الدرس الثامن: مراتب الإيمان

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

1-﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران:191).

2-﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين﴾(التكاثر:5، 6، 7).

3-﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾(الواقعة:95).

تمهيد

الإيمان هو الاعتقاد، وسكون النفس وتصديق القلب، وكلّ من كان عارفاً بالله وبنبيّه وبكلّ ما أوجب الله عليه معرفته مقرّاً بذلك فهو مؤمن، والكفر نقيض ذلك.

ولكن هذه الحالة الإيمانيّة تتفاوت بين الناس وتختلف على مراتب، فمنهم من بلغ أعلى المراتب وهي اليقين، كأمير المؤمنين (ع) الذي روي عنه: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"، ومنهم من هو دون ذلك كما أشار إليه تعالى في كتابه: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾(1).

وكلّما قوي واشتدّ إيمان الإنسان استطاع أن يسلك طريق الهدى ويصل إلى السعادة بشكل أسهل وأسلم، وإذا ضعف الإيمان كان تعرّضه للسقوط في طريق السعادة والخير أكثر وأخطر. لذلك نجد الشريعة الإسلاميّة المطهّرة قد حثّت على العلم والمعرفة ودعت إلى التفكّر في خلق الله تعالى، ليزداد الإنسان إيماناً ويقوى اعتقاده، ممّا يدعوه إلى التقوى والصلاح.

فعلى الإنسان المؤمن أن يُحاول جهده أن يصعد في الدرجات ولا يكتفي بدرجات الاعتقاد الأوّليّة.

فامتحانات وابتلاءات الدنيا كثيرة، كلّما كان الإنسان قويّ اليقين كلّما خرج منها بنجاح.

فعلى سبيل المثال؛ النبيُّ إبراهيم (ع) طلب المزيد من درجات الإيمان، كما قال القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(2)، ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾(3).

وفي الحديث عن صفوان، سألت أبا الحسن الرضا (ع) عن قول الله لإبراهيم: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ أكان في قلبه شكّ؟ قال (ع) "لا، كان على يقين ولكنّه أراد من الله الزيادة في يقينه"(4).

ولقد حذّر رسول الله (ص) أمّته من ضعف اليقين، فقال: "ما أخاف على أمّتي إلّا ضعف اليقين"(5).

مراتب اليقين

وليس اليقين على مرتبة واحدة، بل له مراتب عدّة:

المرتبة الأولى: علم اليقين.

المرتبة الثانية: عين اليقين.

المرتبة الثالثة: حقّ اليقين.

كما أشير إليها في هذه الآيات: ﴿كَلاَ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ*ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾(6) ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾(7).

وكمثال لتوضيح الفرق بين هذه المراتب نقول: لو رأينا دخاناً يتصاعد يحصل لنا اليقين بوجود النار. وعين اليقين: يحصل عند رؤية النار نفسها، وحقّ اليقين: يحصل عند الاحتراق بتلك النار.

بين اليقين العقلي والقلبي

نوّد الإشارة إلى أمر مهمّ وهو لماذا نرى أناساً يقولون إنّنا موقنون بالله والآخرة، ولكنّهم في نفس الوقت نراهم ضعفاء في عملهم والتزامهم بأوامر الله ونواهيه؟

الجواب: إنّ هناك فرقاً بين اليقين القلبي والعقلي، فهذا إبليس كان موقناً بالله عقلاً ولكن لم يترسّخ يقينه في قلبه.

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ الاعتقاد والعلم مغايران للإيمان، فالعلم بالله وأسمائه وصفاته وسائر المعارف الإلهيّة الّذي يوجد فينا، مغاير للإيمان وليس بإيمان.

والدليل على ذلك أنّ الشيطان كما يشهد له الذّات المقدّسة عالم بالمبدأ والمعاد ومع ذلك فهو كافر, لأنّه يقول: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾(8) فهو إذن يعترف بالحقّ تعالى وخالقيّته، ويقول أيضاً: ﴿أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(9)، فيعتقد بالمعاد، وهو كذلك عالم بالكتب والرسل والملائكة، ومع ذلك كلّه خاطبه الله سبحانه بلفظ الكافر، وأخرجه من زمرة المؤمنين"(10).

فالمطلوب أن ينزل العلم واليقين العقلي إلى منطقة القلب حتّى يؤثّر أثره في نفس وقلب وسلوك الإنسان.

وقد فرّق بعض العلماء بين الإيمان العقلي والقلبي بمثال معبِّر، حيث مثّلوا لذلك بالإنسان الّذي ينام مع ميّت في غرفة وحدهما، فقالوا: إنّ الإنسان يعلم يقيناً أنّ الميّت لا يؤذي، ولكن يخاف أن ينام معه منفرداّ، وما ذلك إلّا لأنّ اليقين العقلي بعدم أذيّة الميّت له، لم ينزل إلى القلب.

أهميّة اليقين وثمراته

الأحاديث كثيرة في أهميّة اليقين وثمراته، نذكر بعضها:

1-رأس الدِّين وعماده:

عن رسول الله (ص): "إنّ الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كلّه"(11).

وعن الإمام عليّ (ع): "اليقين رأس الدِّين"(12).

وعنه (ع): "اليقين عماد الدِّين"(13).

2-قوّة العمل:

قال لقمان لابنه: "يا بُنيّ، العمل لا يُستطاع إلّا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعُف عمله"(14).

3- شرط العبادة:

عن رسول الله (ص): "لا عمل إلّا بنيّة، ولا عبادة إلّا بيقين"(15).

