- العصمة لا تلازم الإلجاء والجبر

العصمة لا تلازم الإلجاء والجبر

المسألة:

إذا قلنا بأنَّ أئمة أهل البيت (ﻉ) معصومون من قِبَل الله تعالى .. ألا يستلزم ذلك الجبر؟ حيث أنَّ الأئمة (ﻉ) لا يعصون الله أبدًا لأنَّ الله عاصمهم من الزلل وكذلك الأنبياء؟ أليس في ذلك جبر على فعل الخير وعدم فعل الشر (المعاصي) وحينئذٍ لا فخر لهم على النّاس؟

الجواب:

معنى العصمة من الذنوب:

العصمة من الذنوب هي ملكة من سنخ التقوى راسخة في النفس، على أن يكون مستوى الرسوخ قد بلغ من التجذُّر حدَّاً ينعدم معه الداعي إلى ارتكاب المعصية مهما حقرت.

وبيان ذلك:

منشأ عدم ارتكاب المعصوم للمعصية:

إنَّ المعصية من الأفعال الاختيارية للإنسان، بمعنى أنَّه إن شاء ارتكبها وإن شاء لم يرتكبها، ولما كانت المعصية من الأفعال الاختيارية فهذا يقتضي أن لا تصدر من الإنسان المختار إلا أن يكون ثمة داعٍ في نفسه إلى ارتكابها، أما إذا لم يكن داعٍ في النفس لارتكابها فإنَّ المعصية لا تقع منه، لذلك فهو تارة يشرب الخمر مثلاً وتارة يُحجم عن شربه، وفي كلا الحالتين كان قادراً على شربه، غايته أنَّه في المرة الأولى كان ثمة داعٍ في نفسه إلى شربه وهي الرغبة لذلك أقدم على الشرب.

وفي المرة الثانية لم يكن يرغب في الشرب فلم يكن في نفسه داعٍ للشرب، لذلك لم يقع منه الشرب للخمر رغم أنَّه كان قادرًا على ذلك كما هو في المرة الأولى.

وبما ذكرناه اتضح إجمالاً منشأ عدم ارتكاب المعصوم (ع) للمعصية، فالمنشأ هو عدم وجود الداعي في نفس المعصوم لارتكاب المعصية، وحينما لا يكون داعٍ في النفس للمعصية فإنَّ المعصية لا تقع منه.

واتضح أيضاً أنَّ عدم وجود الداعي في النفس لارتكاب المعصية لا يعني عدم القدرة على ارتكابها، فهي وإنْ كانت مقدورة ولو شاء لارتكبها إلا إنَّه لا يفعل لعدم وجود الداعي في نفسه إلى ارتكاب فعل المعصية.

إذن فالمانع لعدم ارتكاب المعصوم (ع) للمعصية ليس هو العجز والإلجاء وعدم القدرة وإنما هو عدم وجود الداعي في النفس لارتكاب المعصية.

أما ما هو منشأ عدم حصول الداعي في نفس المعصوم (ع) للمعصية فهو التقوى الراسخة في النفس.

فهي التي تصرف عن النفس الداعي لارتكاب المعصية والرغبة في اقتحامها.

فالتقوى ذات مراتبَ متعددة تشتدُّ وتضعف، وما مِن مرتبة من مراتب التقوى إلا وهي تعصم الواجدَ لها عن بعض الذنوب، فثمة مستوىً من التقوى يكون معه الإنسان معصوماً من ارتكاب القتل العمدي مثلاً، وثمَّة مستوىً يكون معه معصوماً من شرب الخمر والسرقة.

فنستطيع دون عناية أن نُشير إلى مَن هو واجد لذلك المستوى من التقوى فنقول هو معصوم من الوقوع في السرقة وشرب الخمر والقتل العمدي، وذلك لا لأنَّه عاجز عن ارتكاب هذه الكبائر من الذنوب بل لأنَّه بلغ من التقوى حداً أصبحت معه هذه الذنوب مستوحَشَة في نفسه لذلك فهو مُنصرِف عنها ولا يجد ما يدعوه لارتكابها.

وحينئذ لا تقع منه هذه الذنوب، وهذا هو معنى العصمة عن هذه الذنوب.

بل نستطيع أن نقول أنَّه ما من إنسان عاقلٍ مختار إلا وهو معصوم عن بعض الأفعال فهو لا يرتكبها جزمًا إلا أن يفقد عقله أو اختياره.

