- مشروعيَّة التَّقيَّة من المسلم

مشروعيَّة التَّقيَّة من المسلم

المسألة:

هناك من يقول إنَّ التَّقية وإن كانت مشروعة إلا أنَّها مختصَّة بحالات الخوف من الكُفَّار، فهذه الحالة هي التي دلَّت الآيات على مشروعيَّة التَّقيَّة فيها كقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾(1)، وأمَّا التَّقية من المسلمين فلا دليل على مشروعيتها بل هي من النّفاق والكذب، فما هو جوابكم على هذا الإشكال؟

الجواب:

دليل عدم الاختصاص:

التَّقيَّة تعني الاتِّقاء والاحتراز من الوقوع في الضرر والمكروه، فإذا كان ثَمَّة ظالم غشوم متنفِّذ يُريد إيقاعك في الضرر والمكروه الشَّديدين نظرًا لإيمانك بأمرٍ لا يرغب فيه، فإظهارك لعدم الإيمان بذلك الأمر أو عدم إظهارك لما تُؤمن به حتَّى لا تقع فريسةً لظلمه وإيذائه هو المراد من التَّقيَّة، وهي من مقتضيات حكم العقل الفطري حيث يحكم العقل بلزوم حفظ النَّفس من كلِّ ما هو محذور وخطير، وهذا الحكم العقلي لا يختصّ بما لو كان مصدر الضَّرر كافرًا، إذ أيُّ فرقٍ بين سلطانٍ جائرٍ كافرٍ وبين سلطانٍ جائرٍ مسلمٍ إذا كان كلٌّ منهما مريدًا لآيذائك في نفسك أو عرضك أو مالِكَ لمجرَّد أنَّك تعتقد ما لا يرغب فيه؟ أيصحُّ لعاقلٍ أن يدَّعي لزوم تعريض النَّفس للخطر إذا كان مصدر الخطر مسلمًا؟! نعم لو لم يكن ثَمَّة ضرر أو مكروه يترتَّب من إظهار المُعتقَد فلا موضوع للتَّقيَّة ولا مشروعيَّة لها حتَّى مع الكافر فضلاً عن المسلم، هذا هو ما تلتزم به الشَّيعة الإماميَّة، فهم لا يمارسون التَّقيَّة في ظرف الأمن من الوقوع في الضَّرر والمكروه، لذلك تجدهم يُصحرون بآرائهم ومعتقداتهم في المحافل، وها هي كتبهم المُعبِّرة عن عقائدهم وفقههم تملأ الدُّنيا بمختلف اللغات.

وأمَّا الآية الشَّريفة وهي قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾(2) فصحيح أنَّها وردت في عمَّار بن ياسر عندما أكرهَهُ الكُفَّار على قول كلمة الكُفر(3) إلا أنَّ الثَّابت عند علماء الأصول من الفريقين أنَّ المورد لا يُخَصِّص الوارد وذلك لأنَّ القرآن يجري مجرى الشَّمس والقمر، وعليه يمكن التَّمسُّك بالآية الشَّريفة لإثبات مشروعيَّة التَّقيَّة حتَّى من المسلم لو كان ظالمًا متسلِّطًا وأَكرَهَ مسلمًا من غير مذهبه على إظهار خلاف ما يعتقد به.

دعوى انَّ التقية نفاق:

وأمَّا دعوى أنَّ التَّقيَّة من النِّفاق فهي غايةٌ في الغرابة، إذ أنَّ النِّفاق يعني كتم الكُفر وإظهار الإيمان، وأمَّا كتم الإيمان وإظهار الكفر خوفًا فليس من النِّفاق وكذلك إضمار الحقّ وعدم إظهاره خوفًا أو إظهار الباطل وإضمار الحقَّ خوفًا ليس من النِّفاق في شيء كما هو أوضح من أن يَخفى إلا على مَن يُكابر، وأمَّا أنَّ التَّقيَّة من الكذب فهي كذلك إلا أنَّه لا ريب في مشروعيَّة الكذب بإجماع المسلمين بل والعقلاء في ظرف الخوف من الضرر الشَّديد، فالفقهاء(4) قاطبة على اختلاف مذاهبهم يُفتون بجواز الحلف بالله كذبًا إذا خشي الإنسان على نفسه من القتل أو على عرضه من الهتك أو على ماله من السلب إذا كان الحلف ينجيه من ذلك.

ثُمَّ إنَّ هنا أمرًا آخر أودُّ التَّنبيه عليه في ختام الجواب، وهو أنَّ التَّقيَّة رخصة منحها الله تعالى لكلِّ مسلمٍ واجَهَ ظلمًا من أحد ولم يكن بوسعه صرف الظُّلم عن نفسه إلا بالتَّقيَّة، فهي من الرُّخص الشَّخصيَّة بمعنى أنَّ التَّقيَّة ليست مشروعة لكُلِّ أحدٍ وفي كُلِّ ظرف، فمن لا يترتَّب على إظهاره لمُعتقَده أيُّ ضررٍ أو مكروه فالتَّقيَّة ليست مشروعة في حقِّه، وكذلك لا تكون التَّقيَّة مشروعة لو كان في عدم إظهاره لمعتقده أو كان في إظهاره لغير مُعتقَده مظنَّة الضَّياع للحقّ، فلو فرض أنَّ المواجه للظّلم والبغي واحدٌ من العلماء وكان عدم إظهارِهِ لمعتقده ومذهبه أو كان إظهاره لخلاف مذهبه موجبًا لاغترار البسطاء من النَّاس وافتتانهم عن مذهبهم فإنَّ التَّقيَّة لا تكون مشروعة في حقِّه بل يلزمه إظهار مذهبه وإن أَوجب ذلك سفكُ دمِه، هذا هو مذهب الشِّيعة في التَّقيَّة.


1- سورة النحل آية رقم 106.

2- سورة النحل آية رقم 106.

3- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي- ج16 ص266 باب 29 من كتاب الأمر بالمعروف ح2، تفسير العياشي- محمد بن مسعود العياشي- ج2 ص271، المستدرك- الحاكم النيسابوري- ج2 ص357، السنن الكبرى- البيهقي- ج8 ص209.

4- نيل الأوطار- الشوكاني- ج8 ص85، فتح الباري- ابن حجر- ج5 ص220.