة، والرضي في صفاته وحالاته. والعاقل المدرك، والحكيم، والمتوازن، والمدبر، الذي يستحق أن يكون أبا للبشر كلهم، ونموذجاً للكمال الإنساني، بحيث يرتفع إلى درجة نبي، له طموحات، وتطلعات الأنبياء، لا يعيش لنفسه، ولا تحركه شهواته ولا غرائزه بل يعيش لله تعالى، ولا يفكر إلا في نيل رضاه، والحصول على درجات القرب والزلفى منه.. والحلول في منازل الكرامة لديه.. وقد جعله الله في الجنة تعزيزاً له وتكريماً، وليظهر فضله وكرامته، وعظمته، لكل مخلوقاته، وخوَّله أن يمارس حياته فيها وفق ما يحب ويختار..

رغداً.

ولذلك قال تعالى له ولزوجه: ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا﴾.. فالرغد موجود في أي زمان أو مكان حصل فيه الأكل، وقوله: (رَغَداً)، أي كثيراً واسعاً طيباً، رفيهاً، لا يتعب فيه ولا يعيا.

وهذا الوصف كان هو المناسب لمحيط تلك الجنة وحالاتها، وطبيعة الحياة فيها، ومن حيث كون الجسد يمتلك الخصائص التي تتناسب مع هذا المحيط، وتحقق الرغد بمعناه الواقعي.

تعهدات حول مستقبل النبي آدم (ع) في الجنة.

وحين أسكن الله سبحانه آدم (ع) الجنة، قال له: ﴿إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى / وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾.. ولتوضيح ما يرتبط بهذا الأمر، نقول:

أ- إن هذه الأمور الأربعة هي أدنى ما يحتاج إليه الإنسان في استمرار حياته وبقائها.

ب- إن هذه الأمور التي أشار الله تعالى إليها ليست هي من الأمور العارضة، أو فقل: الطارئة في حياة الإنسان، بحيث يمكن الاستغناء عنها في حين من الدهر. بل الحاجة إليها لا تتوقف. كما أن طبيعة وجودها تفرض دوام التعرض لتحصيلها، وإستمرار الطلب لها، والتعاطي معها، ولا يكفي لإنجازها بذل الجهد مرة واحدة - مثلاً - ثم ينتهي الأمر.. فإذا حصلت هذه الأمور للنبي آدم (ع)، كفاه ذلك، ولا يحتاج في استمرار حياته كإنسان إلى سواها.. غير أن من الواضح: أن هذا ليس هو نهاية طموح النبي آدم (ع)، وليس هو رمز سعادته، وسر وصوله إلى الجنة؟!

كما أن حصول النبي آدم على هذه الأمور الأساسية، قد جعل إبليس عاجزاً عن إطماعه (ع) بمثل هذه الأمور الأساسية والحساسة.. كما لا يمكن أن يغري النبي آدم بما يرتبط بلذة الجنس، فقد انسد باب التوسل بها لإغوائه، لوجود زوجته حواء معه.. وكذلك سائر الملذات التي في الجنة.. ولذلك فإنه حين عرض إبليس على النبي آدم الأكل من الشجرة لم يذكر له شيئاً عن مثل هذه الأمور لحمله على ذلك، بل اتجه إلى ما هو أسمى من ذلك، وجعله هو الخيار أمام النبي آدم (ع).. ج - إنه تعالى حين أسكن آدم (ع) في الجنة قد أعطاه ما ينسجم مع طموحاته، ويتلاءم مع طبيعة ما يفكر فيه. حيث طمأنه إلى أنه سيرتاح من عناء التفكير، والعمل من أجل الحصول على ما يسد به الرمق، ويروي من الظمأ، ويستر العورة، ويقي من الحر والبرد، كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى / وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾، أي تدخل في وقت الضحى، وهو الوقت الذي يبدأ الإنسان فيه بالتضايق من الحر.. فإذا حصل على هذه الأمور الأربعة، فإنه سوف يعيش حياته من دون تنغيص أو ألم، ولا يحتاج إلى رسم الخطط وبذل الجهود للحصول عليها، كما أنه لا يحتاج إلى الحفظ، والحمل، والتصنيع، والإعداد، وغير ذلك. ولا يهمه بعد ذلك أن يحصل على خزائن الطعام، ولا على أطقم الألبسة، أو الأشربة المختلفة، أو القصور، فإن ذلك كله لا يزيد في الشبع، ولا في الستر، ولا في اعتدال الحرارة، ولا في الري.. ولكن تلك الزيادات، إن طلبت فإنما تطلب لأمر آخر.. لا تأثير له في حفظ الحياة، واستمرارها.. على أن من الواضح: أن هذا التعهد الإلهي معناه: أن الله تعالى إذا كان لا يرضى بأن يتعرض النبي آدم لأي ضيق أو أذى، فلا يرضى أن يبتليه بما هو أشد، كالأمراض الصعبة ولا السهلة مثلاً، ولا يرضى له بأن يعيش ذليلاً، أو مهاناً مثلاً.. كما أن هذا التعهد لا يعني أنه يحرمه من أنهار العسل المصفى، أو القصور، أو البساتين، أو غير ذلك. فقد يعطيه ذلك أيضاً.. ولعل السبب في أنه تعالى اقتصر على هذه الأمور، ولم يذكر لآدم (ع) أزيد منها، هو أن تلك الزوائد لا تمثل طموحاً له، فهو لا يفكر في اقتناء الأموال، واختراق الجبال، وإنشاء الجسور، وبناء القصور، واختراع الآلات التي تمكنه من التغلب على الموانع، وتمنحه الفرصة، وتسهل له الوصول إلى مراداته. فضلاً عن أن يفكر في المناصب، أو أن يسعى إلى امتلاك اسباب القوة والهيمنة والسلطان.. وما إلى ذلك.