فشرب السم القاتل فورًا وجزمًا لا يُقدم عليه عاقل إذا كان ملتفتًا إلى كونه سُمًّا موجبًا قطعًا للموت الفوري، ومنشأ عدم إقدامه على شربه هو حرصه الشديد على حياته، فهو لا يريد لها الهلاك لنفسه، لذلك ينعدم الداعي عنده إلى تناول السم وإن كان أمامه وأُعطي في مقابل تناوله الكثير من المال.

فهو إذن معصوم عن شرب السم، ومنشأ عصمته هو حرصه على الحياة.

فهذا الحرص هو الذي منعه عن الإقدام على تناول السم.

فالإمتناع عن تناول السُم لم ينشأ عن العجز وعدم القدرة على تناوله وإنما نشأ عن موازنةٍ بين خيارين أحدهما لا يرغب في عاقبته والآخر يحرص على التمسُّك به.

فذلك هو ما صرف عنه الداعي إلى اختيار الأول.

وبنفس هذا التقريب يكون اقتضاء التقوى للعصمة عن بعض الذنوب، فالتقوى التي تقتضي الحرص عن الوقوع فيما يُسخط الله تعالى والحرص على الكون في موقع الرضوان الإلهي تجعل مِن النفس مُنصرِفة عن الرغبة في ارتكاب الذنوب، فليس ثمة من داعٍ عندها يدفعها إلى ارتكاب الذنوب، ولهذا لا تقع الذنوب وإذا وقعت فهي إنما تقع نتيجة ضعفٍ في مستوى تقوى النفس أما إذا بلغت التقوى مرتبتها العالية والتامة فإنَّ الذنوب لا يتفق وقوعها حتمًا.

وهذا هو مرادنا من العصمة التامة عن الذنوب الثابتة للأنبياء (ع) ولأهل البيت (ﻉ).

ولمزيد من التوضيح نقول:

التقوى العاصِمة :

إنَّ التقوى العاصمة عن تمام الذنوب خطيرِها وحقيرِها تتقوَّم بأركانٍ ثلاثة:

الأول: العلم الشامل والتفصيلي بأحكام الله جلَّ وعلا.

الثاني: الرؤية التامة لآثار وعواقب المخالفة للتكاليف الإلهية، وحضور هذه الرؤية في النفس على نحو الدوام.

الثالث: الحبُّ الشديد لله جلَّ وعلا والرغبةُ التامَّة في الرضوان الإلهي والخشيةُ المتناهية في الشدة من السخط الإلهي.

فإذا اتفق لأحدٍ هذا المستوى من التقوى فإنَّه لا يُقدِمُ على معصيةٍ أبدًا، وذلك لأن الإقدام على المعصية يسبقه الداعي إليها، والداعي لا ينشأ إلا عن رغبةٍ في النفس لآثار المعصية من لذةٍ أو نفعٍ أو حميَّةٍ أو غير ذلك من الآثار المُنتظَرة من المعصية.

فإذا كان الإنسان يعلم بأنَّ هذا الفعل معصيةٌ لله تعالى وكان مستحضِرًا للآثار والعواقب المترتبة على ارتكاب هذه المعصية بمعنى أنَّه يرى المعصية من زاوية ما يترتب عليها من آثار وخيمة، فكأنه لا يرى لها من أثرٍ سوى هذه الآثار كما أفاد أمير المؤمنين (ع) في صفات المتقين "فهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذَّبون ..."(1).

فالاثر السيء للمعصية ماثل في النفس بمستوى الشهود، فإذا كان مع ذلك شديد الحبِّ لله تعالى شديد الرغبة في رضوانه ليس في نفسه من طموح إلا أن يكون محظيًّا عند ربِّه يخشى أشدّ الخشية أن يكون ولو للحظة في موقعٍ يسخطه الله تعالى أو لا يريده، فحينئذٍ لا يُتصور لمثل هذا الإنسان أن ينشأ في نفسه داع لارتكاب المعصية فضلاً عن مقارفتها.

فالمعصية في نفسه مُستبشَعة كأشدِّ ما يكون استبشاع المحب الإساءةَ لمعشوقه ومُستقذَرة استقذار العارف بحقيقة الطعام القذِر المقدَّم إليه وكيفية تحضيره، فقد يرى الغافل طعامًا مزوَّقًا ومنوَّقًا فيتناوله بشراهةٍ لجهله بأنَّه من لحوم الجيف المتهرئة والمشوبة بسموم الأفاعي وفضلات القوارض والمعالَجة من قبل المجذومين وذوي العاهات المزمنة والمعدية، أمَّا العارف بواقع هذا الطعام وبمَن عالجه فإنَّه يستقذره بل ويفرُّ منه رغم أنه كان مزوَّقًا ومنوَّقًا.

