- منشأ التكرار في سورة الجحد

منشأ التكرار في سورة الجحد

السؤال:

سورة الكافرون المباركة نلاحظ فيها تكرار،في الأولى﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾،الثانية﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾و قال تعالى في الأولى ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾، الثانية ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾،ما هي أوجه التكرار و هل تحتمل نفس المعنى؟

الجواب:

الوجه في التكرار هو التأكيد:

الظاهر أنَّ الغرض من التكرار في السورة المباركة هو التأكيد، والتأكيد مما قد يتعلَّق به غرض المُتكلِم، كما لو كان حريصًا على انْ لا يتوهَّم المخاطَب غير ما هو مقصود من الكلام، وقد يخشى المُتكلِم نسيان المخاطَب او غفلته عن بعض مقاصده فيكرِّر الكلام حرصًا منه على تثبيت مقاصده في ذهن المخاطَب أو حتى لا يعتذر المخاطَب بعد ذلك بالغفلة عن بعض ما أراده المُتكلِم، فالتكرار يكون لقطع الحجَّة على المخاطَب.

وقد يكون الغرض من التكرار التأكيد للمخاطَب على خطورة الكلام وأهميَّته فيسترعي بذلك اهتمام المخاطَب وحرصه على الفهم والتثبُّت من معاني الكلام.

وقد يُكرِّر المُتكلِم كلامه ليُحدِث في نفس المخاطَب شعورًا باليأس من تراجع المُتكلِم عن رأيه أو يكون غرضه التعبير عن وثوقه التام بصوابيَّة رأيه أو ما هو عليه من موقف فلا يُحدِّث المخاطَب نفسه بمراجعته.

منشأ استظهار إرادة التأكيد:

والظاهر انَّ ذلك هو منشأ التكرار في السورة المباركة، وذلك يَتَّضح من ملاحظة سبب النزول، فقد ورد في سبب نزول السورة انَّ جمعًا من أعيان قريش جاؤوا للنبيِّ الكريم (ص) وعرضوا عليه أمرًا ادَّعوا انَّه يكون نصَفًا بينهم وبينه، فقالوا: (تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فإنْ كان الذي جئتَ به خيرًا مما بأيدينا كنَّا قد شركناك فيه وأخذنا بحظِّنا منه، وانْ كان الذي بأيدينا خيرًا مما في يديك كنتَ قد شركتنا في أمرنا وأخذتَ بحظِّك منه)(1).

فهنا لو أجاب النبيُّ (ص) بالنفي ومضى عنهم لأمكن انَّ يتوهَّموا انَّ من المحتمل انْ يُراجع النبي (ص) نفسه وحينئذٍ قد يقبَل بعرضهم أو انَّهم يرون بأنَّه لا ضير عليهم في انْ يُعاودوا العرضَ عليه فقد يقبَل بعد معاودته أو بعد الالحاح عليه أو بعد تهذيب العرض وتزويقه بما يقتضي -بنظرهم- الإغراء بالقبول.

وقد يتوهَّمون انَّ منشأ رفضه لعرضهم هو شعوره بالتعزُّز والأنفَة فهو وإنْ لم يكن جازمًا بما هو عليه من رأي إلا انَّه يستنكف عن القبول بعرضهم ابتداءً، لذلك يرون انَّ عليهم معاودته ولكن بنحوٍ يحفظون به كرامته وعزَّته.

فالمشركون من أعيان قريش ونظرًا لجديَّة الأمر وخطورته بنظرهم سوف يظلَّون يأملون قبولَ النبي (ص) بعرضهم لو لم يكن جوابه حاسمًا وقاطعًا، فذلك وحده الذي سيبعث اليأس في نفسوهم من تراجع النبي (ص) عن دعوته، وهو وحده الذي يمنعهم من معاودته، كما انَّ جوابه الحاسم والقاطع سيبعث في شعورهم انَّ النبي (ص) واثقٌ تمامًا بصوابيَّة ما هو عليه، وحينئذٍ ينقطع رجاؤهم في ثنيه عمَّا يعبد وعمَّا يدعوا إليه.

ومن ذلك يتضح منشأ التكرار في السورة المباركة، فهي قد بدأت بمخاطبة الاعيان من قريش مِمَّن حدَّثوا أنفسهم باستمالة النبي (ص) وثنيه عن دعوته، بدأتهم بخطابٍ فيه تقريع وتوهين، حيث وصفتهم بالكافرين، وهو نعتٌ يمقتونه، فكان توصيفهم به مؤشرًا على ما سيكون من جوابِ عرضهم ثم جاء الجواب صريحًا وحاسمًا ثم عاد القرآن فصدع بالجواب نفسه قطعًا لرجائهم وتأكيدًا على خيبة مسعاهم وتبصيرًا لهم بما عليه النبيُّ (ص) من ثباتٍ في أمره واطمئنانٍ بحقانيَّة دعوته.

