- التدرُّج في تحريم الخمر

التدرُّج في تحريم الخمر

المسألة:

هل كان تحريم الخمر تدريجياً كما ذكر البعض أو انَّه حُرِّم دفعة واحدة؟

الجواب:

لا تدرّج في أصل حرمة الخمر:

كُلُّ الآيات التَّي وردت في الخمر-وإن اختلف زمن نزولها- أفادت تحريمه، غايته أنَّها تتفاوت من حيث التَّشديد على الحُرمة فبعضُها آكدُ في بيان الحُرمة من البَعض الآخر إلا أنَّها تشترك في إفادتها للحُرمة، وهذا ما يُعبِّر عن عدم التَّدرُّج في تشريع التَّحريم للخمر، فكان الخمر حرامًا من أوَّل الأمر إلا أنَّه لمَّا كانت ظاهرة التَّعاطي للخمر مستحكمة في الوسط الاجتماعي آنذاك اقتضت الحكمة الإلهيَّة أن يتمّ التَّدرُّج في معالجة هذه الظَّاهرة، فلم يكن الحدَّ وهو الجلد ثمانين جلدةً مُقرَّرًا في بداية التشريع لحُرمة الخمر كما أنَّ لزوم إتلافه وحُرمة المعاوضة عليه لم يكن مُقرَّرًا في بداية تشريع الحُرمة للخمر، فكان النَّاس يتعاطونه ويُعاوِضونَ عليه دون أن يصدر أمرٌ من النَّبيّ (ص) بلزوم إتلافه وحرمة المعاوضة عليه حتَّى نزلت الآية من سورة المائدة وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(1)، أمر النَّبيّ (ص) بإراقة أواني الخمر، وقال مَن شرب الخمر فاجلدوه كما أفادت ذلك رواية علي بن إبراهيم(2).

فالتَّدرُّج إذن لم يكن في أصل التَّحريم وإنَّما كان في مستوى التَّأكيد على التَّحريم وفي ترتيب الآثار على التَّحريم.

التدرّج إنما كان في مراتب الحرمة:

ولكي يتمّ التَّأكُّد من صحَّة ما ذكرناه نقول: إنَّ أوَّل آية نزلت في شأن الخمر بنحو التَّتنصيص هي قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...﴾(3)، وهذه الآية من سورة البقرة وهي سورة مدنيَّة نزلت في بداية الهجرة(4) وهي تامَّة الظُّهور في الحُرمة حيثُ أفادت أنَّ في الخمر إثمًا كبيرًا وهو تعبير عن الحُرمة ويُؤكِّد ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ...﴾(5).

وأمَّا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾(6)، فهو من سورة المائدة وهي آخر سور القرآن نزولاً(7) على النَّبيّ (ص) ودلالتها على التَّحريم أكثرُ وضُوحًا وتشديدًا حيثُ اشتملت على التَّأكيد المُستفاد من ﴿إنَّما﴾ ووصفت الخمر بالرِّجس وإنَّه من عمل الشَّيطان وإنَّ تعاطيه يقع في سياق الإرادة الشَّيطانيَّة المنتجة لضلال من انساق إليها حتمًا كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾(8)، كما أنَّ الآيتين اشتملت على الأمر باجتنابه صريحًا وتصدَّت لبيان بعض المفاسد المترتِّبة على تعاطيه وهي إيقاعه لشاربه في العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصَّلاة، ثُمَّ ذيلت الآيتين بقوله: ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ وهو استفهام توبيخيّ الغرض منه التعبير عن الاستياء من عدم انتهاء بعض المسلمين عن شرب الخمر رغم النَّواهي التي كانت قد صدرت سابقًا كالآية الواردة في سورة البقرة وكذلك ما كان يصدر عن النَّبيّ (ص) من نهيٍ عن شربه، ثُمَّ لم يقف التَّشديد على التَّحريم عند هذا الحدّ بل جاءت الآية التي تلت الآيتين لتُؤكِّد على لزوم طاعة الله والرَّسول والحذر من التَّولِّي والمُخالفة لهما(9).

والمُتحصَّل أنَّه بعد اتِّضاح تماميَّة دلالة الآية الواردة في سورة البقرة على التَّحريم وبعد اتِّضاح التَّفاوت في مستوى التَّأكيد والتَّشديد بين الآية الواردة في سورة البقرة وبين ما ورد في سورة المائدة وإنَّ الفاصلة الزَّمنيَّة بينهما طويلة يتبيَّن أنَّ التَّحريم كان ثابتًا من أوَّل الأمر وإنَّ التَّدرُّج إنَّما كان في مستوى التَّأكيد وترتيب الآثار، وذلك كان رعاية للواقع الذي كان عليه المسلمون، فليس من اليسير على الكثير منهم أن يتركوا شيئًا كانوا قد اعتادوه وأدمنوا عليه، وبذلك يثبت أنَّ مَن كان يشرب الخمر بعد نزول الآية من سورة البقرة على أحسن التَّقادير كان مذنبا إلا أنَّ ذنبه أشدَّ لو كان قد شربها بعد نزول سورة المائدة.

ويمكن أن نؤكد ما ادعيناه من أنَّ التدرُّج في التأكيد كان لغرض معالجة الظاهرة بما يتناسب مع تجذُّرها واستحكامها ببعض ما ورد في الروايات عن أهل البيت (ﻉ):

منها: ما رواه الكُليني أيضًا: "إنَّ أوَّل ما نزل في تحريم الخمر قوله عزَّ وجلّ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...﴾ فلمَّا نزلت أحسّ القوم بتحريم الخمر وعلموا إنّ الإثم ممَّا ينبغي اجتنابه...

ثُمَّ نزلت آية أخرى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(10)، فكانت أغلظ من الأولى والثَّانية أشدُّ..."(11).


1- سورة المائدة آية رقم 90.

2- تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي- ج1 ص180.

3- سورة البقرة آية رقم 219.

4- الكافي- الشيخ الكليني- ج6 ص401، فتح الباري- ابن حجر- ج8 ص122، الدر المنثور- جلال الدين السيوطي- ج1 ص252، تفسير الثعلبي- الثعلبي- ج1 ص135.

5- سورة الأعراف آية رقم 33.

6- سورة المائدة آية رقم 90-91.

7- ورد ذلك بسندٍ معتبر عن ابي جعفر (ع) عن علي (ع) وعن ابي عبدالله بسندٍ معتبر راجع وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي- ج1 ص459 باب38 من أبواب الوضوء، الإتقان في علوم القرآن- السيوطي- ج1 ص84.

8- سورة الحج آية رقم 4.

9- ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾.

10- سورة المائدة آية رقم 90.

11- الكافي- الشيخ الكليني- ج6 ص406.