فالمعصوم (ع) يرى المعصيةَ وإنْ حقرت رؤية هذا العارف لحقيقة هذا الطعام ويستقذرها استقذار هذا العارف لهذا الطعام.

وكما لا يصحُّ وصف هذا العارف بأنه كان مُلجئًا ومقسورًا على عدم تناول هذا الطعام فكذلك لا يصح وصف المعصوم بأنَّه مقسور على ترك المعصية.

فهو إنما يترك المعصية لمعرفته بحقيقتها والآثار المترتبة على مقارفتها ومنافاة الوقوع فيها لإرادة محبوبه ومعشوقه ولأنَّها تحول بينه وبين كمال عبوديته والتي لا مطمح له في سواها، لذلك فهو يستحق على ترك المعصية أحسن الثناء نظرًا لنشؤ ذلك عن المعرفة والحب لله تعالى والخشية من سخطه والرغبة في كمال الحظوة عنده تعالى.

وبما ذكرناه يتضح أنَّ العصمة وإنْ كانت منحةً إلهية يهبها لبعض عباده لغايةٍ تقتضيها حكمتُه إلا أنَّ ذلك لا يعني إلجاء مَن مُنحت له العصمة على الطاعة وترك المعصية، وذلك لأنَّ منح العصمة إنما هو بمعنى الإراءة والهداية والتسديد.

العصمة هداية وتسديد دائم:

أو بتعبير آخر: هو أنَّ الله تعالى يخلق في المعصوم الاستعداد الذهني والنفسي لتلقِّي الفيوضات الإلهية ثم يفيض عليه من العلم والمعرفة ما يُؤهِّله لرؤية المعصية على حقيقتها وما يترتب عليها من آثار، ويمنحه من الملكات النفسية والسجايا الحميدة ما يُؤهِّله لمقاومة الرغبات التي تقتضيها طبيعته الإنسانية، وكلُّ ذلك لا يسلب منه اختيار ما ينافي علمه وملكاته الممنوحة له من قِبل الله تعالى.

فهو قادر على اختيار ما يراه قبيحًا ومنافيًا للعفَّة مثلاً إلا أنَّه لا يختاره بمحضِ إرادته.

فكما أنَّ الله تعالى قادر على ظلم عباده إلا أنَّه لا يختار الظلم أبدًا فكذلك المعصوم (ع) قادر على فعل المعصية إلا أنه لا يفعلها.

فكما أنَّ عدم صدور القبيح من الله تعالى لا ينافي قدرته واختياره فكذلك عدم صدور المعصية من المعصوم (ع) لا ينافي اختياره وقدرته على مقارفتها.

ولإيضاح عدم الملازمة بين كون العصمة ممنوحة من الله تعالى وبين سلب الاختيار والقدرة على فعل المعصية بهذا المثال: وهو أنَّ أحدًا لو كان يجهل الطريق إلى مقصده فوجد رجلاً صالحًا راجح العقل عارفًا بالطريق وأبدى استعداده لإيصاله إلى مقصده فأخذ بيده أو سار معه في الطريق الموصل للمقصد.

فهل يُقال عن هذا الإنسان غير العارف بطريقه إلى مقصده أنه مسيَّرٌ ومسلوب الاختيار لمجرَّد انقياده لهذا المرشد، ألم يكن من الممكن لهذا الإنسان أن ينحرف إلى طريقٍ آخر أو أن يتخلَّى عن مقصده فلا يرى مقتضيًا لمواصلة السير في ذلك الطريق، فهو لم يفعل ذلك بمحض اختياره وذلك لشدة تعلُّقه بمقصده ووثوقه بالمتصدِّي لإرشاده، ولأنَّ رجاحة عقله تدعوه للالتزام بذلك الطريق المفضي لبلوغ غايته وإنْ شقَّ عليه السير وأعياه بُعد المسافة.

فالعصمة ليست شيئًا آخر غير الهداية والتسديد الدائم للمعصوم (ع) ولكن هذه الهداية ليست بمستوى الإراءة للطريق المفضي للرضوان الإلهي بل هي بمستوى الأخذ باليد إلى حيث بلوغ المقصد، وهذا هو معنى التسديد الدائم.

فالمعصوم مؤيَّد ومسدَّد ولكنه ليس مسلوب الاختيار.

فله أن يتمرَّد فيُصغي إلى ما تقتضيه طبيعته الإنسانية إلا أنَّه لا يفعل لشدة حرصه على أن يكون دائمًا قريبًا من الله تعالى بعيدًا عمَّا يوجب سخطه.


1- نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج 2 ص 161، كتاب المؤمن - الحسين بن سعيد - ص 7.