- شبهة التنافي بين التقدم العلمي وبين علم الله تعالى وأمره

شبهة التنافي بين التقدم العلمي وبين علم الله تعالى وأمره

المسألة:

اليوم -ومع هذا التقدم العلمي- نجد العلم يستطيع أن يعرف مثلاً ما في الأرحام ويُنزل المَطر عن طريق صنع الغيوم ويستطيع أن يستنسخ مخلوقًا ويحاول اليوم العلم أن يصنع حياةً مِن خلال الخلايا، كُلُّ هذه الأمور ألا تُنافي أمرَ الله؟! و نحن نقرأ بأن علم ما في الأرحام والغيث مثلها مثل علم السَّاعة، وهي من علوم الغَيب التي يختص بها تعالى بينما العلم اليوم يستطيع أن يعرف ما سيحدث للكون لمستقبل مئات السنين، هذا بالإضافة إلى ما تقدم؟!

الجواب:

الآية المشار إليها في سؤالكم هي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(1).

علم الإنسان بنزول الغيث؟!

أما العلم بالساعة فلم يدَّع أحد الوقوف عليه، وأما علم الإنسان بنزول الغيث فلا يعدو مستوى التنبؤ والحدس والذي قد يصادف الواقع وقد يُخطأه، ولو سلمنا جدلاً حصول العلم القطعي بنزول الغيث فهو لا يتحقق للإنسان إلا في وقتٍ قريب من نزوله والذي لا يتجاوز السنة على أبعد تقدير، وأما ما هو أكثر من ذلك فهو احتمال لا يرقى لمستوى العلم الجزمي كما هو مقتضى اعتراف أهل الاختصاص في الأرصاد الجوية.

وأما علمه تعالى بنزول الغيث فهو لا يقتصر أولاً: على الزمن القريب لنزوله بل هو مستوعب لتمام الأزمنة والتي قد تمتد لآلاف بل لملايين السنين، ولا يقف إلا عند حدود فناء الدنيا، فهذا هو مقتضى الإطلاق في الآية المباركة، وهو مقتضى ظهور الكثير من الآيات المباركات حيث أفادت أن نزول الأمطار لا يكون إلا بتقدير الله تعالى، والتقدير ملازم للعلم.

قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾(2).

وقال تعالى: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾(3).

وثانيًا: إنَّ ظاهر الآية المباركة وكذلك غيرها من الآيات أنَّ علمه تعالى لا يختص بزمان نزول الغيث وبموقع نزوله بل أنَّه تعالى يعلم مقدار ما سينزل من غيث، وذلك لأن نسبة التنزيل لنفسه -حيث قال ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾(4)- معناه أنَّ التنزيل كان فعله الاختياري، وذلك يقتضي الإحاطة بتفاصيل ما سيفعل، وقد صرَّحت الكثير من الآيات بذلك كما هو الآيتان الآنفتا الذِّكْر. إذ ان ذلك هو معنى انزاله بقدر.

إذن فعلم الله تعالى بنزول الغيث ليس على حدِّ علم الإنسان، فهو تعالى يعلم بأزمنة نزول الغيث وكلِّ أزمنة النزول الممتدة في عمود الزمان، وكان علمه بتفاصيل ذلك ودقائقه منذ الأزل، كما أنَّه يعلم بمقدار ما سينزل تفصيلاً: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(5).

علم الإنسان بما في الأرحام؟!

وأما قوله تعالى ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ﴾(6) فالمقصود منه العلم بما تكنُّه الأرحام من أجنَّة منذ نشوئها إلى حين الوضع، وليس ذلك مقتصراً على العلم بجنسها وسلامتها وسقمها بل هو علم بسماتها وخصائصها الجسدية والمعنوية، فهو يعلم على أيِّ هيئة سوف تكون، وما هي الصفات والسجايا التي سوف تكون عليها، وما هي الشؤون التي سوف تتقلب فيها، وما هي الأحوال التي سوف تكتنفها في مستقبل أيامها، وما هو المصير الذي سوف تنتهي إليه وبأيِّ سببٍ سوف يكون منتهى آجالها، وهل سيكون مستقرُّها يوم القيامة في عذاب الله تعالى أو تكون ممَّن سينعَم في رضوان الله. فأنَّى للإنسان، أن يعلم بكلِّ ذلك؟!

يقول أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة وكان بصدد تفسير قوله تعالى ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ﴾(7)، قال (ع): "فيعلم ما في الأرحام من ذكرٍ أو أنثى وقبيحٍ أو جميلٍ وسخيٍّ أو بخيلٍ وشقيٍّ أو سعيدٍ، ومَن يكون في النار حطباً أو في الجنان للنبيِّين مرافقًا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله"(8).

