- تقديس أهل الكتاب للكعبة الشريفة؟

تقديس أهل الكتاب للكعبة الشريفة؟

المسألة:

يذكر القرآن الكريم أنَّ الكعبة بُنِيَت مُنذ زمنِ إبراهيم (ع) ونحن نعرف بأنَّ اليهود والمسيح وأنبياءهم موسى وعيسى (ع) يؤمنون بإبراهيم (ع) وهذا يعني أنهم يجب أن يقدِّسوا البيت الحرام، ولكننا لا نجد المسيح واليهود يقدِّسون الكعبة مع العلم أنَّها بُنِيَت من زمن إبراهيم (ع) يعني قبل موسى وعيسى (ع) فلماذا انفرد الدِّين الإسلاميّ فقط بتقديس الكعبة من بين الأديان السماوية؟!

الجواب:

استياء أهل الكتاب من تحويل القبلة:

إنّ ثقافة اليهود وكذلك النّصارى بُنيت على أنّ بيت المقدس أكثر شرفًا وقداسةً من الكعبة المُشرّفة، لذلك كان منهم استياءٌ شديد عندما أمر الله تعالى نبيَّه محمّدًا (ص) بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشّريفة، وقد أشار القرآن الكريم في أكثر من آية إلى ما يُعبِّر عن استيائهم وسخطهم من الأمر بتحويل القبلة، قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(1)، وقال تعالى في موضع آخر: ﴿...وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾(2)، وقال: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾(3).

منشأ استيائهم:

ومنشأ استيائهم أنّهم كانوا يتّخذون من استقبال المسلمين لبيت المقدس ذريعةً بزعمهم لإثبات أنّ دينهم هو الحقّ وأنّه لم يُنسخ، وقد تركت هذه الحجّة الواهية أثرًا على بعض ضعَفةِ النّاس من المسلمين، وهو ما أوجب توجّس النّبيّ الكريم (ص) من افتتان المسلمين عن دينهم، وكان ينتظر أمرًا إلهيًّا تندفع به شبهة أهل الكتاب فكان الأمر بتحويل القبلة، قال تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾(4)، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(5).

فلأنّ تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام كان واحدًا من مناشئ سقوط ما كانوا قد تذرّعوا به لتضليل المسلمين والافتخار عليهم، نشأ عن ذلك استيحاشٌ منهم تجاه الكعبة المشرّفة، فهم وإن كانوا يقدِّسونها بزعمهم ولكنّهم يرونها دون بيت المقدس في القداسة والشّرف، ولأنّ الكعبة أصبحت رمزًا للإسلام بعد الأمر باستقبالها في الصلاة والحجِّ إليها لذلك رأوا في أنَّ زيارتها وتقديسها معناه الإذعان للأمر الواقع الذي فرضه ظهور الإسلام.

لذلك بذلوا مساعٍ حثيثةً في صدر الإسلام لإثبات أنَّ ما جاء به النّبيّ محمّد (ص) منافٍ لما عليه جميع الرّسالات، فزعموا مثلاً أنّ بيت المقدس هو أوّل بيت وُضع للعبادة فتصدّى القرآن لتفنيد هذه الدّعوى.

وأفاد أنّ أوّل بيتٍ وُضِعَ للعبادة هو بيت الله الحرام حتَّى قبل أن يبعث الله تعالى إبراهيم، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾(6).

وأفاد إنَّ إبراهيم هو مَن رفع القواعد للبيت، وهو أمرٌ لا يخفى على أحدٍ من أهل الدّيانات، ومن المعلوم أنَّ إبراهيم قد سبق زمنهُ زمنَ داود وسليمان اللذين بنيا بيت المقدس.

قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(7)، ثُمَّ إنّ الله تعالى أَمَرَهُ بأنْ يهيئ بيته الحرام للطَّائفين والعاكفين والرُّكَّع السُّجود، قال تعالى: ﴿...وَعَهِدْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾(8).

وأمَرَهُ أن يدعوا النّاس ويستحثَّهم على زيارة البيت الحرام والحجّ إليه فقال جلّ وعلا: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾(9).

إذن لم تكن دعوة النّبيّ (ص) إلى حجّ بيت الله وقصده للعبادة منافٍ لما عليه الأنبياء كما زعم أهل الكتاب.

والمتحصل أنَّ منشأ استيحاش أهل الكتاب من الكعبة المشرفة هو أنها أصبحت رمزًا لدين الإسلام، وقد كانت رمزًا للحنيفيَّة التي جاء بها إبراهيم الخليل (ع)، وهم قد جهدوا من أجل أن يُصبغوا دعوة إبراهيم (ع) بالصّبغة اليهوديَّة والنّصرانيّة، إلاّ أنَّهم لم يُفلحوا في ذلك بعد أن تصدّى القرآن لتبديد هذا الجهد، وأفاد أنّ إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا ولم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، فقد كان قد بُعث قبل ولادة الدّيانة اليهوديَّة والنّصرانيّة، قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(10).

إنّ واحدًا من مناشئ سعي أهل الكتاب لإثبات انتسابهم لإبراهيم (ع) هو أنّ هذا النّبيّ كان يحظى بمقبوليّة في تمام الدّيانات بل كان يحظى بمستوىً عالٍ من التّقديس حتّى عند المشركين في الجزيرة العربيّة، فأرادوا أن يتّخذوا من دعوى انتسابهم لإبراهيم وسيلةً لإثبات حقّانيّة ما هم عليه من معتقدات ووسيلةً لإدخال النّاس في دينهم ووسيلةً لإبطال دعوة النّبيّ (ص) للإسلام لذلك تصدّى الإسلام والقرآن الكريم لتبيان حقيقة الدّعوة الإبراهيميَّة بالبرهان والحقائق التّاريخية التي لا يسع المنصف التنكُّر لها، وبذلك تبيّن أنّ الكثير مما يعتقد به أهل الكتاب كان منافيًا للدّعوة الإبراهيميَّة وهو ما يُثبت انحرافهم عن خطّ التّوحيد والقيم الإبراهيميّة.

ثُمّ أفاد القرآن: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾(11).

ولو كُنَّا بصدد المقارنة بين الدّعوة الإبراهيميّة والدّيانات اليهوديّة والنّصرانيّة لفصّلنا في ذلك الكثير ولكنّه لمّا كان ذلك خارجًا من محور السّؤال رأينا عدم الخوض في هذا البحث.


1- سورة البقرة آية رقم 142.

2- سورة البقرة آية رقم 144.

3- سورة البقرة آية رقم 145.

4- سورة البقرة آية رقم 144.

5- سورة البقرة آية رقم 150.

6- سورة آل عمران آية رقم 96.

7- سورة البقرة آية رقم 127.

8- سورة البقرة آية رقم 125.

9- سورة الحج آية رقم 27.

10- سورة آل عمران آية رقم 65-67.

11- سورة آل عمران آية رقم 68.