الدرس التاسع: التكبر

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

1-﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ﴾.(الجاثية:31)

2-﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.(لقمان:18)

3-﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾.(البقرة:87)

التكبُّر ودرجاته

إذا أظهر الإنسان بقول أو فعلٍ أنّه أكبر من غيره شرفاً أو جاهاً أو نحو ذلك فقد تكبّر عليه، وعدّه صغيراً، وإذا كان لا شرف ولا كرامة لشيء على شيء إلا ما شرّفه الله سبحانه وكرّمه كان التكبّر صفة مذمومة في غيره تعالى على الإطلاق، إذ ليس لما سواه تعالى إلا الفقر والمذلّة في أنفسهم، فليس لأحد من دون الله أن يتكبّر على أحد.

وللتكبّر درجات:

الأولى: التكبُّر على اللّه تعالى:

وهو أقبح وأشدّ أنواع التكبّر هلكة، وتراه في أهل الكفر والجحود، ومثاله تكبُّر النمرود وفرعون وإبليس، يقول فرعون لقومه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى﴾(1). ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾(2).

الثّانية: التكبُّر على أوامر اللّه تعالى، وهذا يرجع إلى التكبُّر على اللّه سبحانه.

ويظهر في بعض العاصين، كأن يمتنع أحدهم عن الحجّ بحجّة أنّه لا يستسيغ مناسكه، أو يترك الصلاة لأنّ السجود لا يليق بمقامه، أو لا يدخل المسجد لأنّه مكان الفقراء ولا يُناسبه.

الثالثة: التكبُّر على الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام والأولياء.

كثيراً ما كان يحصل في زمن الأنبياء عليهم السلام. قال تعالى على لسان الكفَّار المتكبّرين: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾(3).

وقال سبحانه على لسان آخرين منهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾(4).

الرابعة: التكبُّر على عباد اللّه تعالى:

وهذا النوع من التكبُّر له علائم منها: أنّ المتكبِّر يتوقّع من الناس أن يبتدؤه بالسلام، وأن لا يدخل أحد إلى المجلس قبله، وأن يجلس في صدر المجلس دائماً.

ويتصوّر أنّ على النّاس أن تقف خاضعة وخاشعة أمامه،وتعظّمه عند الحديث معه، بحيث لا يرون لأنفسهم شخصيّة أمامه، ولا يتكلّمون معه من موقع الانتقاد بل حتّى من موقع النصيحة والموعظة، فعليهم أن يُعظّموه دائماً، فهو فوق الانتقاد والموعظة والتوجيه والنصيحة!!

ومن هذا التكبُّر رفض مجالسة الفقراء، والتبختر في المشي، وأقبحه التكبُّر على العلماء الأتقياء المخلصين، بحيث لا يسمع لهم قولاً ولا يقبل موعظة ونصيحة، بل يتهكّم عليهم ويستهزئ بهم. يقول تعالى:﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد﴾(5).

ويقول أيضاً على لسان لقمان وهو يعظ ابنه﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾(6).

من دوافع التكبّر:

بعد أن تعرّفنا على التكبّر ودرجاته لابدّ من التعرّف على أسبابه ودوافعه حتّى يسهل على الإنسان اجتنابه، فمن دوافع التكبّر:

1-العمل والعبادة:

بحيث يرى العامل العابد أنّ له حقّاً على النّاس أن يحترموه ويقضوا حوائجه، ولا يُقيم وزناً لعبادة الآخرين وعملهم.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الرجل يقول هلك النّاس فهو أهلكهم"(7).

2-الحسب والنسب:

بعض من له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه علماً وعملاً، في حين أنّ الإسلام ليس فيه تفاضل إلّا بالتقوى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾(8).

وروي عن أبي ذر أنّه قال: "قاولت رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا ابن السوداء فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر... ليس لابن بيضاء على ابن سوداء فضل".

قال أبو ذر فاضطجعت وقلت للرجل: (ع): "قم فطأ خدّي"(9).

3-الجمال:

بأن يرى أنّه أجمل من سائر أصدقائه فيتكبّر عليهم، علماً أنّ الله هو الّذي أعطاه هذا الجمال ولعلّه يمتحنه به، وغالباً ما يكون هذا النوع من التكبّر بين النساء.

4- المال:

وذلك يجري بين الأغنياء حيث يحتقرون الفقراء، ومن ذلك تكبُّر قارون إذ قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾(10).

5-البنون:

ومن ذلك تكبُّر بعض الناس وتفاخرهم بكثرة أولادهم وعددهم فيحتقرون من لا أولاد له، أو من قلّت ذريّته. يقول تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾(11).

6-القدرة البدنيّة:

والتكبُّر بها على أهل الضعف، كتكبّر بعض الشباب على أصدقائه مفاخراً بعضلاته وبحجم جسمه وقوّة بدنه.

مفاسد التكبُّر وعواقبه:

إنّ لهذا الخُلق الذميم آثاراً سيّئة جدّاً وعواقب وخيمة تعرض على روح الإنسان ومعتقداته وأفكاره، وكذلك تعرض على المجتمع البشري، ويُمكن الإشارة إلى عدّة موارد منها:

1-التلوّث بالشرك والكفر:

لقد أدّى التكبّر بفرعون ونمرود إلى تكذيب الأنبياء عليهم السلام وعدم الإيمان بهم.

