- خطأ نحوي في القرآن؟!

خطأ نحوي في القرآن؟!

المسألة:

شيخنا: استفزني كلام لسيدة مسيحية ادعت إنَّ القرآن الكريم ليس وحياً من الله تعالى وإنما هو من تأليف النبي (ص) واستدلَّت على ذلك بأن في القرآن أخطاء نحوية.

وذكرت إنَّ من تلك الأخطاء ما وردمن اختلاف في إعراب ﴿الصَّابِئِينَ﴾ ففي آية تكون مرفوعة وفي آية أخرى تكون منصوبة رغم أنها في جميع الموارد جاءت في سياقٍ واحد، فإما أن يكون الرفع خطأ أو يكون النصب هو الخطأ، وإذا قلتم إنَّ لها أكثر من إعراب كيف تقال جملة باعرابين من شخصٍ واحد.

الجواب:

قبل الإجابة عن الإشكال لا بدّ من بيان أمور:

الأمر الأول: أن مسائل علم النحو ليست من قبيل مسائل علم الطب والكيمياء والفلك، ذلك لأنّ مسائل علم الطب مثلاً إما أن تكون مطابقة للواقع فتكون صحيحة أو منافية للواقع فتكون خاطئة، وأما مسائل علم النحو فهي أمور اعتبارية جعلية، فصحتها وخطأها يدوران مدار اعتبار المعتبِر وجعل الجاعل، فما اعتبره صحيحاً يكون صحيحاً وما اعتبره فاسداً يكون كذلك، فشأن المسائل النحوية شأن قوانين المرور، ففي بلدٍ يكون اللون الأحمر مثلاً علامة على التوقف ويكون اللون الأخضر علامة على التحرُّك والانطلاق، وقد ينعكس الأمر في بلدٍ آخر، فلا يقال للأول أنَّه أخطأ كما لا يقال للثاني أنه أخطأ.

ذلك لأنّ قانون المرور من القوانين الاعتبارية، وكذلك مسائل علم النحو، فهي قوانين للكلام تواضع عليها العرب، فمن أراد أن يتحدَّث بلغتهم كان عليه أن يلتزم بالضوابط التي تواضعوا عليها، فإذا خالف كان مخطئاً.

الأمر الثاني: هي أنه لا توجد ضوابط مرسومة لعلم النحو عند العرب الأوائل الذين اخترعوا اللغة العربية وتحدثوا بها بل كانوا يتحدثون باللغة بمقتضى سليقتهم، وأخذ الأبناء عن الآباء تصاريف الكلام وإعرابه.

ثم جاء مَن بعدهم فوضعوا علم النحو (أي أنَّهم وضعوا ضوابط الإعراب للكلمات والجمل على أساس ما تلقَّوه من خطب العرب وأشعارهم، فحيث انَّهم وجدوا مثلاً أنَّ الاسم الذي يكون في موقع الفاعل يُرفع قالوا إنَّ الفاعل مرفوع وهكذا، فعلماء النحو لا يُخطِّئون عربياً في قوله وإنما يعتمدون قوله لاستنباط ضابطة نحوية منه، وذلك لأنّ الكلام العربي أُخذ عنه فلا يصح تخطئته بعد أن كانت ضوابط الكلام من الأمور الاعتبارية.

نعم، قد يجدون في كلام العرب اختلافاً، فبعضهم يرفع والآخر ينصب وحينئذٍ يقولون إنَّ كلام العرب في هذا السياق ورد على طريقتين، ولا يقولون أن أحدهما خاطىء والآخر صحيح.

هذا إذا كان قد ثبت أن كلا الكلامين قد أُخذ من العرب الأوائل.

الأمر الثالث: إنَّ من المعروف المتسالم عليه بين علماء النحو واللغة العربية أن الذين يُعتمد قولهم دليلاً في علم النحو واللغة هم عرب الجاهلية وعرب صدر الإسلام وعرب العصر الأموي، فالخطب والأشعار والمحاورات الثابت صدورها عن عرب هذه العصور الثلاثة هي المصدر المُعتمَد لتشكيل ضوابط النحو واللغة، وأما العرب الذين جاءوا بعد هذه العصور فيُعبَّر عنهم بالمولَّدين لذلك فإنَّ أشعارهم وخطبهم لا تُعتمد دليلاً في علم النحو واللغة.

