- أجنحة الملائكة؟

أجنحة الملائكة؟

المسألة:

قوله تعالى ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء﴾(1).

السؤال كيف يكون للملائكة أجنحة وهي من شئون المادة وهم مجرَّدون عنها كما هو معروف ثم ما معنى أن يكون للملائكة ثلاثة أجنحة؟ أليس ذلك من العبث؟

الجواب:

الملائكة موجودات مادية أم مجرّدة؟

ثمة اتجاهان لمعنى الأجنحة في الآية المباركة ينتفي بكلٍّ منهما الإشكال الأول:

الاتجاه الأول الملائكة أجسام لطيفة:

إنَّ الملائكة أجسام ولكنها أجسام لطيفة(2) نورانية، فإذا كانت كذلك فلا مانع من أن تكون لها أجنحة تُحلِّق بها في السماء وتعرج بها في آفاقها وتهبط بها إلى الأرض، غايته أنَّ هذه الأجنحة ليست من سنخ جناح الطائر الذي هو بمثابة اليد للإنسان غير انَّه مشتمل على الريش والزغب، فوجه الشبه بين جناح الطائر وجناح الملاك هو الاتحاد في الوظيفة، فكما أن الجناح في الطائر يُؤهِّله للطيران والتحليق فكذلك هي الأجنحة للملائكة تؤهِّلها للتحليق والعروج في آفاق السماوات.

ولهذا نجد في الآيات ما يُعبِّر عن واجدية الملائكة لملكة الطيران والعروج وهو يقتضي امتلاكها للجناح، غايته أن سنخ هذا الجناح وماهيته يختلف باختلاف حقائق الموجودات قال تعالى ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾(3).

الاتجاه الثاني الملائكة موجودات مجرّدة:

يرى أصحاب هذا الإتجاه أن الملائكة ليست أجساماً بل هي من سنخ الموجودات المجرَّدة(4) تماماً عن المادة، فإذا كانت كذلك فالمراد من الأجنحة في الآية المباركة هو ما تتأهل به الملائكة للعروج والتحليق وان لم تكن لها خاصية الأجنحة المناسبة للموجودات الجسمانية، وعليه يكون تعدد الأجنحة وأنها مثنى وثلاث ورباع تعبير عن التفاوت في القوى والمقامات كما يمكن استشعار ذلك من قوله تعالى ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾(5).

عبثية الجناح الثالث:

وأما الجواب عن الإشكال الآخر، وانه ما معنى أن تكون للملك ثلاثة أجنحة والحال أن الجناح لا يتأدى منه الغرض إلا أن يكون مزدوجاً.

فجوابه:

أولاً: أنَّه بناء على الاتجاه الثاني يكون الجواب واضحاً، إذ أنَّ الجناح لا يعني بناءً على هذا الاتجاه سوى المقام والمستوى من القدرة على العروج.

وكذلك يتضح الجواب بناءً على الاتجاه الأول إذا تم الالتفات إلى أن الأجنحة في الملائكة ليست من سنخ الجناح للطائر.

حتى يلزم اتحادهما في خاصية الازدواج، فأجنحة الملائكة بناءً على الاتجاه الأول إنما هي بمعنى ما تتأهل به للتحليق والطيران المناسب لحقيقتها المباينة لحقيقة الأجسام الكثيفة.

فمن أين لنا العلم بأن الأجنحة للأجسام اللطيفة لا يتأدَّى منها الغرض إلا أن تكون مزدوجةً. هذا أولاً.

وثانياً: ذكر المفسرون أن المراد من قوله ﴿مَّثْنَى﴾ هو اثنين اثنين، ومن قوله ﴿ثُلَاثَ﴾ هو ثلاثة ثلاثة.

فحينما يقال: جائني القوم مثنى فإنَّ مدلوله هو أن ترتيب مجي القوم وقع اثنين اثنين، فإنَّ هذا اللفظ بهذه الصيغة دال في المتفاهم العرفي على تكرر العدد.

وهذا المعنى لا ينتقض بقوله تعالى ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾(6) بدعوى انه لو كان مدلول مثنى هو اثنين اثنين لكان مقتضى ذلك هو دلالة الآية على جواز أن يجمع الرجل تحته ثمانية عشر زوجة، فحاصل ﴿مَّثْنَى﴾ هو الأربع زوجات وحاصل ﴿ثُلَاثَ﴾ هو الستُّ من الزوجات، وحاصل ﴿رُبَاعَ﴾ هو الثمان من الزوجات فيكون المجموع ثمانية عشر زوجة.

فإنَّ هذا النقض ليس ناقضاً إذ انَّ دلالة مثل لفظ ﴿مَّثْنَى﴾ على تكرار العدد إنما هو إذا لم تكن ثمة قرينة على عدم إرادة تكرر العدد، أما إذا قامت القرينة على ذلك فإنَّ مدلول اللفظ يكون تابعاً لما تقتضيه دلالة القرينة.

والآية من هذا القبيل فإنَّه مضافاً إلى ما ثبت في السنَّة الشريفة من بيان المراد من قوله ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ وانَّه لا يصح للرجل أن يجمع تحته أكثر من أربع زوجات، ومضافاً إلى الضرورة الفقهية القاضية بذلك فإنَّ في آية النكاح قرينة على عدم إرادة تكرار العدد من قوله ﴿مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ وهي انه لو كان المراد منها هو جواز الجمع بين ثمانية عشر زوجة لتم النص على العدد فإنَّه أوفق بفصاحة الكلام نظراً لكون التعبير بمثنى وثلاث ورباع تطويلاً بلا مبرِّر بعد أن كان للعدد المقصود لفظ محدد في كلام العرب ويتأدى الغرض به دون لَبْس.

وهذا بخلاف إرادة تكرار العدد في قوله ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ فإنه المناسب للإيجاز، وذلك لان إفادة تكرار العدد إما أن يتم بقوله مثنى وثلاث ورباع أو أن يتم بالقول اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة والأول هو الأنسب بالإيجاز مضافاً إلى انه الأكثر انسجاماً مع الإيقاع السمعي وهو من المحسنات البديعية.


1- سورة فاطر آية رقم 1.

2- "وأفاد العلامة ان هذا الاتجاه هو الذي أجمعت عليه الامامية بل جميع المسلمين إلا من شذَّ منهم من المتفلسفين وأفاد ان ذلك هو مقتضى ما يستظهر من الآيات والروايات المتواترة، وقال الرازي في تفسيره ان هذا هو قول أكثر المسلمين" بحار الأنوار-العلامة المجلسي- ج56 ص203.

3- سورة المعارج آية رقم 4.

4- نسبه العلامة المجلسي في البحار إلى الفلاسفة ج56 ص203، ونسب هذا الاتجاه الفخر الرازي إلى النصارى والفلاسفة على اختلاف بينهما في بعض الخصوصيات، تفسير الرازي- الرازي- ج2 ص160.

5- سورة الصافات آية رقم 164.

6- سورة النساء آية رقم 3.