ثم انَّ هنا رواية أوردها القمِّي في تفسيره -ينتهي مفادها إلى انَّ منشأ التكرار هو التأكيد- رواها عن ابن ابي عمير قال: سأل ابو شاكر أبا جعفر الاحول رحمه الله عن قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾(2) فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول ويكرِّره مرة بعد مرة، فلم يكن عند ابي جعفر الاحول في ذلك جواب، فدخل المدينة فسأل أبا عبدالله (ع) عن ذلك فقال (ع): كان سبب نزولها وتكرارها انَّ قريشًا قالت لرسول الله (ص): تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فأجابهم الله مثل ما قالوا، فقال فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ وفيما قالوا نعبد إلهك سنة ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ وفيما قالوا تعبد آلهتنا سنة ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ وفيما قالوا نعبد إلهك سنة ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ قال فرجع ابو جعفر الاحول إلى ابي شاكر فأخبره بذلك فقال ابو شاكر: هذا ما حمله الابل من الحجاز(3).

وأراد من ذلك التعبير عن اعجابه بالجواب.

ومفاد جواب الامام الصادق (ع) هو انَّ منشأ التكرار هو انَّ قريشًا كانت قد كرَّرت العرض على النبي (ص) في ذات المجلس مرَّتين فأجابهم القرآن بالنفي والإباء لعرضهم مرَّتين، وذلك ليؤكد لهم بأنَّ الرجاء من قبول ما عرضوه خائب، فالاجدر بهم انْ لا يعودوا لمثله.

فهم حينما كرَّروا العرض على النبي (ص) اما ان يكون غرضهم التأكيد على الإلتزام بما عرضوه أو كان غرضهم الايضاح للعرض وانَّ مرادهم التعاقب المستمر والمناقلة، فلو كان غرضهم التأكيد فالمناسب انْ يكون النفي والاباء مؤكدًا.

ولو كان غرضهم من التكرار هو الايضاح لمرادهم فلازم ذلك غالبًا انْ يكون مساق حديثهم قد وقع منهم على وجه الرفق والتلطُّف، فكانوا ينتظرون من النبي (ص) جوابًا فيه من التراخي واللين ما يُمكِّنهم من مناورته ومفاوضته، فحينما يأتي الجواب بهذه الحدَّة فإنَّه يكون مفاجئًا شديد الوقع على النفس، لذلك قد يتلطَّف المتكلِّم اذا وجد الأثر الشديد لجوابه على نفس المخاطَب ليتدارك بتلطُّفه ما كان قد أحدثه من أثرٍ سيءٍ على نفس المخاطَب إلا انَّ ذلك لم يقع، فالخطاب الصاعق الذي طرق أسماعهم فأذهلهم عاد يطرق مسامعهم مرة أخرى، فهم ما كادوا يستفيقون من مفاجئة الخطاب الاول فإذا بهم يجدون أنفسهم وقد طوَّقهم ذاتُ الخطاب مرة أخرى، فبعدئذٍ أيُّ أملٍ في معاودة النبي (ص) ومناورته؟!!

وجوه أخرى للتكرار:

ثم إنَّ هنا وجوهًا اخرى ذُكرت لبيان منشأ التكرار، نذكر منها وجهين:

الوجه الأول: التفريق بملاحظة الزمان

أي أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ هو انَّ النبي (ص) أراد انْ ينفي عن نفسه في هذه الحال العبودية لما يعبدونه وأراد انْ ينفي عنهم في هذه الحال العبودية لله تعالى الذي يعبده.

فكأنه قال انا في الزمان الحاضر لا أعبد ما تعبدونه وانتم في الزمان الحاضر لا تعبدون الله الذي أعبده.

وأما قوله تعالى: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ فالمراد منه نفي النبي (ص) عبوديته لما يعبدونه في مستقبل الزمان ونفى عنهم العبوديَّة لله الذي يعبده في مستقبل الزمان، فالآية الرابعة والخامسة تخبران عن أمرٍ غيبي وهو انَّه لن تقع منه عبوديَّةٌ لغير الله تعالى في مستقبل الزمان ولن تقع منهم عبوديَّة لله تعالى في مستقبل الزمان بل انَّهم سيظلَّون على كفرهم وشركهم إلى ان يموتوا.

فالمنفيُّ في الآية الثانية والثالثة غير المنفيِّ في الآية الرابعة والخامسة، إذ انَّ الآيتين الاوليين كان محط النفيِّ فيهما هو الزمان الفعلي وأما الآيتان الأخيرتان فالنفي فيهما كان للزمان الاستقبالي.

مناقشة:

وهذا الوجه ذكره مقاتل بن سليمان في تفسيره وغيره(4)، وهو لا يخلو من تكلُّف، فهو وانْ كان منسجمًا مع الوجه الذي بيَّناه إلا انَّ الحيثيَّة الاضافيَّة التي اشتمل عليها هذا الوجه منافية لما هو المتعارف من انَّ الفعل المضارع اذا دخلت عليه أداة النفي (لا) أفاد النفي الأعم من الحالي والاستقبالي وذلك على خلاف ما اذا كان النفي بـ (ما) فإنَّ النفي بها يكون نفيًا للحال دون الاستقبال، وعليه فالظاهر من قوله تعالى: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ هو انَّه لا يعبد أبدًا ما يعبدون.