ولأن القرآن الكريم بقطع النظر عن كونه إلهياً أو بشرياً صادر في العصرين الجاهلي والإسلامي لذلك كان من أهم مصادر علم النحو واللغة، فكيف يصح تخطئته نحويًا أو لغويًا والحال أنَّه مصدر علم النحو واللغة، فكما لا يصح تخطئة أيِّ جملة وردت في معلَّقة إمرء القيس أو معلَّقة طرفة بن العبد أو تخطئة أيِّ فقرة وردت في شعر حسان بن ثابت أو في كلامٍ لامية بن خلف أو غيره من العرب فكذلك لا يصح تخطئة آيةٍ من القرآن الكريم في صرفها أو إعرابها حتى لو سلَّمنا جدلاً انَّه من تأليف النبي محمد (ص).

الأمر الرابع: إنَّ القرآن الكريم نزل في أكثر العصور تميُّزًا بالفصاحة والبلاغة وسائر فنون اللغة، وقد نزل متحديًا العرب في ذلك ومدعيًا أنَّ العرب مجتمعين غيرُ قادرين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وقد كانت الدواعي عندهم مقتضية لتفنيد هذه الإدعاء وكسر هذا التحدِّي وذلك نظرًا لكفرهم وطغيانهم وتعنتهم إلا أنَّهم لم يجدوا لذلك سبيلاً، فلم يتمكن فحولهم من أُمراء الشعر والأدب الوقوف على مغمزٍ في شيءٍ من آيات القرآن رغم حرصهم على ذلك بل كلّما جدُّوا في البحث عن ثغرةٍ تكون مدخلاً للطعن عليه تبدَّى لهم من عظمته ورصانةِ سبكه ما لم يكونوا قد أدركوه قبلُ حتى قال قائلهم (والله ما هذا بقول بشر)(1) وقال آخر يصف القرآن (والله إنَّ به لحلاوة وإنَّ عليه لطلاوة وإنَّ أعلاه لمُورِق وإنَّ أسفله لمغدق)(2).

فقد أدركوا أنَّ القرآن ممتنع في صرفه وإعرابه وفي سبكه وحسن بيانه وفي بلاغته وفصاحته وفي إيجازه وإطنابه وفي فصله ووصله وبديعه وتناسق حروفه، ولذلك عدلوا عن مكابرته ومطاولته ولجئوا للسيف والحرب، ولو كانوا قادرين على مجاراة القرآن وتفنيده لكان ذلك أيسر عليهم فيما يرومونه إليه من الحروب التي خاضوها فكلَّفتهم الكثير من الأموال والأرواح.

وبما ذكرناه يتبيَّن وهنُ ما يرمي إليه مدَّعى الأخطاء النحوية في القرآن الكريم، فهو يُعبِّر بهذه الدعوى عن حظِّة من الفهم للغة العربية، فهو يتوهَّم أنَّ دراسته لبعض القواعد المدرسية تُؤهله للوقوف على ما عجز العرب مجتمعين عن الوقوف عليه من مغمزٍ لآيةٍ من مجموع آيات القرآن الكريم والحال أنَّ فيهم فحول اللغة وأمراء الشعر والأدب.

والظريف أن ما أورده من دعوى الخطأ في إعراب بعض الآيات عبَّر عن سطحيةٍ مخجلة لفهم الكلام العربي، فكأنه لا يعرف أنَّ في كلام العرب حذفًا وتقديرًا وتقديمًا وتأخيرًا.

وقديمًا أفاد بعض علماء النحو أنه (لولا الحذف والتقدير لعرف نحونا الحمير!).

الجواب عن اعراب (الصّابئين):

وكيف كان فقد وردت كلمة الصابئين في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، فكانت في موضعين منصوبة وفي موضع واحد مرفوعة.

فهي قد وردت في سورة البقرة آية رقم 62 منصوبة وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(3).

ووردت في سورة الحجّ الآية 17 منصوبة أيضًا وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(4).

أمَّا ما كانت فيه على الرفع فوردت في سورة المائدة الآية 69 وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(5).

فإذا كان ثمَّة إشكال فهو في إعراب كلمة الصابئين الواردة في سورتي البقرة والمائدة، فهي في الأولى منصوبة وفي الثّانية مرفوعة رغم أنَّ الآيتين المشتملتين على الكلمة المذكورة متّحدتان في المعنى والسياق.