وعن الإمام عليّ (ع) "باليقين تتمّ العبادة"(16).

4-إنكار المنكر (الجهاد):

عن الإمام عليّ (ع): "... ومن أنكر (المنكر) بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، ذلك الّذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريقة ونوّر في قلبه اليقين"(17).

5-اليقين قوّة للقلب:

عن الإمام عليّ (ع): "أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين"(18).

6-سعادة:

عن الإمام عليّ (ع): "ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببَرْدِ اليقين"(19).

7-الصبر:

عن لقمان الحكيم: "الصبر عند مسّ المكاره من حسن اليقين"(20).

8-الإخلاص:

عن الإمام عليّ (ع): "إخلاص العلم من قوّة الإيمان"(21).

9-الزهد:

عن الإمام عليّ (ع): "اليقين يتمّ الزهد"(22).

10-التوكلّ والرضى:

عن الإمام عليّ (ع): "التوكلّ من قوّة اليقين"(23).

وعنه (ع): "بالرضى بقضاء الله يُستدل على حسن اليقين"(24).

1-الهداية:

وعن الإمام عليّ (ع) "هُديَ من دَرَعَ لباس الصبر واليقين"(25).

ونُلاحظ في كلّ هذه الأحاديث عندما يُطلق اليقين ويترتّب عليه هذه الآثار الجليلة، فإنّ المراد منه هو اليقين الّذي امتزج مع القلب. وهو اليقين الممدوح والمطلوب، نعم اليقين العقلي مقدّمة لهذا اليقين ومساعد على تحقّقه.

كيف نُحصِّل اليقين؟

بعد أن ذكرنا هذه الثمار المهمّة لليقين، وعرفنا ما يترتّب عليه، وأدركنا أهميّته، نسأل كيف يُمكن تحصيله؟

الجواب: يُمكن تحصيل اليقين من خلال أمور:

1-إصلاح النفس:

عن الإمام الكاظم (ع): "تعاهدوا عباد الله بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقيناً، وتربحوا نفيساً ثميناً"(26).

فإصلاح النفس وجهادها والتفكّر بما فيها من صفات حميدة أو رذيلة مذمومة يُساعد كثيراً على معرفة الهدى والرشاد، وبالتوكّل على الله ينزل هذا اليقين إلى قلبه.

2-التفكّر والتأمّل:

عن الإمام عليّ (ع): "الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد... واليقين على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأوّل الحكمة، وموعظة العبرة، وسنّة الأوّلين... "(27).

ما يُضعِف اليقين

وأمّا الأمور الّتي تؤثّر سلباً على اليقين وقد تؤدّي إلى زواله فأهمّها:

1-غلبة الهوى والشهوات:

عن الإمام عليّ (ع): "يُفسد اليقين الشكّ وغلبة الهوى"(28).

2- الحرص:

وعنه (ع): "من كثر حرصه قلّ يقينه"(29)، "الحرص يُفسد الإيقان"(30).

3-الصحبة الفاسدة:

وعنه (ع): "خلطة أبناء الدنيا تشين الدِّين وتُضعف اليقين"(31).

خاتمة

إذا رجعنا إلى أنفسنا عرفنا جيّداً، مدى خطورة الشكّ على النفس الإنسانيّة، حتّى في الأمور الدنيويّة؛ الشكّ صعبٌ على النفس، فكيف بالأمور المصيريّة، الّتي تؤدّي بنا إمّا إلى جنّة أو إلى نار.

إن لم نقوّي يقيننا وإيماننا بالمبدأ والمعاد، ستكون حياتنا صعبة قلقة مضطّربة، وآخرتنا أمرّ وأدهى.

فلنحذو حذو النبيّ إبراهيم (ع) الّذي طلب من الله زيادة الاطمئنان، أو حذو الإمام عليّ (ع) الّذي روي عنه: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"(32).


1- سورة يوسف، الآية:106.

2- سورة البقرة، الآية: 26.

3- سورة الأنعام، الآية: 75.

4- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 790، ح 22725.

5- م . ن، ج 10، ص 785، ح 22683.

6- سورة التكاثر، الآيات: 5- 6- 7.

7- سورة الواقعة، الآية: 95.

8- سورة الأعراف، الآية: 12.

9- سورة الأعراف، الآية: 14.

10- الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخميني، مؤسسة الأعلمي، ط2- 1986م، ص40.

11- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 774، ح 22629.

12- م.ن، ج 10، ص 774، ح 22612.

13- م . ن، ج 10، ص 774، ح 22619.

14- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 62، نقلاً عن البداية والنهاية، ج 9، ص 270.

15- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 776، ح 22631.

16- م.ن، ج 10، ص 775، ح 22629.

17- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 329، ح 20858.

18- م . ن، ج 10، ص 773، ح 22609.

19- م . ن، ص 773، ح 22603.

20- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 62 نقلاً عن ربيع الأبرار، ج 2، ص 524.

21- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 787، ح 22698.

22- م . ن، ج 10، ص 787، ح 22702.

23- م . ن، ج 10، ص 788، ح 22711.

24- م . ن، ج 10، ص 788، ح 22713.

25- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 789، ح 22720.

26- م . ن، ج 10، ص 790، ح 22724.

27- م . ن، ج 10، ص 789، ح 22720.

28- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 784، ح 22673.

29- م. ن، ج 10، ص 784، ح 22674.

30- م . ن، ج 10، ص 784، ح 22676.

31- م . ن، ج 10، ص 785، ح 22681.

32- عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمّد الليثي الواسطي، ص 415.