علم الإنسان بمستقبل الكون؟!

وأما قولكم إنَّ العلم بلغ من التقدم بحيث أصبح معه الإنسان يعلم بما سيحدث للكون بعد مئات السنين.

فجوابه أن الإسلام لم يحجر على الإنسان عقله ويمنعه من الأخذ بأسباب العلم بل ليس مِن دينٍ حضَّ على العلم والمعرفة كما هو الإسلام، فليس في تقدم علم الإنسان تحدٍّ للدِّين بل إنَّ ذلك واقع في صراط الدين وهدْيه قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ﴾(9)، وقال عز وجل ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾(10).

وقد حضَّ القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته على التأمُّل والتدبُّر والتفكُّر في أحوال الكون وشئونه وظواهره وسننه وقوانينه.

إلا أنَّه تعالى أفاد بأنَّه مهما بلغ الإنسان من العلم فإنَّه سيبقى ضئيلاً في جنب علم الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(11).

على أنَّ دعوى بلوغ علم الإنسان من التقدم حدًّا يتمكن به من معرفة ما يؤول إليه أمر الكون بعد مئات السنين فذلك لو تمّ ولم يكن حدساً ظنّياً فهو علم إجمالي يشوبه الغموض والتشويش والغفلة عن أكثر التفاصيل، وأين هذا من علمه تعالى والذي أفاد بقوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(12).

ولا أدري كيف يُجرءُ على مثل ما ادَّعيتم مَن يشهد في كلِّ يوم هذا الكون وهو يُفاجئه بأمورٍ لم يكن يرقبها من زلازل وأعاصير تجتاح دولاً يدعي أهلها الريادة في العلم.

ولو اتَّفق انْ وقفوا على بعض الأمارات الموجِبة للتَّكهُّن بوقوع شيءٍ من ذلك فإنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن دفعها بل وعن معرفة زمن وقوعها دقيقًا.

هل التقدُّم العلميّ ينافي أمر الله تعالى؟

وأمّا توهُّم أنَّ التقدم العلمي يُنافي أمر الله تعالى فيتبيَّن وهنُه مِن ملاحظة أنَّ واقع التَّقدُّم العلمي لا يعدو كونه الوقوف على قوانين الطبيعة وسنن الكون، وهو ما يُنتج القدرة بمستوىً ما على توظيفها والاستفادة منها في النتائج المشهودة، فالاستنساخ مثلاً نشأ عن اكتشاف طبيعة الوظائف المودَعة في الخلايا، وما هي الأجواء التي إذا ما تمَّت التهيئةُ لها أصبحت لها القابلية على النمو إلى أن تُصبح إنساناً أو حيواناً، فالإنسان لم يخلق النواة والخلايا ولم يخلق فيها القابلية والاستعداد للنمو والصيرورة وإنَّما اكتشف هذه القابليات والمعادلات، وحينئذٍ هيَّىء لها الأجواء التي هي مُكتشفة له أيضاً وليست مبتكرة وبذلك تحقق الاستنساخ للإنسان أو الحيوان، فبمقدار ما يتم اكتشافه من أسرار الطَّبيعة وقوانينها تكون النَّتائج، فكما أنَّ الإنسان الأول حين اكتشف أنَّ تكاثر الحيوانات وتناسلها يتمّ بالتزاوج فهيىء لذلك الأجواء لتتكاثر عنده الحيوانات التي يملكها ولم يكن ذلك منافيا لأمر الله تعالى فكذلك الحال في مثل الاستنساخ، غايته أنَّ مقدار ما اكتشفه الإنسان العصري من أسرار وقوانين الطبيعة لمَّا كان أكثر مما اكتشفه الإنسان الأول اقتضى ذلك أن تتعدد عنده سبل التكاثر لذلك قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾(13) فالتحدّي الإلهي ليس في سبل التكاثر وإنما في خلق مواد التكاثر والاستعداد الذي أودعه الله تعالى فيها للتخلق والحياة.


1- سورة لقمان آية رقم 34.

2- سورة المؤمنون آية رقم 18.

3- سورة الزخرف آية رقم 11.

4- سورة لقمان آية رقم 34.

5- سورة النمل آية رقم 75.

6- سورة لقمان آية رقم 34.

7- سورة لقمان آية رقم 34.

8- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (ع)- ج2 ص11، تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي- ج4 ص96.

9- سورة فصلت آية رقم 53.

10- سورة فاطر آية رقم 27-28.

11- سورة الإسراء آية رقم 85.

12- سورة الأنعام آية رقم 59.

13- سورة الواقعة آية رقم 58-59.