فعن الإمام الصادق (ع) عندما سأله الراوي عن أقَلّ درجة الإلحاد فقال له الإمام (ع): "إنّ الكبْر أدناه"(12).

وممّا وعظ به لقمان ابنه: "يا بُنيّ، إيّاك والتجبُّر والتكبُّر والفخر فتجاورَ إبليس في داره"(13).

2-الحرمان من العلم والمعرفة:

نقرأ في كلام الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم يقول: "إنّ الزرع ينبت في السَّهل ولا ينبت في الصّفا فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبِّر الجبّار، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل وجعل التكبُّر من آلة الجهل"(14).

وعن لقمان الحكيم: "إن لكلِّ شيء مطيّة ومطيّة العقل التواضع"(15).

3-مصدر كثير من الذنوب:

لو تأمّلنا في حالات الأشخاص الّذين يعيشون الحسد، الحرص، بذاءة اللسان، وغيرها، لرأينا أنّ أصل ومصدر جميع هذه الرذائل الأخلاقيّة هو التكبُّر.

فعن أمير المؤمنين (ع): "الحرص والكبر والحسد دواع إلى تقحّم الذنوب"(16).

وعنه (ع): "التكبُّر يُظهر الرذيلة"(17).

4-مصدر الفرقة:

إنّ من البلايا المهمّة الّتي ترد على المتكبرّين هو الانزواء الاجتماعي وتفرّق النّاس من حولهم.

فعن أمير المؤمنين (ع): "من تكبّر على الناس ذلّ"(18).

وعنه (ع):"ليس للمتكبِّر صديق"(19).

علاج التكبّر:

أ-العلاج العلميّ للتكبُّر:

يُمكن تصويره بأن يتفكّر الأشخاص المتكبّرون في أنفسهم أنّهم من هم وأين كانوا وإلى أين يذهبون وما هو مصيرهم في النهاية؟

ويتفكّرون في عظمة الله تعالى وضآلة أنفسهم.

ويعتبرون من التاريخ فيرون مصير الفراعنة والنمروديين والقارونيين والجبابرة من الملوك والأكاسرة والقياصرة.

فعن الإمام الباقر (ع): عليه "عجباً للمختال الفخور وإنّما خلق من نطفة ثمّ يعود جيفة وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يُصنع به"(20).

وعن الإمام زين العابدين (ع): أنّه عندما وقع نزاع بين سلمان الفارسيّ وبين شخص مغرور ومتكبِّر، فقال ذلك الشخص لسلمان:

من أنت؟ فقال له سلمان: "أمّا أولاي وأولاك فمن نطفة قذرة، وأمّا أُخراي وأُخراك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو كريم، ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم"(21).

وعن لقمان الحكيم: "يا بُنيّ، ويلٌ لمن تجبّر وتكبّر، كيف يتعظّم من خُلق من طين، وإلى طين يعود، ثمّ لا يدري إلى ماذا يصير، إلى الجنّة فقد فاز أو إلى النار فقد خسر خسراناً مبيناً وخاب"(22).

ويُروى عنه: "كيف يتجبّر من قد جرى في مجرى البول مرّتين"(23).

ب-العلاج العمليّ للتكبُّر:

أن يسعى الإنسان في دراسة سلوكيّات المتواضعين ويتحرّك مثلهم في تعامله الاجتماعي.

فاسجد لله تعالى على التراب قائلاً: "لا إله إلّا الله حقّاًً حقّاً سجدت تعبّداً لا مستنكفاً ولا مستكبراً".

وتأسّى بالنبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم فإنّه "كان يجلس على الأرض ويأكل الطعام ويقول: إنّما أنا عبد آكل كما يأكل العبد"(24).

وتأسّى بالإمام عليّ (ع) الّذي اشترى قميصين أحدهما بأربعة دراهم والآخر بثلاثة دراهم ثمّ قال لغلامه قنبر: "اختر أحدهما، فاختار قنبر القميص الّذي قيمته أربعة دراهم واختار الإمام ما كان بثلاثة دراهم"(25).

أشعار في التواضع

1-تواضع لربّ العرش علّك ترفعُ فما خاب عبدٌ للمهيمن يخضع

2-تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجوّ وهو وضيع

3-إذا شئت أن تزداد قدراً ورفعة تواضع واترك الكبر والعجبا

4-تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة فإنّ رفيع القوم من يتواضع


1- سورة النازعات، الآية: 24.

2- سورة القصص، الآية: 38.

3- سورة المؤمنون، الآية: 47.

4- سورة الزخرف، الآية: 31.

5- سورة البقرة، الآية: 206.

6- سورة لقمان، الآية: 18.

7- تنوير الحوالك، جلال الدين السيوطي، ص708.

8- سورة الحجرات، الآية: 13.

9- المحجّة البيضاء، ج 6، ص 243.

10- سورة القصص، الآية: 79.

11- سورة التكاثر، الآيتان: 1و 2.

12- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 160.

13- م.ن، ص 160.

14- بحار الأنوار، ج 1، ص 153.

15- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 63.

16- نهج البلاغة، الحكمة، 371.

17- غرر الحكم، ح 523.

18- بحار الأنوار، ج 74، ص 235.

19- غرر الحكم، ح 7162.

20- بحار الأنوار، ج 70، ص 229.

21- م.ن، ج70، ص231، ح24.

22- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 161.

23- م. ن، ص 161.

24- المحجّة البيضاء، ج 6، ص 256.

25- بحار الأنوار، ج 76، ص 310.