وأمَّا ما ورد في سورة الحج فهي خارجة عن مورد الإشكال نظرًا لاختلاف معنى الآية الكريمة المشتملة على كلمة الصابئين فيها عن معنى الآيتين في سورة البقرة والمائدة.

والجواب عن الإشكال هو أنّ من له أدنى معرفة بعلم النحو يعلم أنَّ كلاً من الرفع والنصب في مثل هذا السياق جائزان، وحينئذٍ لا يكون ثمة مانع من اعتماد المتكلِّم الرفع في بعض خطاباته واعتماد النصب في خطاب آخر.

أمّا وجه الجواز للرفع فهو ما أفاده سيبويه من أنَّه على التقديم والتأخير والتقدير(6).

فيكون ترتيب الآية المباركة بهذا النسق: (إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك)

فالتقديم كان لقوله ﴿الصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى ﴾ والتأخير كان لقوله ﴿مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والتقدير كان لخبر قوله ﴿وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى ﴾ وهو كذلك.

وعليه تكون الواو في قوله ﴿الصَّابِؤُونَ﴾ استئنافيه، وليست عاطفة، ولهذا كان ﴿الصَّابِؤُونَ﴾ مبتدأ مرفوع بالواو وخبره مقدَّر.

ولذلك نظائر في كلام العرب، قال الشاعر:

وإلا فاعلموا إنَّا وأنتم بُغاةٌ ما بقينا في شقاق

فخبر (إنَّا) هو قوله (بغاة ما بقينا في شقاق) وهو مؤخر، وقوله (أنتم) مبتدأ خبره مقدر وتقديره (كذلك) استُغني عن ذكره بخبر المبتدأ الأول (إنَّا)، ففي البيت المذكور تقديم وتأخير وتقدير.

وقال شاعر عربي آخر:

فمَن يكُ أمسى بالمدينةِ رحلُه فإنِّي وقيارٌ بها لغريب

فقوله (لغريب) خبر لاسم إنَّ و(قيارٌ) مبتدأ والواو التي سبقته استئنافية، وخبره مقدّر استُغني عنه بخبر اسم إنَّ.

وذكر الفرّاء وجهاً آخر(7) لرفع ﴿الصَّابِؤُونَ﴾ في الآية وهو أنّ الواو الداخلة على ﴿الصَّابِؤُونَ﴾ عاطفة إلا أنّه لما كان الاسم الذي سبق الواو -وأعني ﴿الَّذِينَ﴾- من الأسماء التي لا يتبيّن فيها الإعراب لأنها تكون على نسق واحد في جميع حالاتها، لذلك جاز أن يكون العطف على كلمة ﴿الَّذِينَ﴾ التي هي اسم إنّ منصوب كما يجوز أن يكون العطف على المضمر وهو موضع إنَّ والذي هو مرفوع، والمعطوف على المرفوع مرفوع.

كما يقال: (إني وزيد قائمان) فزيد معطوف على موضع إنّ وإلا لقيل (إنِّي وزيداً).

وأمّا وجه الجواز للنصب في الآية من سورة البقرة فواضح، فهو اعتبار (الصابئين) معطوف على اسم إنَّ المنصوب بها فيكون منصوباً.


1- بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج 18 ص 187، الإصابة- ابن حجر- ج 2 ص 210، قصص الأنبياء- الراوندي- ص 318.

2- الاستيعاب- ابن عبد البر- ج 2 ص 433، بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج 9 ص 167.

3- سورة البقرة آية رقم 62.

4- سورة الحج آية رقم 17.

5- سورة المائدة آية رقم 69.

6- التبيان- الشيخ الطوسي- ج3 ص591، تفسير مجمع البيان- الشيخ الطبرسي- ج3 ص385، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز- ابن عطية الأندلسي- ج2 ص219، زاد المسير- ابن الجوزي- ج2 ص303، تفسير القرطبي- القرطبي- ج6 ص246.

7- التبيان- الشيخ الطوسي- ج3 ص593، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز- ابن عطية الأندلسي- قال: حكى الزجاج عن الكسائي والفراء ج2 ص219.