نعم لو كان قد قال ما (أعبد ما تعبدون) لكان المستظهَر من ذلك هو النفي في الحال مع السكوت عن النفي الاستقبالي.

الوجه الثاني: التفريق بملاحظة معنى (ما)

أنَّ المنفيَّ في قوله تعالى: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ هو العبادة(5) أي كأنَّه قال: ما انا عابد عبادتكم ولا انتم عابدون عبادتي، فتكون (ما) في قوله: ﴿مَّا عَبَدتُّمْ﴾ وفي قوله: ﴿مَا أَعْبُدُ﴾ مصدرية، وذلك بخلاف الآيتين الاوليين فإنَّ كلمة (ما) فيهما اسم موصول، وعليه فهما مختلفتان معنًى عن الآيتين الاخيرتين، فقوله تعالى: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ يعني انَّه لا يعبد المعبود الذي يعبدونه وهي الاصنام ولا هم عابدون المعبود الذي يعبده وهو الله جلَّ وعلا.

وأما المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ فهو انَّه لا يعبد عبادتهم ولا هم يعبدون عبادته.

فعبادة النبي (ص) مبتنية على الاخلاص لله وحده لا يشوبها شرك، وأما عبادتهم التي يزعمون انَّها ستكون لله في سنة -بمقتضى عرضهم- فهي لن تكون خالصة لله تعالى، وذلك نظرًا لعدم ايمانهم بالتوحيد، فحتى لو التزموا ظاهرًا بعبادة معبود النبي (ص) وهو الله تعالى فإنَّ ذلك لن يتحقق منهم واقعًا، لانَّهم لا يؤمنون بالتوحيد، والعبادة الحقيقة متقوِّمة بالايمان القلبي قبل التخضُّع الظاهري، لذلك أفادت الآية المباركة ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ انَّ اقتراحهم بأنْ يعبدون عبادة النبي (ص) لا يتحقق.

كما انَّ النبي (ص) لا تتحقق منه العبادة التي هم عليها لانَّها عبادة مبتنية على الشرك، وعبادته مبتنية على الاخلاص.

فمفاد الآيتين الاُخريين انَّ اقتراحكم غير قابلٍ للتحقُّق فأنتم تتوهمون انَّ العبادة تعني الخضوع الظاهري دون الإذعان القلبي لذلك اقترحتم انْ تعبدون الله سنة ويعبد النبي (ص) آلهتكم سنة، وهذا الأمر لا يتحقق مع بقاء النبي (ص) على ما يُؤمن به من التوحيد وبقائكم على ما انتم عليه من الايمان بتعدُّد الآلهة، لانَّ الذي سيتحقق لو قبِل النبي (ص) بعرضكم هو التخضُّع الظاهري، وهذه ليست عبادة واقعًا، واذا كانت هذه هي العبادة بنظركم فهي ليست كذلك واقعًا وعند النبي الكريم (ص) لذلك فانتم لا تعبدون عبادته ولا هو يعبد عبادتكم.

والمُتحصَّل مما ذكرناه في هذا الوجه انَّ السورة المباركة بدأت بالتعبير عن انَّ النبي لن يعبد أبدًا غير الله جلَّ وعلا وانَّهم لن يعبدوا الله أبدًا، وهو اخبار عن أمرٍ غيبي، وذلك هو ما وقع خارجًا فإنَّ من خاطبتهم السورة بذلك لم يؤمن منهم أحد إلى انْ ماتوا، ثم أنَّ السورة أفادت أنَّ عبادة النبي (ص) مبتنية على الاخلاص وذلك لا يتحقق من الكافرين المشركين حال شركهم وانْ زعموا انَّهم يلتزمون بها سنة فإنَّهم لو التزموا فانما سيلتزمون بذلك ظاهرًا وذلك ليس من العبادة في شيء لهذا قال الله تعالى: ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد﴾ أي انكم لا تعبدون عبادتي.


1- الأمالي- الشيخ المفيد- ص247، الأمالي- الشيخ الطوسي- ص19، تفسير مجمع البيان- الشيخ الطبرسي- ج10 ص463، جامع البيان- إبن جرير الطبري- ج30 ص430، تفسير الثعلبي- الثعلبي- ج10 ص310.

2- سورة الكافرون آية رقم 1-6.

3- تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي- ج2 ص445.

4- تفسير مقاتل بن سليمان- مقاتل بن سليمان- ج3 ص529، تفسير الثعلبي- الثعلبي- ج1 ص315، تفسير السمعاني- السمعاني- ج6 ص294، تفسير البغوي- البغوي- ج4 ص535، تفسير النسفي- النسفي- ج4 ص360.

5- تفسير مجمع البيان- الشيخ الطبرسي- ج10 ص462.