إن ذلك كله زيادات لا يفكر فيها آدم (ع)، بل هو يرفضها، لأنه يريد أن يفرغ نفسه لطاعة الله الذي ملأ قلبه، وأخذ حبه عليه سمعه وبصره، وملك مشاعره.. ولا يريد أن يشغله عنه شيء، حتى ولو مثل التفكير بلقمة عيش يتقوى بها جسده، أو شربة ماء تحفظ حياته، فضلاً عما هو ابعد من ذلك.

د- ثم إن هذا العطاء الإلهي لآدم (ع) في الجنة، يشير إلى الرعاية والكرامة الإلهية التامة، والمحبة الحقيقية منه تعالى له. فإنه إذا كان بصدد حفظه حتى ولو من أن يتضايق من حرارة الشمس في وقت الضحى، حيث تبدأ حرارتها بالتأثير، فهل يرضى له بمعانات حرها وهي في أوج توقدها؟!، وهل يرضى بأن يواجه ما هو أشد وأقسى، وأعظم وأدهى؟!. مثل الآلام والأمراض، أو أن يواجه أذى أعدائه وكيدهم.. أو يعاني من الجهد والضنا في تحصيل مراداته، والوصول إلى غاياته؟! وذلك كله يشير إلى أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا﴾ الخ.. قد جاء على طريقة ﴿وَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍ﴾، الدال على المنع مما هو أشد كالإهانة، والضرب، ونحو ذلك.

الأكل من الشجرة.. ظلم.

ثم ذكر الله سبحانه لآدم وزوجه عليهما السلام: أن أكلهما من الشجرة يجعلهما من الظالمين، ولم يدخل سبحانه ذلك في دائرة العصيان، بمعنى التمرد على المولى، وهتك حرمته، وكسر هيبته.

واللافت: أن النبي آدم (ع) بعد أن حدث له ما حدث، وقال الله لهما: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.. لم يصف نفسه بالعاصي، بل إستعمل نفس التعبير الذي ورد في التحذير الإلهي، حيث قال: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾..

ظلمنا أنفسنا: كيف؟!

إن الظلم هو تجاوز الحدود.

فيحتمل أن يكون المراد بالظلم في الآية:

1. أن يكون التعدي على حدود المخلوقات الأخرى، كالبشر أو الملائكة، أو الجن، أو غير ذلك. فيكون هذا التعدي عليها ظلماً لهم.

وليس في أكل النبي آدم (ع) من الشجرة ما يشير إلى شيء من هذا القبيل.

2. ويحتمل أن يكون المراد بالحدود هي حدود الله سبحانه، بحيث يكون التعدي عليها تعدياً عليه، وهتكاً لحرمته، وهو ما يدخل في دائرة العصيان.

وإرادة هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.. تحتاج إلى درجة من العناية والتجوز في التعبير، فكيف إذا كانت الآية قد صرحت بخلافه كما سنرى!!.. 3. ويحتمل أن يكون المراد بالحدود التي كان التعدي عليها هي حدود طاقة ووسع النفس، فيكون الظلم للنفس دون سواها، بمعنى أنه يحملها أكثر مما اعتادته فيرهقها بذلك ويتعبها، كمن يشتغل ستة عشر ساعة بدلاً من ثماني ساعات، ليحصل على ما هو أهم بنظره.. وكالتلميذ الذي يدرس في أيام الامتحانات أكثر من سائر الأيام، ليعوض النقص الذي نشأ عن إهماله في الأيام السالفة، أو أنه يبذل جهداً أكثر من رفقائه ليحصل على درجات أعلى ومراتب أرفع، فيكون له بذلك التقدم عليهم، ولا يلومه الناس على تعديه الحدود في معاملته لنفسه، من أجل أن ينجح في الامتحان بتفوق.. وهذا المعنى هو الأقرب، بل هو المتعين في معنى الآية، حيث جاء الإلماح إليه في قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.. ثم جاء التصريح به في قول آدم وزوجه عليهما السلام. ﴿ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾.. ولم يقولا: أذنبنا، أو عصينا.. وسيأتي أيضاً أن المقصود بقوله تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا﴾ ليس هو المغفرة بمعناه الذي ألفناه، بل بمعنى المبادرة إلى معونتهما والستر عليهما، وإعادة ما كان خافياً وكافياً إلى حالة من الخفاء والكمون، بنحو يحفظ لهما درجة من الراحة في حياتهما.


1- البرهان في تفسير القرآن ج3 ص46 وج1 ص83 و81، والبحار ج1 ص164 عيون أخبار الرضا.ج1ص196.

2- الثاقب في المناقب ج2 ص248 ومدينة المعاجز ج1 ص141.

3- مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ج2 ص308 ومدينة المعاجز ج1 ص144/145 وحلية الأبرار ج1 ص268 والبحار ج39 ص183.

4- مدينة المعاجز ج1 ص148/149 وحلية الأبرار ج1 ص270 وعيون المعجزات ص43. والبحار ج18 ص86 وج60 ص90.

5- تفسير الميزان ج8 ص61 عن تفسير القمي.

6- مشارق أنوار اليقين ص85 ومدينة المعاجز ج1 ص142 عنه..

7- بحار الأنوار ج42 ص88 والخرائج والجرائح ج2 ص825 و826 ومرآة العقول ج21 ص198 وج20 وراجع: المجدي في أنساب الطالبيين ص17 و18 ومدينة المعاجز ج3 ص202 والصراط المستقيم ج3 ص130 وسفينة البحار ط سنة 1414هـ ج1 ص684.

8- الآية 22 من سورة الأعراف.

9- الآية 22 من سورة الأعراف.